مرايا لبلاد ذهبت إلى غيابها: نرى الصيحة. أين الفم؟
فاروق يوسف
لمَ لا تزورني؟ صدقتُ أنك أعمى فقررت أن أكون عصاك. البلدة التي أسكن في ضواحيها غاصة بالحدائق. تحيطنا غابة من كل الجهات. وفي محيط الغابة هناك بحيرات كثيرة. إنه مكان مناسب لكي نقضي معا وقتا طيبا كما كنا نفعل على شاطىء دجلة من جانب الكرخ يوم كنا صغارا.
ستجعلني مسرورا لو أنك تحدثت عن الرسم كما تراه وأنت أعمى. البحريني ناصر اليوسف لم يتوقف عن الرسم حين فقد بصره. لقد رأيت الرجل بنفسي. كان يلمس الورقة بحنان ورهافة واطمئنان عميق وبثقة من يلمس شيئا يعرفه. الأشكال التي صار يستخرجها من أعماق الورقة هي انعكاس لما يراه وهو مغمض العينين. قبل اختراع العالم كان الرسم. العالم نفسه كان يقيم هناك أيضا. في الدخان ومن بعده في الماء. فكرة الخلق بدأت هناك. في عمق البحيرة ترسم الأسماك الذهبية متاهة. أمد يدي فتُمحى. ما من أثر ليدي في الماء. سيخيل إليك أني لم أمد يدي. ذلك لأن تلك اليد المفقودة لم تعد يدي منذ أن التهمتها الأسماك. يدك تفعل الشيء نفسه حين تمتزج بتضاريس سطح اللوحة حين ترسم. لم أصور يد ناصر اليوسف وهي ترسم. الآن أشعر بالندم. كان الادريسي يمحو صورة الأرض كما يراها ليستخرج من البياض حدودا لصورة غامضة لم يرها أحد إلا بعد قرون. اليد تتخيل. يد الأعمى تفعل المعجزات.
2
لن أتركك واقفا وحدك هناك في الحديقة الباردة، بين شجرتي ورد مثل غريب. أنت لا تعرف الطريق المؤدي إلى الباب الخلفي الذي يقود الى المطبخ. ربما كنت جائعا. خيل إلي أنك تشم رائحة باطن القدر الذي قلبت منه الدولمة. تقول لي أن كلمة (داطلي) تسحرك وتأخذك إلى طفولتك. هل هي كلمة تركية؟ لقد أخبرتني أنك بعد كل الفشل الذي شعرت به وأنت تحاول التعرف على اسماء بعض ازقة بغداد تفضل أن لا يراك أحد بوجهك الحقيقي. لم تقل الحقيقي بل قلت الواقعي. ذلك لانك صرت تشك بانك ستتعرف عليهم. اقترحت علي أن اجلب لك قناعا لتضعه على وجهك. لا بأس. على الرغم من أنني أعرف أن لا أحد في إمكانه أن يراك بعد أن انقلبت إلى كائن غير مرئي. هل تصدق أن مونخ رسم انسانا يصرخ؟ اين هو ذلك الانسان! لا أحد يراه. نحن لا نرى إلا صيحة. أنت أشبه بتلك الصيحة. الصيحة التي تقع قبل النظر. من يراك فانه لا يرى منك إلا ما يجعلك ممتزجا بالهواء مثل ذكرى عطر قديم. هل ترغب في أن أهبك قناع عبد الأمير الحصيري؟ شاعر شاب هرب من النجف إلى بغداد ليضيع في ابخرة الكحول. أم أضع على وجهك قناع عبد المحسن السعدون، القادم من الناصرية لينهي حياته في بغداد بالانتحار وليكون أول وآخر سياسي عراقي يعترف بالفشل؟ ولكنني أشفق عليك من قناع رجل ميت. ستذكرني بحريتك. ستقول لي: ‘سأروي لك ما حدث لي يوم وقفت بين مرآتين: واحدة جعلتني طويلا جدا وأخرى أظهرتني قزما. اليك الحكاية’.
3
اصطحبني أبي ذات يوم إلى معرض بغداد الدولي. في احد الأجنحة رأينا جمهورا غفيرا وسمعنا ضحكا. حين دخلت إلى ذلك الجناح رأيت مرآتين متقابلتين يقف المرء أمامهما في الوقت نفسه. حين وقفت هناك ظهرت في واحدة منهما عملاقا هزيلا فيما ظهرت في الثانية قزما بدينا. أما وجهي فلم يكن له أي اثر في المرآتين. يومها فكرت لو يتاح لي الوقوف أمام مرآة يكون في إمكانها أن تظهرني وأنا في الخمسين من عمري. كنت أسخر من نفسي من خلال تلك الامنية اليائسة. ذلك لأني كنت على يقين من أني لن أعيش حتى سن الخمسين. كان الزمن يومها بطيئا. انتظر ساعتين في ساحة الميدان ولا يزال النهار في أوله. لم أدرك يومها أبعاد اللعبة التي لم اكتشفها إلا بعد سنوات. لقد صرت أتعثر بالمرايا اينما ذهبت. مرة أراني قزما وأخرى أراني طويلا. أتذكر أنهم في المعرض نفسه أعلنوا عن جائزة لمن يحمل في جيبه فلسا. خيال عميق ومتمرد صنع صورة لفرد لا يملك من دنياه سوى ذلك الفلس الذي سيحلق به ثريا. ‘الفلس اساس الملك’. قلت لأبي ضاحكا فرأيت مسحة من غضب في وجهه. ‘تقصد العدل’ قال لي والتفت إلى المرآة وهو يردد ‘الى يوم يُبعثون’ لم أسأله يومها: ‘من هم؟’ كنت أفكر بصورتي يوم أصبح في الخمسين.
العراق بلد حار. شمسه تذيب المرايا. ‘أتعني أني لن أجد مرآة هناك بعد كل هذا الغياب الطويل؟’ غالبا ما لا يحب المسنون النظر إلى المرآة. المرضى يلمسون وجوههم ليروها بأصابعهم. الغائب لا يفكر في النظر إلى وجوه أحبته حين يعود. لا يرى الجائع صورة للقمته المتخيلة. الذئب يتخيل فريسته. الصائغ لا يرى الذهب بعينيه. ‘يجعلني الذئب أفكر بذاكرة المرآة. أنظر إلى المرآة فأرى صورة الشخص الذي مر بها قبلي. ذلك الشخص الذي صار يقيم هناك. مثلما سيحدث لي تماما. نلتقي هناك لنصبح جزءاً من مواد مهملة ترقد في قعر الخزانة’ ولكن الموتى يحلمون أيضا؟ أتذكر. لقد قلت لي ذات مرة جملة استفهامية من هذا النوع. الموتى لا يحتاجون إلى النظر إلى المرآة حين يحلمون، فهم يقيمون في عمق مرآة الله. المرآة التي يمتزج فيها ما يُبصر بما لا يُبصر. حياة تشبه الرسم، بل تقلده بما يجعلها صورة منه. تمد يدك إلى عشبة فتلتقط شمسا صغيرة. تلهو بكرة زجاجية صغيرة لتكتشف أن أصابعك تتوسد ريش حمامة. تلمس الناي فينطلق ثغاء خروف. ‘عدنا إلى المحو ثانية’ يا صديقي الهمس يجلب الغابة. كنت تريد أن تحلق قريبا من الأرض. تقول لي: ‘بطانية من فتاح باشا وصوبة علاء الدين تكفيان لقضاء شتاء سري’ أحدثك عن حمام شعبي كان يملكه والد أحد زملائنا. كنا نذهب إلى هناك لنرسم. العري مجاني إلى درجة الابتذال. الرطوبة تذيب قدرتنا على السيطرة على أجسادنا. تبتل أوراقنا ويسيح الحبر. نشرب الشاي قندغاغ ونلتهم النارنج وننظر خلسة إلى أعضاء جنسية متناثرة تبرأت منها الأجساد التي تحملها وبرأت هي من خيال حامليها. لها خيالها الخاص الذي يتحكم باتجاهاتها مثلما تفعل البوصلة.
4
أتذكر لوحة من الخمسينيات تصور امرأة برداء أحمر وبيدها مرآة. هل كانت للورنا سليم أم لأخت جواد نزيهة؟ لست متأكدا الآن. في تلك السنوات لم يكن الزمن مضغوطا مثل طعام رواد الفضاء. نذهب إلى قاعة الشعب المجاورة لوزارة الدفاع لنستمع إلى الموسيقى السيمفونية. نحرص على أن نرتدي الاربطة ونلمع أحذيتنا. في الاستراحة نخرج إلى قاعة الاستقبال لندخن كما يفعل كبار القوم الذين كانوا يستغرقون في الحديث عن تقنيات العزف التي لم نكن نفهم منها شيئا. يغمز بعضنا للبعض الآخر في اشارة إلى أن كل ما يقال ما هو إلا حذلقات. لم يكن حكمنا ذلك ليعبر إلا عن حسدنا وغيرتنا. كان جمال نسائهم يقهرنا وأناقتهن تربكنا. ذات مرة انفجر أحد زملائنا بالضحك حين ذكرته إحدى حركات المايسترو بالاسد الذي ظهر في أحد أفلام الكارتون قائدا للفرقة السيمفونية. يومها حدثت فضيحة لم نعد بعدها إلى قاعة الشعب. أعود إلى لوحة المرأة والمرآة. بَعُد الزمن. خيال تلك الصورة يكبر فيما المرآة تتسع. المرأة لم تعد هناك. البلاد كلها غادرت. لا تزال لورنا حية كما أتوقع. الفتاة التي عاد بها جواد سليم إلى بغداد من لندن باعتبارها زوجته تركت ذكرى خالدة. امرأة نحيلة بثياب متقشفة فاتنة في أناقتها. نجحت لورنا في رسم امرأة بغدادية تصلح لتكون رمزا لجمال لا يفنى. بالنسبة لي فقد كانت تلك المرأة تشبه كل النساء اللواتي أحببتهن. ربما توهمت ذلك الشبه أو أنني كنت أبحث عن المرأة التي تعود بي إلى ذلك النموذج. حدث لا يمكنني التكهن بمعانيه الآن. غير أن روح تلك المرآة ظلت تحرس خطواتي وأنا أقع في الغرام بين لحظة وأخرى.
شاعر وناقد من العراق يقيم في السويد
القدس العربي