صفحات ثقافية

كتاب الليالي وسوء التفاهم

null
الياس خوري
في اللحظة التي يطرح فيها موضوع كتاب ‘ألف ليلة وليلة’ على النقاش في الثقافة العربية، تبرز مجموعة من علامات الاستفهام، ويعم سوء التفاهم.
تبدأ الأمور من سؤال استشراقي خاطئ عن سبب اكتشاف العرب لكتابهم العظيم، بتأثير من ترجماته الى الفرنسية والانكليزية، وتصل في بعض الأحيان الى حد الاقتناع بأن ترجمات الكتاب أجمل من أصله العربي، وتبقى في أفضل الأحوال عند حدود الافتراض الشائع عن شراء الحياة بالحكاية، متجاهلة العمق الروحي والفلسفي لكتاب كان ولا يزال المصدر الرئيسي للسرد الروائي في الأدب الحديث.
ما يسمى الاكتشاف الغربي للكتاب منذ صدور ترجمة أنطوان غالان الى الفرنسية ليس خاطئا، فالكتاب أحدث بعيد ترجمته الفرنسية ارتجاجات ثقافية كبرى، سوف تتجاوز بعد الافتتان الاكزوتيكي بالشرق، لتدخل في بنية السرد الروائي، جاعلة من الليالي مرجعا في الثقافة الغربية. قرية أنطوان غالان الفرنسية أقامت تمثالا للمترجم، واحتفت بانجازه الذي كان تحريرا للخيال. غير أن تحويل هذا الاكتشاف الى أساس لمعرفة العرب بتاريخهم الأدبي، تبدو مسألة مفتعلة وتتجاهل حقيقة أن الكتاب عاش مئات السنين في الذاكرة الشعبية، الى درجة انك حين تقرأ الكتاب للمرة الأولى تشعر انك تعيد القراءة، لأنه جزء من ذاكرتك الشفهية. صحيح ان الكتاب لم يدخل في الأدب ‘المعتمد’ إلا في العصر الحديث، غير ان السؤال يجب ان يتوجه الى ‘المعتمد’ الأدبي الذي فقد نصابه خلال قرون طويلة، واستولت عليه التقنيات المتحذلقة للمقامة، وليس الى مبنى الثقافة العربية.
لذا ليس غريبا أن يبدأ مسرح أبي خليل القباني بحكايات الليالي، ثم يتحول الكتاب مع توفيق الحكيم وطه حسين وسيد قطب الى ارض تأويل مع بدايات الحداثة، ليصير مع الرواية العربية المعاصرة أفقا وإطارا.
كي نقرأ التحوّل الذي يحمله الكتاب، علينا ان نضعه في إطار الانقلاب الجذري الذي أحدثه على الترسيمة التي سادت قرونا طويلة على الشعر العربي، ووصلت الى ذروتها مع المتنبي، وهي الترسيمة الثلاثية التي تضم الشاعر والنبي والملك.
تستند هذه الترسيمة التي بدأت ملامحها الأولى في حكاية امرئ القيس، الى بنية تأسيسية قائمة على المثنى، وتجد مرجعها الأول في معلقة الشاعر- الملك، حيث وقف واستوقف، معلنا ان العلاقة بين الشاعر والطلل هي انعكاس لعلاقة الشاعر بذاته المنكسرة الى نصفين.
والمثنى في الشعر العربي ليس مثلما يفترض بعض اللغويين مجرد صيغة قديمة للجمع، بل هو بنية تأسيسية ترسم إطار انقسام الأنا، ورؤية الى علاقة الإنسان بظله واحتمالاته. هذه البنية سوف تستخدم من اجل بلورة صورة الشاعر في وصفه نبيا وملكا او ساعيا الى الملك. أوصل المتنبي هذه الترسيمة الى ذروتها جاعلا منها مرجعا سوف يحتل الذاكرة الأدبية ويستمر حتى زمن الحداثة.
قطع كتاب الليالي مع هذه الترسيمة. استند أولا الى المثنى، وقدم اقتراحا مضادا لدلالاته، معيدا إياه الى صورة انقسام الأنا. ثم قام بانقلاب لغوي، فكسر اللغة الذهبية بلغة الحياة المعيشة، مستبدلا الشعر بالنثر، من دون التخلّي عن الشعر، الذي صار احد عناصر تلخيص الحكاية واكتشاف دلالاتها، ونجح في بناء النص الأدبي كحيّز للصراع مع السلطة، وليس لمدحها او التماهي معها او السعي إليها، ووصل أخيرا الى ما يمكن تسميته بالأدب الدنيوي، وهو ليس استمرارا لصراع الشعر مع الدين في شكل صريح او موارب، بل هو بناء لحيز دنيوي كامل منفصل عن الحيز الديني، او الطموح النبوي.
هذه العناصر المتعددة تتجلى من خلف البناء القصصي السلس والممتع، لتعلن نمطا ادبيا جديدا، نما مع نمو نثر سردي آخر عرف باسم قصص الأنبياء، وحمل عناصر العجيب والغريب نفسها، لكنه بقي في الإطار التقليدي.
يبدأ الكتاب بالمثنى: الملكين الأخوين: شهريار وشاه زمان، والشقيقتين: شهرزاد ودينا زاد، والمثنيات الأخرى التي تنتشر في كل الكتاب. يتألف المثنى من شقيقين او شقيقتين، او من شخصين يحملان الاسم نفسه. ولعبة الشخص وظله ليست ذريعة للكلام فقط، بل هي لعبة مرايا، سوف تتحول من خلال بناء الحكايات الى غابة من الاستعارات، ومن الإحالات التي لا تنتهي، والى عالم يتوازى مع مراياه.
لكن المثنى يتخذ منحى جديدا في العلاقة بين شهرزاد وشهريار، هنا يصير المثنى ميدانا للصراع المفتوح بين المعرفة والسلطة. الأدب في وصفه أنوثة العالم يستعير صوت الأنثى التي تروي، في مواجهة ذكورة السلطة ووحشيتها.
شهرزاد هي مرآة العالم وصانعة مراياه، انها ليست صورة نمطية عن المرأة الذليلة الخانعة الخائفة، بل هي سلطة المعرفة في مواجهة جنون سلطة القمع. إنها إطار لمرايا الذات وقد اتسعت، وللراوي الذي ينزاح عن مركز الرواية، ويفتح الأبواب لرواة يتعددون بتعدد القصص، وتنوع الحكايات.
لا تكتفي شهرزاد بتحدي سلطة الملك عبر غوايته، بل تترك للحكايات أن تتوعد وتهدد السلطة بالموت. كل حكاية هي استعارة للحكاية التي سبقتها، وعندما يقدّم الحكيم دوبان كتابه الأبيض الخالي من الكلمات الى الملك، فهو يعلن ان الصفحات البيضاء تعني ان القاتل سوف يموت لحظة اعدام ضحيته.
انزياح الراوي عن السيطرة على الحكاية، يؤشر الى أفق الأدب الدنيوي الذي يفتتحه هذا الكتاب، تعدد الرواة يعلن عدم وجود حقيقة واحدة. الكتاب ليس استكمالا لمعركة الشعر مع الدين، او لانزياح الشعر عن الاقتراب من الدين، بحسب قدامة بن جعفر، بل هو إعلان بأن الدنيا تصنع حكاياتها من مادتها الدنيوية، وان لا مرجع للحكاية سوى في الحكاية التي سبقتها او في الحكاية التي ستليها.
هذا الأفق الشاسع الذي فتحه هذا الكتاب، هو ابن المخلية الأدبية، لذا لم يعرف حدودا جغرافية، ميدانه هو العالم المعروف في زمنه، من الصين والهند الى مصر والعراق، وأفقه هو التجربة الإنسانية المصنوعة من واقع صار خياليا ومن خيال دخل في نسيج الواقع.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى