أصابع ملجومة
خيري منصور
لم يكن اللجام والشكم يوماً حكراً على اللسان فقط، فالأصابع أيضاً تعاني أحياناً من لجام آخر، قد لا يكون مرئياً لكنه يحجب قدراً من الصهيل كما يحدث للخيول وهي تعلك الحديد .
والحرية كانت منذ البدء وسوف تبقى بنسبية، فهي ليست مطلقة وغير قابلة لمثل هذا الإطلاق كي لا يختلط حابلها بنابل الفوضى، لكنها تتمدد وتنحسر كموج البحر في مواسم معيّنة، وثمة فترات أصابت حرية التعبير بالجزر، فيبقى على الشطآن شيء آخر متحجر غير الأسماك والكائنات البحرية، إنه الكلمات ذاتها بعد أن فقدت سحرها ونفوذها لأنها جاءت بعد الأوان، ولا قيمة لشهادة أو موقف يأتي بعد انقضاء زمانه والحيثيات التي أحاطت به، حتى لو ترتب على ذلك إعادة اعتبارات أو سلبها بأثر رجعي، لأن ضحايا الصمت أو شهادات الزور يكونون عندئذ قد خسروا فرصتهم .
كان الشاعر الراحل نزار قباني يقول إن الرقابة أحياناً تقيم كمائنها على عقد الأصابع أو تحت اللسان، فهي حين تشتد وتصبح مناخاً سائداً لا ينجو منها شيء، حتى الشجر يصبح متردداً في إيصال أنساغ الحياة من الجذور إلى العناقيد، والغيمة أيضاً تحتقن ولا تمطر وتمضي إلى فضاء آخر، لكنها لا تعود كما طلب منها هارون الرشيد ذات ربيع عباسي .
لجام الأصابع ليس من حديد بل من حرير، وبالمناسبة فإن خيط الحرير الذي كان يشنق به من يحكمون بالإعدام في زمن الأباطرة الغابر هو أقوى الخيوط لأنه لا ينقطع، وهذا اللجام يدفع الأصابع المختنقة والراجفة هلعاً إلى التريث عند كل كلمة أو حرف، سواء خشية من التأويل أو احترازاً من فقه النميمة والاستعداء، وقد لا يذكر الناس تلك الحكاية النادرة عن مدرس كيمياء عربي حوكم في فترة التتريك لأنه استخدم رمز الماء وهو د2ب، وكان أحد العسس قد كتب تقريراً عنه قال فيه إنه يقصد بهذا الرمز حميد الثاني ويقول إنه صفر .
وفي تاريخنا ثمة أمثولات تستحق المراجعة والتأمل عن مثقفين وشعراء وفقهاء أساء المتربصون بهم تفسير أقوالهم فواجهوا مصائر مأساوية، وحين أعيد إليهم الاعتبار كانوا قد تحولوا إلى رميم في قبورهم وفات الأوان .
الأصابع أكثر من مجرد مفاتيح، فهي تشهد وتدين وتكتب وتنحت وترسم وتعزف وتضغط على الزناد، وقد يشتد اللجام على إصبع الزناد أو إصبع الشهادة عندئذ تصبح الجمل أشباه جمل، وقد يأتي المبتدأ لكن بلا خبر، فلا ندري من هو القاتل ومن هو القتيل ومن هو الفاعل أو المفعول به أو لأجله في هذا النحو الأعمى .
ولو قام باحث عربي برصد حالات اللجم التي تشكم الأصابع لوجد أن المسكوت عنه والمستور في واقعنا أضعاف المكتوب أو المنطوق، ولأن لغتنا إمبراطورية مترامية الأطراف في المجازات والبلاغة والاستعارة وفنون الاستدراك، فقد أتاحت لنا جميعاً أن نحلّق عالياً فوق واقعنا وما يطلب منا التعبير عنه، بحيث لا نرى إلا مصغرات، فالعمارات الشاهقة تصبح مجرد علب كبريت أو لعبة “ليغو”، والبحر الهائج يتحول إلى بحيرة أو حوض، والمجزرة تبدو كما لو أنها تحدث في حاضنة دجاج، وليس في لحم الناس ودمائهم .
الخليج