مستودعات برلسكوني
صبحي حديدي
‘أشعر أنني واقعة في مصيدة. أحاول متابعة حياتي كالمعتاد، لكنه يقتفي أثري أينما توجهت. على أريكتي، أو عندما أشغّل كومبيوتري، أو في مكتبي. هو المهيمن على النقاش كلّه. حاضر في الصباح، حين أحتسي كوب الكابوشينو داخل مقهاي المفضّل في روما، حيث تصنع حكاياته تعليقات الزبائن وتطلق نكاتهم. إنه حاضر في أمسيتي مع الأهل، حين يخرجون عن مزاجهم المحافظ فيسألوني: هل يتوجب القيام بثورة؟’…
المرء، عند قراءة هذه الفاتحة من مقالة الصحافية الإيطالية البارزة ماريا لورا رودوتا، لا يملك إلا الوقوع أسير التشويق والتكهن حول طبيعة هذا المهيمن الحاضر، وما إذا كان كابوساً ميتافيزيقياً أم مصيبة مزمنة أم كائناً حياً، قبل أن ترأف رودوتا بحال قارئها فتقطع ترقّبه وتعلن الاسم: سيلفيو برلسكوني، رئيس الوزراء الإيطالي، بطل سلسلة الفضائح المتعاقبة، التي بلغت أحدث وقائعها مستوى خداع رئيس الشرطة للإفراج عن صبية متهمة بالسرقة (تفادياً لأزمة دبلوماسية لأنها، حسب كذبة برلسكوني، حفيدة حسني مبارك!)؛ أو نقل الحشيش المخصص لليالي برلسكوني الملاح، في الطائرة الرسمية لرئيس الوزراء.
قبل رودوتا، التي تولت رئاسة تحرير المجلة النسائية ‘أميكا’، كانت ماريا لويزا بوسي، مذيعة الأخبار الشهيرة في التلفزة الحكومية الإيطالية، قد قدّمت استقالتها احتجاجاً على عدم استقلالية نشرات الأخبار، وانحيازها إلى برلسكوني، وتسترها على فضائحه المالية والأخلاقية. بوسي أشارت بإصبع الإتهام إلى أوغستو منزوليني، مدير التحرير، الذي كان قد عُيّن بقرار شخصي من برلسكوني، وفصّلت القول في طبيعة الضغوطات التي يمارسها على العاملين، والتي أسفرت عن هبوط مريع في مستوى النزاهة المهنية.
وقبل استقالة المذيعة ومقالة رئيسة التحرير السابقة، كان وزير الثقافة الإيطالي ساندرو باندي قد استقال ذاتياً، إذا جاز القول، من واجب الحياد التامّ إزاء حرّية التعبير، وذلك حين قرّر مقاطعة مهرجان كان السينمائي الفرنسي الشهير، احتجاجاً على عرض الشريط الإيطالي ‘دراكيلا، حيث ترتجف إيطاليا’. صاحبنا اعتبر أنّ الشريط ينطوي على ‘إهانة للحقيقة وللشعب الإيطالي بأسره’، ولهذا فإنّ وزارته قاطعت المهرجان، وهو شخصياً رفض تلبية الدعوة لحضور حفل الإفتتاح.
أمّا حقيقة الأمر فهي أنّ صاحبة الشريط، المخرجة السينمائية سابينا غوزاني، تُعدّ من أشدّ نقاد برلسكوني، وأبرعهم في استخدام الفنّ السابع لكشف مباذله وفضائحه، وسبق لها أن وقعت ضحية الرقابة الحكومية، فمُنع شريطها ‘عاش ثاباتيرو’ من العرض على شاشات التلفزة الحكومية. عملها الأحدث، الذي أثار سخط الوزير، يكشف النقاب عن تقصير حكومة برلسكوني في تنفيذ أعمال الغوث أثناء الزلزال الذي ضرب مدينة أكويلا، وأوقع 308 قتلى، وخلّف 80 ألف مشرّد (ومن هنا الطباق في العنوان، بين دراكيولا وأكويلا).
والحال أنّ برلسكوني، إلى جانب منصبه كرئيس للوزراء وزعيم حزب ‘شعب الحرّية’ الذي يقود الائتلاف الحاكم في إيطاليا، يملك شخصياً ثلاث أقنية أرضية من أصل سبع، وهو بالتالي يبسط نفوذاً واسعاً على الحياة الإعلامية، في القطاع الخاص والحكومي. ولعلّه النموذج الأوضح، والأشدّ ابتذالاً، لاندماج المال بالسياسة، وتحكم الأعمال بصناعة الرأي العام، حتى في غمرة سلسلة متواصلة من الفضائح المدوية، على اختلاف ضروبها.
لكنّ معادلة برلسكوني السياسية والأخلاقية لم تنهض على الغشّ والخفّة واقتناص الأرباح السريعة الرخيصة، فحسب؛ بل قامت أيضاً على الغطرسة والعنصرية والتحقير الثقافي والحضاري للآخر غير الإيطالي وغير الغربي عموماً، وللعربي والمسلم بصفة خاصة. خطابه في هذا يصدر عن أحد أسوأ نماذج انحطاط الديمقراطية الغربية، حين يُتاح لرجل الأعمال وأغنى أغنياء إيطاليا أن يشتري السياسة بالمليارات، وأن يمارسها تماماً كمَنْ يعقد صفقة شراء نادٍ لكرة القدم. وذات يوم غير بعيد نطق برلسكوني بما كان يعتمل في صدور رهط واسع من الساسة وصانعي القرار والخبراء والمعلّقين في الغرب، إذا وضعنا جانباً المشاعر الدفينة في نفوس ما تطلق عليه العلوم الإجتماعية أسماء ‘الدهماء’ أو ‘الشارع’ أو ‘السواد الأعظم’.
فارق برلسكوني أنه تجاسر على النطق في أزمنة جعلت الآخرين يجنحون إلى الكتمان أو اللغة الدبلوماسية أو الألعاب اللفظية، كأن يردّد الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش تعبير ‘الحملة الصليبية’ ثم يتراجع عنه حرصاً على مشاعر المسلمين؛ أو أن يختار البيت الأبيض للعمليات العسكرية في احتلال العراق تسمية ‘عدالة لانهائية’ ثمّ يستبدلها سريعاً بتسمية أخرى لا تخلط بين عدالة الأرض وعدالة السماء… كرمى لمشاعر المسلمين هنا أيضاً!
برلسكوني قالها صريحة جلية صفيقة: ‘حضارتنا متفوّقة على حضارتهم، ولهذا ينبغي على الغرب، استناداً إلى تفوّق قِيَمه، أن يُغَرْبِن ويغزو شعوباً جديدة’. هكذا، ببساطة: نخضعهم لقِيَمنا لأنها الأفضل للإنسانية، ونغزوهم إذا تعثّر إخضاعهم في حروب القِيَم. ولكي يضرب أمثلة من العالم المحسوس، وليس العالم الإفتراضي وحده، استذكر برلسكوني أنّ ‘الغرب فعلها مع العالم الشيوعي ومع جزء من العالم الإسلامي، ولكن للأسف مع جزء من العالم الإسلامي يعود إلى 1400 سنة خلت’!
وهكذا فإنّ المصيدة التي تتخبط فيها الصحافية والمذيعة، إسوة بالوزير الإمعة وأمثاله، هي مستودع تلك ‘القِيَم’ الحضارية، إسوة بمستودعات شقيقة تضمّ أموال وأقنية وحشيش برلسكوني!