في الولايات المتّحدة ضجّة بين أحمد والمسيح…
رأي واجتهاد
بقلم: صادق جلال العظم ترجمة : وائل السوّاح (مع مراجعة المؤلّف)
درج الأمريكيون على تسمية بقعة الأرض التي كان مبنى مركز التجارة العالمية قائماً عليها، ببرجيه العاليين الشهيرين، في مدينة نيويورك بـ”جراوند زيرو” (Ground Zero) ولنقُلْ بالعربية “البقعة رقم صفر” في تلك المدينة. وبينما كنت أتابع من بعيد مسلسل الأخبار المثيرة والمناقشات الحادّة والمجادلات الصاخبة حول مشروع لبناء مركز إسلامي ومسجد على مقربة من “البقعة رقم صفر” حَرَفَ انتباهي حدث أمريكي بارز وصاخب آخر جرى في العاصمة واشنطن.
في 28 آب (اغسطس) 2010 تظاهر حشد كبير من اليمين الأمريكي والمحافظين الجدد وأنصار ما يسمى خطأ في الصحافة العربية بـ”حزب الشاي” (1) (Tea Party USA) عند النصب التذكاري للرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن في العاصمة الأمريكية منادين بـ”استعادة الكرامة الأمريكية” المهدورة وبما شابه ذلك من شعارات ومطالب. والمفهوم في هذا السياق أن الذي هدر تلك الكرامة هو انتخاب رئيس أسود للبلاد للمرة الاولى في تاريخها، رئيس أسود من أبٍ مسلم يحمل اسمه الثلاثي علامة فارقة جداً هي الاسم العربي: حسين.
تعمّد أصحاب المظاهرة “البيضاء” هذه، التحشد عند النصب التذكاري للرئيس لنكولن في يوم محدد هو 28 آب (أغسطس) لأن القائد الأسود الفذّ لحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، مارتن لوثركينغ (Martin Luther King)، كان قد ألقى خطابه الشهير “لديّ حُلُم” (I Have a Dream) عند النصب التذكاري إياه في يوم 28 آب (أغسطس) قبل 47 سنة بالتمام والكمال. إنه الخطاب الذي أطلق الحركة الاجتماعية – السياسية التحررية الكبيرة التي فكّكت نظام التفرقة العنصرية في البلاد وأطاحت بـ”الأبارتايد” الأمريكي كما كان معمولاً به في تلك الاوقات. سارَعَتْ التيارات الليبرالية الأمريكية ومنظمات الحقوق المدنية، وهيئات الدفاع عن حقوق الإنسان والأقليات، والقوى المدافعة عن المساواة أمام القانون وغيرها في المجتمع الأمريكي إلى رفع الصوت عالياً في استنكار ما قامت به المظاهرة اليمينية “البيضاء” وفي إدانة الاستفزاز الفظيع الذي شكلته لباقي المجتمع الأمريكي عموماً ولأفضل ما تحقق فيه من مُثل وقيم تحديداً.
في الواقع، اعتبرت هذه القوى والتنظيمات والهيئات والتيارات أن التكتيكات التي لجأ اليها أصحاب المظاهرة “البيضاء” والشعارات التي رفعوها والمكان الذي حدّدوه لتجمعهم في العاصمة الأمريكية واليوم الذي اختاروه لإلقاء خطاباتهم وعرض مطالبهم هناك، تشكّل كلها استفزازات شنيعة وإهانات متعمّدة عن سابق تصميم وإصرار ليس لكلّ ما في الليبرالية الأمريكية الكلاسيكية من مثل وقيم فحسب، بل ولكل ما أنجزه المجتمع الأمريكي في نصف قرن من تقدم على صعيد القضاء على نظام التفرقة العنصرية الموروث وتصفية تركة “الأبارتايد” الوطني المعهود.
هنا، سألت نفسي: ألا ينطبق منطق الاستفزاز والإهانة ذاته على مشروع بناء المركز الاسلامي والمسجد بالقرب من “البقعة رقم صفر” (جراوند زيرو) في مدينة نيويورك؟ لا أريد الاجابة على السؤال بصورة تبسيطية اذ من الواضح أن النيّة وراء المشروع هي المصالحة والتسوية والصفح المتبادل وليس مجرّد التعسف في استخدام الحق العام لأية مجموعة من المواطنين في بناء مركز لها ودار لعباداتها حيثما تشاء ضمن حدود القواعد والانظمة المرعية؛ أو التعسف في استخدام الحق الدستوري الآخر في حرية العبادة والمعتقد الديني وحرية التعبير السلمي عن النفس في أيّ مكان مهما كان على الأرض الأمريكية وذلك بالإصرار الاعتباطي على حق إنشاء المركز والمسجد في حرم “البقعة رقم صفر” مهما كانت الظروف والشروط والنتائج والحساسيات.
في المقابل، لم يتكتم أصحاب المظاهرة “البيضاء” على تعسفهم في استخدام الحق الدستوري العام في التجمع والتحشد والتظاهر والتعبير عن الرأي والنفس من أجل استفزاز كل من يحمل خطاب مارتن لوثر كينغ ومفاعيله العملية على محمل الجدّ، وإهانة كل من ينتمي الى النقلة النوعية الكبيرة التي أطلقها ذلك الخطاب في الحياة الأمريكية ويلتزم بإنجازاتها ومكتسباتها.
في اعتقادي كذلك، يشكو مشروع بناء المركز الإسلامي والمسجد على مقربة من “البقعة رقم صفر”، في أحسن أحواله، من سوء التقدير والتدبر من جانب أصحابه ومؤيديه ومن نقص كبير في أصول اللباقة وحسن التصرف المطلوبة كلها في اللحظات الحرجة والدقيقة مثل لحظة 11 سبتمبر (ايلول) 2001 وآثارها السلبية العميقة في حياة الأقليات العربية الإسلامية في المجتمعات الأوروبية عموماً وفي المجتمع الأمريكي تحديداً. كما ينطوي المشروع، في نظري، على استهتار كبير بالآخر وظروفه وشروطه وبحساسيات “العيش المشترك” معه وآليات هذا العيش وضروراته. هذا كله في الوقت الذي تتذمر فيه هذه الأقليات أشدّ التذمر من استهتار الآخرين بها وبظروفها وشروطها ومن الانتهاك الفظ لحساسيات العيش المشترك معها وآلياته وضروراته!؟
أما في أسوأ أحواله، فإن المشروع يُعرِّض نفسه وأصحابه ومؤيديه للاتهام بالاستفزاز المجاني المتعمَّد للفريق الآخر المنكوب بهجمات 11 سبتمبر (أيلول)؛ وبالتعسف في استخدام الحقوق الدستورية العامة في إنشاء المراكز الخاصة وبناء دور العبادة والتمتع بحرية ممارسة الشعائر الدينية وحرية المعتقد الديني؛ وبسوء النية والنفاق بالنسبة للغاية الحقيقية الكامنة وراء المشروع. ولا يمكن لهذا كله إلاّ أن يلحق الضرر البالغ بالأقليات العربية والمسلمة وبصورتها ومصالحها ومجرى حياتها اليومية خاصة في بلد مثل الولايات المتحدة، أي بلد ظاهرة الـBacklash (ردود الفعل الارتجاعية الهوجاء في المجتمع) بامتياز. لهذا أعتقد بحكمة نقل مشروع بناء المركز الاسلامي والمسجد الى موقع أكثر ملائمة في مدينة نيويورك مما من شأنه أن يقطع كل شك في حسن نوايا أصحاب المشروع وفي شرعية غايتهم وجدية مصداقيتهم.
على أية حال، نعرف الآن أن أصحاب المشروع ومؤيديه قاموا بتقديم سلسلة من التنازلات لإرضاء الطرف الآخر المعترض مما أفقد المشروع معانيه ومغازيه الاصلية. على سبيل المثال، وافقوا على تبديل اسم المركز من “بيت قرطبة”، بما يحمله من معانٍ رمزية وتاريخية واسلامية، الى “بارك 51” (Park 51) وهو الاسم الذي لا يوحي بشيء لأنه مجرّد اسم شارع من شوارع مدينة نيويورك وعنوان بريدي عادي لا اكثر. كما أنكروا أنهم يريدون بناء مسجد اصلاً مؤكدين لمن يهمهم الامر أن المركز لن يتميز في مظهره الخارجي بأية علامات تدلّ على أنه مركز اسلامي من اي نوع. بعبارة اخرى، لن تكون هناك مآذن ولن يتزيّن البناء من الخارج بأية مظاهر معمارية او زخرفية تدلّ على ائتمانه الى الاسلام والمسلمين. علمت كذلك أن رجل الاعمال السعودي والمستثمر العولمي الشهير الامير الوليد بن طلال نصح هو ايضاً اصحاب المشروع، وبصورة علنية، بإبعاده عن حرم “البقعة رقم صفر”. لذلك كله يبقى من الافضل نقل موقع المركز والمسجد معه الى موقع آخر في المدينة حيث لا حاجة الى تمويه منظره ووظيفته والتستر على هويته الحقيقية بهذه الطريقة السخيفة والمهينة.
بالاضافة الى ذلك، من المفيد لأصحاب المشروع ولمؤيديهم ومناصريهم أن يتذكروا جيداً، في خضمّ هذه الضجة وتداعياتها، أنه ليس لدى “عمقهم الاستراتيجي” المفترض والمؤلف من العالمين العربي والاسلامي أي نموذج رسمي او شعبي مقبول او مفيد ليقدمه لهم او لغيرهم على صعيد احترام الحريات العامة والحقوق الدستورية الناجزة وبخاصة تلك الحقوق والحريات المتعلقة بالمعتقد الديني وممارسة غير المسلمين لطقوسهم وشعائرهم وعباداتهم براحة واطمئنان بالاضافة الى حرية بناء دور العبادة والمراكز الدينية من جانب اصحاب اديان العالم الاخرى.
أطلّت ظاهرة الـBacklash الأمريكية برأسها هذه المرة في شكل تهديد خبيث وحقير بإحراق نسخ من القرآن بطريقة طقوسية مشهدية عامة بمناسبة إحياء ذكرى ضحايا هجمات يوم 11 سبتمبر (ايلول) 2001 وهي الهجمات التي تمت، كما هو معروف، باسم الاسلام وتحت راية الجهاد الاسلامي العالمي. ولننتبه هنا الى أن التهديد الذي أطلقه القسيس الانجيلي من ولاية فلوريدا والصخب المحلي والدولي الذي آثاره على اعلى المستويات، جاء ليذكّر اصحاب مشروع المركز الاسلامي ومن معهم ووراءهم بأن حشداً كبيراً من الاقلية المسلمة في مدينة برادفورد في بريطانيا هو المسؤول عن اعادة احياء الطقوس القروسطية لاحراق الكتب عندما قام ذلك الحشد بإضرام النار سنة 1989 برواية سلمان رشدي “الآيات الشيطانية” في الساحة العامة للمدينة وبأسلوب طقوسي – مشهدي رآه العالم بأجمعه عبر البث الحيّ للمشهد المقزز والمؤذي.
يحيل تهديد القسيس الإنجيلي كذلك الى فعل شنيع آخر تمثل في قيام الحكومة الإسلامية الطالبانية في شهر آذار (مارس) 2001 بتدمير التمثالين التاريخيين الضخمين للبوذا في منطقة باميان في أفغانستان باسم الاسلام الذي يحطم الاصنام أينما كانت ومهما كانت. وللاسف لم يرتفع يومها في العالمين العربي والاسلامي أي صوت مهم شخصياً أو معنوياً او مؤسّساتياً او علمائياً يدين علناً وبوضوح وبلا مواربة أو غمغة هذا الاعتداء المجاني العنيف على مقدسات الأديان الاخرى في عالمنا المعاصر.
في تسعينيات القرن الفائت كانت واحدة من أبرز التُّهم الموجهة الى رواية “الآيات الشيطانية” هي الاساءة العميقة الى مشاعر ومعتقدات مليار ونصف مليار مسلم في العالم. ولا شك في أن أية عملية احراق مشهدي اليوم لنسخ من القرآن ستشكل اساءة فظيعة لمسلمي العالم أينما كانوا ومهما كانوا. مع ذلك، عندما نسفت حكومة طالبان الاسلامية تمثالي البوذا في باميان بالديناميت لم نسمع اية اصوات ذات وزن وشأن في العالمين العربي والاسلامي ترتفع لتستنكر هذه الاساءة العميقة لمشاعر ومعتقدات ملياري بوذي وهندوسي في العالم، أو لتقول شيئاً عن الاهمية التاريخية والآثارية أو القيمة الفنية والجمالية أو الشأن الديني والمعنوي الكبير للتمثالين المنسوفين إن كان ذلك بالنسبة لتراث الانسانية بشكل عام او بالنسبة للمؤمنين بدين عالمي – تاريخي آخر، بشكل خاص.
أخيراً، واضح أن قادة الأقليات العربية الإسلامية ونشطاءهم في الولايات المتحدة وغيرها لا يقصِّرون هم أيضاً في استخدام (وسوء استخدام) المعايير المزدوجة والمثلثة والمربعة والاستنسابية والتعسفية حين يحلو لهم ذلك على الرغم من أنهم لا يكلّون ولا يملّون، صبحاً مساءً، من إتهام مجتمعات الغرب عموماً والمجتمع الأمريكي تحديداً بازدواجية المعايير في التعامل معهم ومع جماعاتهم!؟ ولا ينفع في هذا المقام الاعتداد بالموقف الإسلامي التقليدي المُنزَّه للذات عن مثل هذه الأفعال والمتشاوف على الآخرين باعتبار أنهم هم وحدهم الذين يرتكبونها.
لذا يستحسن بأن تلتفت الأقليات العربية والمسلمة في الولايات المتحدة وغيرها جدياً الى الحكمة العربية الشعبية الشائعة والقائلة: “من كان بيته من زجاج لا يرمِ الناس بالحجارة”.
هامش:
1. – الـTea Party USA ليس حزباً بالمعنى السياسي المعروف، بل حركة شعبوية طارئة تحيل في تسميتها لنفسها الى حدث هام في التاريخ الأمريكي المبكِّر وقع يوم 16 ديسمبر 1773 في مرفأ مدينة بوسطن. ويطلق الأمريكيون على ذلك الحدث اسم The Boston Tea Party (حفلة الشاي في بوسطن) ساخرين بذلك، على الارجح، من ولع الطبقات الانكليزية الراقية وقتها بشرب الشاي وبحفلات الشاي وبتناول الشاي في الساعة الخامسة من بعد ظهر كل يوم من ايام الاسبوع. في اليوم المذكور قام حشد كبير من الأمريكيين الثائرين باحتلال ثلاث سفن بريطانية محمّلة بالشاي احتجاجاً على الضرائب العالية التي كانت الدولة المستعمِرة (بكسر الميم) تفرضها على تجارة الشاي وقاموا بإلقاء كامل حمولاتها في مياه المرفأ رافعين الشعار المشهور:
“No Taxation Without Representation”، اي لا ضرائب بلا تمثيل نيابي او برلماني.
موقع الآوان