مفارقات الفكر وشراكة الكتابة
عادل حدجامي
في لقاء حضرته مؤخرا، تدخل أحد الحاضرين ليعبر عن موقف مباشر مما عرضه بعضنا و هو أنه “لم يخرج مما قلناه بنتيجة”، فنحن معشر “المتفلسفة” المعاصرون نتحدث في قضايا لا يعرف لها القارئ أو المستمع رأسا من ذنب. نتحدث دون منهج و لا غاية محددة وهو ما يجعل التواصل والاستفادة ممتنعة عن المتلقي لكلامنا وهذا أمر، في نظره، متعارض مع غاية المعرفة في ذاتها، فالمحاضرات وضعت لأجل تحقيق فائدة للمتلقي وإلا لا داعي لأن يضيع القارئ أو المستمع جهده فيها.
والحقيقة أن ما أشار إليه هذا المتدخل أمر واقع، فقد يحصل أحيانا أن نتحدث نحن الذين نعتبر أنفسنا كتابا دون أن نزود قارئنا بشيء، بل هذا أمر قد يحصل لنا نحن أنفسنا، فأنا شخصيا في أحايين كثيرة عند قراءتي لبعض المفكرين المعاصرين، إذ أحس، بعد طول قراءة وتدبر، أنني لم “أربح” شيئا، اللهم تشويشا وتتويها في سراديب ما كنت أظن أنني سألجها ابتداء.
في تفسيري الخاصّ لهذا الأمر، أجد أنّ المتلقي والمتحدّث أو الكاتب بالمعنى المعاصر للكلمة ينطلقان من سوء تفاهم أصلي. و سوء التفاهم هذا أجد لتفسيره عنصرين اثنين على الأقل، أولهما متعلق بـ “الغاية” من التفكير والكتابة بشكل عام وهي غاية مرتبطة بما آل إليه مفهوم المعرفة نفسه في العالم المعاصر. و ثانيهما – و هو الأعمق و الأهم في نظري- متعلق بما يحكم “لاشعورنا” المعرفي، وهو “اللاشعور” الذي يجعل فعل التواصل والتفكير ممكنا، دون أن نرتقي أبدا لمستوى التفكير فيه.
مسلمات “الكتابة”:
ينطلق المتلقي من مسلمة مفادها أن المعرفة “إضافة” و”جواب” عن سؤال مطروح. فلا قيمة لمعرفة ما لم تضف شيئا، يحفظ في الذاكرة لاستعماله “عند الحاجة” و ما لم تقدم جوابا “شافيا” عن قلق معرفي قبلي.
بهذا المعنى تكون المعرفة استكمالا لنقص تمثله حالة الجهل و يكون الجواب “تكملة” لحاجة و”سدّا” لعوز وهذا الإحساس هو ما يحرك الباحث أصلا “للبحث”.
ضدّا على هذه الفكرة يمكن أن نقول أشياء معروفة نسبيا، أساسها التحول الفلسفي الذي مس مفهوم “الفكر” هو نفسه منذ نيتشه، إذ منذ هذه الفترة، و بالتدريج، تحول معنى الفكر، فلم يعد المفكر هو الذي “يبني” و”يقدم” و”يمنح” المعرفة، بل صار – تماما كما الشكاك القدامى- هو الشخص الذي “يهدم” المعارف السابقة؛ منذ تلك الفترة لم يعد الفكر تحصيلا، بل صار “تضييعا” و “فقدا”، الفكر صار فعل نفي لمعارف و مسلمات نحصلها قبلا، والمفكر الحق صار هو ذلك القادر على تجاوز ما تمنحه إياه “الثقافة” السائدة و المجتمع والتربية والإعلام وبادئ الرأي المشترك.
قد يحتج أحدنا فيقول إن هذا الأمر ليس جديدا البثة، وأنّه موجود في نظام المعرفة الأول – ولنسمه بالتحصيلي- وقد يزيد فيستشهد بديكارت قائلا بأن أول لحظة في المنهج الديكارتي هي فعل محو و “إزاحة” الأفكار الخاطئة السابقة لأجل الوصول لما يصطلح عليه هو بـ “الطاولة الممسوحة” (Tabula rasa). وفعلا فلا يمكن لعارف بديكارت أن ينكر هذا الأمر، فقيمة ديكارت و مكانته في تاريخ الفكر انبنت على هذا الأمر تحديدا، أي على كونه الفيلسوف الذي قرر “مسح” الأفكار السابقة وإزاحة ما تلقاه من المجتمع. لكن هناك فرقا جوهريا هنا لا بد من التنبيه إليه و هو أن “المسح” الذي كان ديكارت قد أعلنه، هو مسح “ظرفي”، أو قل بلغة حربية إنه “خطوة تاكتيكية” لأجل غاية “استراتيجية” وهي “تحصيل” المعارف النهائية وترتيب الحقائق التي تنتج عن المقدمات البديهية.
وفق هذا التصور تكون حالة الجهل الأول، حالة مسح الطاولة، حالة ظرفية وعابرة بالضرورة، فنحن لا نعلن النقص إلا بغاية تجاوزه وتكملته و لا نعترف بالجهل إلا لأجل نفيه بالمعرفة، هذا أمر يتناقض تماما مع التصور الفلسفي الذي تحدد مع نيتشه، فالجهل عند المعاصرين ليس “لحظة” في مسار لا يأخذ معناه إلا بالامتلاء المعرفي الذي يأتي فيما بعد و ليس “حالة” في انتظار النهاية، بل هو شرط الفكر الدائم؛ النقص و الجهل و انعدام المعرفة “أصل” في الفكر المعاصر و ليس مجرد “حالة” و هذا بالضبط ما يفسر و يبرر حديث بعض الفلاسفة عن كون السؤال هو الموضوع الحقيقي للفكر، بل هو تقوى الفكر (هايدغر) و حديث بعضهم الآخر عن كون حالة “التعلم” هي الحالة الدائمة للمفكر(دولوز) على ألا نفهم التعلم هنا أيضا باعتباره لحظة عابرة نحو اكتساب العلم، بل أن نفهم بأن وضعية التعلم هي نفسها وضعية العلم، فليس التعلم “طريقا” أو “سبيلا” نحو غاية هي التعلم، بل التعلم هو أصلا الغاية، فالتفكير والمعرفة ليست هي لعبة “السؤال – جواب” التي تعرضها المسابقات التلفزية، حيث الفائز هو الشخص الذي يملك “أجوبة” و”ثقافة” عامة أكبر، بل التفكير هو معاندة الذات ومصارعة نزوعاتها ومجابهة “كسلها” وميلها إلى الركون للحقائق النهائية، فالطريق هي الأولى والأهم دائما.
قد يظهر اعتراض آخر على مثل هذه النتيجة أساسه القول بأن هذا الأمر نفسه، أي تقديم الجهل و عدم المعرفة باعتبارهما الأصل، هو أمر كان حاصلا أيضا عند الأقدمين، إذ هناك آلاف النصوص و الشواهد القديمة التي تلح على هذا، فيعرض مثلا لبعض ما يروى عن علي ابن أبي طالب من كون “العالم ما يزال عالما إلى أن يقول أني قد علمت أو يستشهد بأقوال بعض علماء السلف مثل الشافعي وما يؤكده من كون رأيه خطأ يقبل الصواب ورأي غيره صوابا يقبل الخطأ. بل قد يسرد بعض الآيات الجميلة التي تنحو هذا المنحى، لكنني شخصيا أعتبر أن هناك فرقا أساسيا بين الأمرين و هو أن هاته الأدبيات تتحدث عن الموضوع من زاوية نظر “أخلاقية” ومن باب الحث على التواضع والتخلق وليس أبدا من باب القناعة المعرفية والدليل على هذا أن هذه الأدبيات لا تقر بهذه المحدودية و هذه “القلة” في درجة المعرفة، إلا لتؤكد “قطعية” ما تأتي به آراؤها فيما بعد، فحينما يتحدث الفقيه أو العالم الشرعي بمثل هذا الكلام، فهو لا يقصد أبدا أنه مستعد “لإعادة النظر” فيما يؤمن به، بل يقصد فقط أن معرفته بالأمر الذي يؤمن به محدودة، لكن زيادة المعرفة لا يمكن أبدا أن تجعل إيمانه بها يهتز، فالزيادة عنده ستكون دائما على سبيل التزكية و ليس أبدا النفي و الدليل في ذلك ما يروج عند هؤلاء العلماء أنفسهم من كون زيادة المعرفة لا يمكن أن تؤدي إلا إلى زيادة اليقين وهي أمور نجدها في عبارات من مثل “كثير من الفلسفة يؤدي إلى الإيمان و قليل منها يؤدي إلى الكفر”.
الأمر مختلف تماما في تصور الفكر المعاصر، فانعدام المعرفة يرتقي فيها ليصير “واقعا” ومبدءا إبستمولوجيا وليس مجرد “تواضع اخلاقي”، فالفلاسفة المعاصرون يعتقدون في العمق، ومن منظور معرفي صرف، بأن تحصيل الحقائق أمر متعذر وهذا ما يفسر دعوتهم لنقد مفهوم الحقيقة نفسه، و هذا ما يفسر أيضا امتناعهم عن اتخاذ مواقف “ثقافية”، فلن نجد مثلا عن نصوص هايدغر رأيا قطعيا بشأن “حقوق الإنسان” أو” العدالة الكلية” أو غيرها، فمفهموم الإنسان و العدالة و الحق والطبيعة نفسها مفاهيم ملغومة، بل اللغة نفسها جملة ألغام وهذا ما يظهر مثلا في الحوار الشهير الذي حصل بين فوكو وشومسكي في نهاية السبعينيات حول مفهوم “العدالة”.
المفكر المعاصر لا يتبنى مذاهب و لا يتموقع في “مواقف”، لأنه ببساطة يسعى لتجاوز المفهوم التقليدي التحصيلي للحقيقة، من حيث إنه المفهوم الذي يجعل من التموقف و التموقع أصلا ممكنا. و لا ينفع هنا أن نختزل مثل هذا التصور فنقول إنه “عدمي” أو “نسباني” أو “كليبي”، كما قد يعن لبعضنا، لأن مفهوم العدمية والنسبية نفسه يتغير حين ننظر من هذه الزاوية، فلا يمكن أن نفهم العدمية كإرادة للعدم والنسبية كنفي للحقيقة، إلا من منظور تقليدي للحقيقة؛ ثم لأن مناهضة “المواقف” القطعية النظرية، لا تعني مناهضة “المواقف” العملية، بل العكس تماما وهذا ما يجسده الواقع و لنا في نضالات فوكو و تأسيسه ل “مرصد السجون” وفي مناصرة دولوز للعرب والقضية الفلسطينية النموذج الحي.
“بينيّة” الكتابة:
تفتحنا هذه القضية، أي كون المفكر المعاصر ينطلق من قناعة باستحالة المعرفة وبالتالي يتعذر “نقل” معرفة و تقديمها للمتلقي في أجوبة جاهزة، على مسألة أخرى أكثر عمقا وأهمية في نظري وهي ما يمكن أن نسميه ب “البينية” الدائمة للفكر ووسطيته المحض، أي كون فعل التفكير هو دائما ربط و توليف وسطي برابط المعية (et) كما يقول جان فال، وليس تحقيقا و إقرارا لوجود وواقع بفعل الوجود (est) وهذا ما يبرر في نظري كون الفكر المعاصر لا يحب “النتائج” والخلاصات و”المعارف ” التي هي، حسب تصور تقليدي، ما يدفع المتلقي لقراءة نصوصنا.
يفترض التصور التقليدي للمعرفة أن العارض أو الكاتب يعرض “مسارا موضوعيا”، يبدأ بمقدمة ويمر بعرض لينتهي بخلاصات، أو لنقل إنه يقدم للقضية ويعرض الإشكالية، ليقدم لها حله و أطروحته الخاصة ومستخلصا النتائج في النهاية.
ما لا ننتبه إليه، في نظري، هو أن هذا التصور الثلاثي، الذي نجده في مجالات أخرى كثيرة، مثل التقديم والعقدة والحل في الرواية أو الافتتاح والوصلة والقفلة في الموسيقى، هو تصور ينبني على مسلمة نفترضها افتراضا، دون أن يكون عليها أي دليل، فالمتحدث والمتلقي كلاهما يفترضان ضمنيا في حديثهما هذا الأمر باعتباره بديهيا، بل لا ننتبه إليه حتى، ففي كل تصوراتنا وأفعالنا نفترض هذا الأمر و هذا عينه الافتراض الذي نجده في التصورات الدينية، الخلق، الطرد من العالم الإلهي والعودة (البعث)، بل هو نفسه الذي نجده في تصورات فلسفية مجردة كما في المنهج الجدلي الهيغلي.
لست أزعم المعرفة بأصول هذه المسلمة وبأسباب رسوخها التي قد لا تكون غير دورة الحياة البيولوجية، (ولادة – حياة – موت) و لست أدري هل التصور الثلاثي الديني عن العالم هو الذي يؤثر في تصوراتنا غير الدينية ويصوغها على شاكلته أم العكس، أي أن تصوراتنا هي ما يدفعنا لتصور الدين على هذه الشاكلة ولكن الأكيد أن هذه النظرة والرؤية الثلاثية هي ما يحكم تصوراتنا.
ما يحاول أن يفعله المفكر المعاصر الذي ينطلق من وسطية محض و ينتهي في وسطية محض، في نظري، هو أن يتجاوز هذه النظرة “التيليولوجية” للأشياء، فنحن عندما نرتقي لهذا المستوى، تصير كل لحظة في التفكير والكتابة إشكالية. فالبداية إشكالية لأنها تفترض “التوغل” فيما هو “عمق” والدخول في أمر له خارج. والخاتمة والاستنتاج إشكاليان لأنهما يفترضان الخروج والعودة والتلخيص والفصل، أي الانتهاء إلى شيء و هذا أيضا أمر متعذر، اللهم في تصور يؤمن بالخواتم والنتائج وهي صورة من صور مفهوم البعث والحساب في الفكر الديني.
إن الوعي بهذا الأمر وإدراك خلفياته والرغبة في الخروج منه هي ما يفسر ولع المفكرين المعاصرين بالبنيات والأطراف، و نبذ الداخل و مفاهيم الخاتمة والنتيجة، وهي ما يفسر مثلا محاولة دولوز تأسيس ما يسميه بـ “فكر الخارج” (Pensée du dehors) وما يفسر تأكيد دريدا على مفهوم “الهامش”، فالنص المعاصر ليس خطا وليس اتصالا، بل هو جملة خطوط و تركيبة مسارات تجاور بعضها و”تحايثه” دون غاية أو هدف محدد مسبقا.
النص المعاصر هو بساط ونسيج، وهو ما تدل عليه حتى الدلالة الاشتقاقية لكلمة texte-texture الفرنسية كما يذكر عبد السلام بنعبد العالي، النص المعاصر هو ما نجد نموذجا له في محاضرة هايدغر الشهيرة حول “مبدأ الهوية”، حيث نحس بالرجل يعذب مسلماتنا حين ينقطع عن نسج نصه فجأة، فيعاود البداية في كل مرة، مشوشا على عاداتنا في التفكير وعلى رغبتنا الفطرية في الانتهاء والختم. النص المعاصر – واعتمادا على نموذج هايدغر دائما – هو “دروب موصدة”، هو “مسارب” صغرى تتداخل مع بعضها وتتقاطع دون غاية، “مسارب” لم تصنع ليمرّ منها الناس ويعبروا، بل إن فعل العبور والمشي نفسه هو ما يصنعها؛ النص المعاصر هو طرق، لكنها طرق تلغي الأصول والوصول.
موقع ألاوان