اصطخاب السكينة
صبحي حديدي
أهذا زمان ‘التهدئة’ و’الحميميات’ و’السكينة’ في الأدب الحديث، يسأل إيهاب حسن، الناقد المصري ـ الأمريكي البارز، في مقالة لامعة تسعى إلى تعميق النقاش حول إشكالية قيام العلاقات، أو انتفائها، بين الأدب والصمت، بين إفصاح النصّ أو إضمار المعنى، وبين سكينة التعبير أو صخب اللغات… المقالة حملت عنوان ‘النزعة السكونية، الآن، حميميات الأدب الحديث’، ونُشرت في عدد ربيع هذه السنة من مجلة Common Knowledge، خُصّص لهذه الموضوعة تحديداً: مصائر الفلسفة السكونية Quietism، كما بشّر بها الراهب الإسباني المتصوّف ميغيل دي مولينوس (1628ـ 1696)، والذي ساجل بأنّ أقصى الصفاء الروحي إنما يكمن في السكينة وهدوء النفس والتصعيد في عبادة الله.
كذلك فإنّ كتاب حسن الأحدث، وصدر هذه السنة عن منشورات AMS في نيويورك، حمل عنوان ‘البحث عن لا شيء: مقالات مختارة، 1998ـ2008’، وضمّ مطارحات مكثفة حول مسلمات كبرى مثل الحقيقة، والوثوق، والحلم الأمريكي، وعذابات الهوية، و’التنقيب عن براءة ثانية’. يقول، على سبيل المثال: ‘إذا ماتت الحقيقة، فكل شيء مسموح به إذاً، نظرياً. وإذا صار كلّ شيء اعتباطياً، عارضاً، ونسبياً، فلا شيء يصبح مُلْزِماً’. ويتابع، في مثال يبعث على القشعريرة: ‘أخبر الناجين من هيروشيما وناغازاكي أنّ العلم محض ‘سردية’ أخرى. رجل يدعى اينشتاين، كتب على السبورة e=mc2، فكانت النتيجة احتراق مدينتين إلى رماد. أهذه سردية؟’…
كلا، أغلب الظنّ! وحسن يواصل إجراء سلسلة التنويعات على مبدأ نقدي متماثل يساجل بأنّ السمة المركزية في الأدب الحديث (أو ما بعد الحديث في الواقع) هي العدمية الراديكالية، في مسائل الفنّ والشكل واللغة. وهو لا ينطق عن خفّة، أو استخفاف، لأنه (وقد ولد في القاهرة عام 1925، وهاجر إلى الولايات المتحدة عام 1946 حيث يقيم ويعمل في تدريس الأدب بعد أن تخلى عن الهندسة، اختصاصه الدراسي الأصلي) يحتلّ موقعاً متميزاً تماماً، سواء على الصعيد الأكاديمي الأمريكي والعالمي (إذْ حاضر ودرّس في قارات العالم الخمس)، أو على صعيد النظرية والدراسات النقدية.
ومنذ عام 1961، تاريخ صدور كتابه الأول ‘البراءة الراديكالية: دراسات في الرواية الأمريكية المعاصرة’، أسهب حسن في تبيان خصائص ‘أدب الصمت’ الذي ‘يدور حول نفسه، وينقلب على نفسه، لكي يعلن الرفض التام للتاريخ الغربي، ولصورة الإنسان كمقياس للأشياء جمعاء’. وفي هذا السبيل ذاته، صدر كتابه الثاني ‘أدب الصمت: هنري ميللر وصموئيل بيكيت’؛ ثم كتابه الأشهر ربما: ‘تقطيع أوصال أورفيوس: نحو أدب ما بعد حداثي’ (1971)، حيث اقترن مصطلح ‘ما بعد الحداثة’ باسم حسن، على نحو ريادي.
وفي الإجمال كانت النتائج تنتهي بهذا الأدب إلى: الإغتراب عن العقل والمجتمع والتاريخ؛ واختزال جميع الإلتزامات الطبيعية أو المختلَقة، المفروضة في عالم البشر؛ واستثمار حالات الذهن القصوى، بما في ذلك الإنفصال عن الطبيعة، أو اللجوء إلى الأنماط المنحرفة من الميول الحيوية والإيروسية؛ وسلخ اللغة عن الكلام اليومي، بما ينطوي عليه ذلك من تحريف الأفكار التقليدية بخصوص الشكل؛ واخيراً، مناهضة كلّ ما يتصل بمبادىء مثل ‘السيطرة’، و’الحكمة’، و’الثبات’، و’النسق التاريخي’.
وفي دراسة رائدة بعنوان ‘نحو مفهوم لما بعد الحداثة’ (شهيرة ومثيرة، منحته سلطة التنظير للتيّار بأسره)، حاول حسن تقديم تخطيط مدرسي توجيهي وتجريبي لظاهرة ما بعد الحداثة، وجهد في توسيع نطاق هذا التخطيط المقارن مع الحداثة، فرسم موشوراً عريضاً من الأسماء والتيارات والأساليب… لكي يتجنّب ـ على الأرجح ـ المهمة العسيرة المتمثلة في اعتصار تعريف ما، لحركة عجيبة غريبة. والنزاهة التاريخية تقتضي التذكير بأن الفرنسي جان ـ فرانسوا ليوتار، الذي يتفق الكثيرون على اعتباره فيلسوف ما بعد الحداثة الأوّل، كان قد اعتمد على أعمال حسن في إقامة معظم دليله الثقافي. والكثيرون، قبل حسن وبعده، بذلوا محاولات مماثلة لا تقلّ نزاهة ومشقة وحيرة، ولكنها لا تخرج في الجوهر عن المعيار الذي طرحه الرجل في صدر مقالته، على هيئة تساؤل أقرب إلى علامة تعجّب: ‘هل في وسعنا حقاً أن نتصوّر ظاهرة، تعمّ المجتمعات الغربية إجمالاً وآدابها خصوصاً، فتحتاج إلى ما يميّزها عن الحداثة، وتحتاج إلى تسمية’؟
وفي عمل صدر سنة 1995 بعنوان ‘إشاعات التغيير: مقالات خمسة عقود’، كان أقرب إلى السيرة الفكرية ـ الذاتية، عالج حسن إشكالية التنظير النقدي متكئاً على الروائي الأمريكي هنري جيمس، الذي اعتبر أن النظرية الأدبية ُتجابَه أوّلاً بتهمة السخف، ثم تُقبَل بعدئذ إما لأنها صحيحة أو لأنها باتت واضحة، وأخيراً تصبح شديدة الأهمية إلى حدّ أن خصومها القدماء ينسبون إلى أنفسهم فضل اكتشافها أوّلاً. ويعلّق حسن: ‘ما البدائل عن النظرية المعاصرة، وعن الإيديولوجيا، وعن خطاب ما بعد الحداثة، بكلّ استفزازاته وموارباته؟ لا شيء، كما أعتقد، وليس في المدى الأعرض على الأقل’.
كان الاعتراف بالغ الدلالة، خصوصاً حين أتى من أحد الآباء المؤسسين لمصطلح شاقّ عسير، وحين يُستكمل اليوم باتكاء على الصمت واللا شيء تارة، أو على السكينة والسكون طوراً، رغم كلّ ما يعتمل من صخب وعنف في جنبات تاريخ معاصر، لا يكفّ عن إنتاج السرديات الملتهبة!
خاص – صفحات سورية –