كتاب إلى صديق إسرائيلي لريجيس دوبريه: حيث الصديق برنافي أكثر إقناعاً من دوبريه
زياد ماجد
يشكّل كتاب(•) ريجيس دوبريه الجديد، أو بالأحرى رسالته الى صديقه سفير إسرائيل الأسبق في فرنسا المؤرّخ إيلي برنافي، وثيقة سياسية أرادها كاتبها تكثيفاً لآرائه في واقع إسرائيل اليوم، في علاقاتها الدولية وفي صراعها مع الفلسطينيين، في مآل صهيونيتها وقوى العلمنة والتديّن فيها، في علاقة يهود فرنسا بها، وفي مسألتي اللاسامية وذاكرة الهولوكوست وتداعياتهما الثقافية والسياسية عليها. ويساجل الكتاب مع العديد من المقولات الإسرائيلية أو الداعمة لإسرائيل، ويقدّم تحليلاً لبعض ظواهر الاجتماع السياسي الفرنسي (والأوروبي الأعمّ) لجهة تراتبيّاته الأخلاقية (ومؤدّياتها العنصرية) المهيمنة راهناً وأثرها في رسم خطوط العلاقة مع إسرائيل من ناحية، ومع الفلسطينيين والعرب من ناحية ثانية.
في محاور الكتاب
يقسّم دوبريه كتابه – الرسالة الى سبعة محاور، تاركاً الخاتمة لإيلي برنافي ليردّ على ما ورد انطلاقاً من التقسيم المعتمد إياه.
يحاجج المحور الأول (وعنوانه “شجاعة، فلنتكلم”) في ما يعدّه الكاتب “فضيلة الشجاعة”: شجاعة البوح الصريح للإسرائيليين بالموقف من سياساتهم، من “موقع الصداقة” ولو أدّى الأمر الى الصدام “مع نصف الأصحاب وأزيَد” (في فرنسا خصوصاً)، وشجاعة التوجّه إليهم وليس الى الفلسطينيين لأن انتقاد “القوي صاحب الصورة الحسنة” في الغرب أهمّ من “انتقاد الضعيف المطروح أرضاً” المسدلة على صورته عتمة “ثقافة الموت في غزة والفساد والعجز في الضفة”، على ما يقول الكاتب.ويبرّر دوبريه في هذا المحور سبب ارتباط الأوساط السياسية والإعلامية والثقافية في فرنسا (والغرب عامة) بما يجري في إسرائيل وحولها، مقابل قلة اكتراثها بدول ومناطق وصراعات فيها جلادون وضحايا بألوف المرات أكثر من أولئك الموجودين على ضفتي الصراع الفلسطيني الاسرائيلي (كدارفور ومنطقة البحيرات الأفريقية الكبرى، وسيريلانكا والشيشان وبورما). فيردّ الأمر الى كون الأوروبيين يعتبرون اليهود “قوماً منهم”، من تاريخهم، من حسبهم ونسبهم، من مدادهم العاطفي، ومن سياقهم الحضاري (اليهودي – المسيحي)، ومن صلب مجتمعاتهم الحديثة بإنجازاتها ومآسيها. وبالتالي، ترتبط دولتهم بالمخيلة السياسية الأوروبية على نحو يختلف عن كل ارتباط إنساني آخر.
المحور الثاني للكتاب ينطلق من البحث في معنى الصهيونية اليوم. يسأل دوبريه صديقه برنافي (الذي يعرّف نفسه بأنه “صهيوني مؤيّد للفلسطينيين”) عمّا تمثّله الصهيونية بعد نيّف وستين عاماً على تأسيسها دولة إسرائيل، وعمّا بقي منها، من مدارسها المختلفة (اليسارية بخاصة)، ويذكّره بأنه، أي دوبريه، كان فيلو-صهيونياً. كان معجباً بالكيبوتزات، بشعب تجمّع لإحداث المعجزات. يقول إن مأساة تشريد الفلسطينيين، أو نكبتهم، لم تهزّ وجدانه أو وجدان الأوروبيين. كانت قارّتهم مليئة بعد الحرب العالمية الثانية بملايين اللاجئين والمشرّدين، والمنطق السائد أن كل جماعة مهجّرة يمكن حشرها في مكان ما، فوق أرض ما. وكان شبح الهولوكست مخيّماً يصعب تخيّل موقف نقدي للناجين من ناره وهم “يؤسّسون حلمهم ووطنهم”. على أن الأمور هذه تغيّرت. “ماذا يمكن أن يقال في كل ذلك اليوم؟” يسأل دوبريه. ماذا يمكن أن يقال في قضم الأراضي والجدار والاستيطان والعقاب الجماعي والاغتيالات والغارات الجوية والقوة النارية الهائلة والتأثير المتزايد للمؤسسة العسكرية على دوائر القرار السياسي؟ يجيب مستعيداً مقولة يشوعيا ليبوفيتز (فيلسوف وعالم إسرائيلي) في حزيران من العام 1967 من أن “حرب ال1967 هي كارثة تصيب دولة إسرائيل والإنسانية جمعاء”. ينطلق من تلك “النبوءة”، كما يعدّها، ليتحدّث عن فعل القهر الذي أحدثه الانتصار الساحق للدولة العبرية ذلك العام، وعن تبدّل الطاقة المحرّكة لها بعد عقدين على قيامها من طاقة بناء مجتمع ودولة “يتمنى كل تقدّمي أوروبي العيش في ما يشبههما” الى طاقة بحث عن توسّع وهيمنة وقمع ضد من يُمارَس التوسع بحقّهم…
محور الرسالة الثالث هو اللاسامية. اللاسامية التي يعتبرها دوبريه في حالة ضمور في فرنسا وأوروبا على عكس ما يروّج له بعض الاسرائيليين والكثير من المثقفين اليهود. يعرض دوبريه لمركزية “المحرقة” في كتب التاريخ اليوم، للاستذكار الدائم لليهود الفرنسيين الذين نقلوا الى معسكرات الاعتقال النازية خلال الحرب الثانية ولأعدادهم المشار إليها على مداخل المدارس العامة ليقرأها التلامذة، للتجريم السريع لكل قول أو فعل يُمكن أن تُشتمّ منه رائحة اللاسامية، لتحوّل العديد من الفلاسفة والمفكّرين ذوي الأصول اليهودية الى مراجع أكاديمية وعلمية وسياسية. ويذكر أن ما يُتحجّج به من اعتداءات أحياناً على شبان يهود أو على مقابر يهودية للحديث عن لاسامية متجدّدة ما هو إلا أعمال معزولة مرتبطة بحالات احتقان في أحياء شعبية يتحدّر سكانها من أصول مغاربية أو أفريقية، معتبراً أن الأمر بالتالي ليس انعكاساً لثقافة أو لبقايا ثقافة لا سامية (أوروبية)، بل هو صدى لتأزّم اجتماعي ولتصاعد الصراع في الشرق الأوسط وتأثّر بالصور الوافدة منه.
أكثر من ذلك، يشير دوبريه الى حرص الطبقة السياسية الفرنسية بكامل مكوّناتها وأطيافها على حضور الاحتفال السنوي “للهيئة التمثيلية للمؤسسات اليهودية في فرنسا”، أو على التوجه الى كنيس باريس في “يوم الكيبور”، وهو أمر لا تقوم به الطبقة نفسها في المناسبات الدينية المسيحية، وطبعاً لا يمكن تخيّله في المناسبات الإسلامية، ولا في المناسبات الإنجيلية الإفريقية (حيث يقول دوبريه من باب السخرية إن من يمكن أن يمثل الدولة في مناسبات كهذه هو مدير الشرطة المحلي، فيسأل المشاركين لحظة وصوله عن هوياتهم للتأكد من شرعية إقاماتهم!) ويلحظ دوبريه في ما خصّ الشكوى من الخلط بين اليهود الفرنسيين والإسرائيليين أن الخلط نفسه يقوم به كثر من اليهود والفرنسيين، مذكّراً بالتظاهر الدوري لشخصيات يهودية فرنسية تحمل أعلام إسرائيل، وعلى لا نحو لا يستنكره السياسيون الفرنسيون ممّن يستنكرون بحدّة حمل فرنسيين من أصول جزائرية أعلام بلادهم الأصلية للاحتفال بفوزها في كرة القدم مثلاً، عاداً الأمر دليلاً على ازدواجية المعايير في النظر الى قضايا الهوية والمواطنة والتطيّف (communautarisme). ويختم دوبريه متوجّها الى برنافي قائلاً أن لا أحد في فرنسا اليوم يمكنه استخدام عبارة “اليهود” بالصيغة الإطلاقية عند بحثه في السياسة أو الثقافة أو الاجتماع، أو حتى للتعبير عن عنصرية أو لا سامية ما، في حين لا حرج للعديد من السياسيين والصحافيين في استخدام عبارة “العرب” في إطار تعميمهم صفة الهوية من باب النقد أو التوصيف وما يشيان به من عنصرية (لا يخشى الكثيرون أساساً من اتّهامهم بها على نحو خشيتهم من تهمة اللاسامية).
في المحور الرابع، يناقش دوبريه في ذاكرة “الشوا” أو المحرقة وفي فلسفتها. ينطلق من اعتباره أن “العرب يعمون أبصارهم عن المحرقة، في وقت تعمي المحرقة أبصار اليهود (والأوروبيين)”. ويرى أن في هذه المفارقة ما يفسّر الكثير من الأمور منذ قيام إسرائيل ولغاية اليوم، وفيها أيضاً صناعة للوعي الجماعي الإسرائيلي وتلحّف به ذوداً عن ممارسات وإجراءات وتبريراً لها. وفيها كذلك غض طرف من الأوروبيين عن جرائم ترتكبها الدولة العبرية أو عن انتهاكاتها للقانون الدولي.ويقول دوبريه إن المطلوب للخروج من الدائرة المفرغة هذه هو فهم العرب لمعنى المحرقة، وتحرّر الأوروبيين من شعورهم بالذنب بسببها، واقتناع الإسرائيليين بأنهم لم يعودوا من ضحاياها.
ثم يستكمل دوبريه هذا النقاش في المحور الخامس، معنوناً إياه “خطر مرض التوحّد” الذي يعتقد أن إسرائيل صارت “مصابة” به. مرض الانغلاق على الذات والهوس بالمخاطر “المفترضة” المحدقة بها. مرض “المرعِب المرعوب”، القادر بكثافة ناره على قتل آلاف من خصومه مقابل خسارة العشرات من ذويه، الممتلك السلاح النووي الكافي لتدمير المنطقة والخائف في الوقت عينه من برنامج نووي إيراني (كان شاه إيران الراحل، وحليف إسرائيل، أول من سعى لإطلاقه). ويعود دوبريه الى عبارة جابوتنسكي حول “الجدار الفولاذي” كبرنامج انطوائي صهيوني لحماية اليهود من جميع الشرور ليرى في جدار الفصل القائم اليوم و”السارق أرضاً إضافية بين القرى الفلسطينية وحقولها ومدارسها” تجسيداً عملياً للانغلاق على الذات ورفض رؤية الآخر. كما ينظر الى الحواجز بصفتها نقاط إبعاد لهذا الآخر عن يوميات الاسرائيليين. فالفلسطيني ليس موجوداً، والجنود ينظرون إليه من فوهة الدبابة أو من مناظير الحواجز، والمدنيون والمستوطنون أخفوه خلف الجدار.توحّد هو إذن، ونكران لكينونة الآخر وغرق في عقلية “القلعة” تعكسها “مراكز أبحاث وخرائط وسيناريوات حول المخاطر التي لا تنضب” على ما يسرد دوبريه.
في المحور السادس، يحلّل الكاتب العلاقات الإسرائيلية بـ”العالم الجديد” أو الولايات المتحدة الأميركية. يعتبر أن القيم التأسيسية للولايات المتحدة تخلق تقارباً خاصاً مع إسرائيل لجهة “لا وعي تاريخي” يربط التديّن بالعهد القديم. يُعطف على ذلك التحالف السياسي الذي نشأ وفق وظائف استراتيجية بين واشنطن وتل أبيب، وتُعطف على الأمر أيضاً قدرة التأثير الحاسمة لكتل الضغط الموالية لإسرائيل في صناعة القرار وفي التصويت على القوانين في مجلسي الشيوخ والنواب. ويعتبر دوبريه أن هذه العلاقة الوثيقة – التي تعرف إسرائيل أنها مفتاح “حصانتها” وتحرص عليها – تجعل احتمال التغيير في الشرق الأوسط ضئيلاً رغم كل ما يقال عن طموح باراك أوباما لإيجاد حل ديبلوماسي، ورغم الحذر الشديد تجاهه الذي يبديه أكثر الإسرائيليين ويهود فرنسا المؤيّدين لهم. على أن ما يمكن أن يتغيّر في نظره هو تراجع “القيمة الاستراتيجية” لإسرائيل بالنسبة للأميركيين، أو تبدّل الأولويات الاقتصادية، خاصة إذا تزايد حضور “الأفرو-أميركيين” و”اللاتينو” و”الآسيويين” في المؤسسات الاقتصادية ومراكز صنع القرار السياسي على حساب “الواسب” المسيطرين اليوم.
أما في المحور السابع والأخير، فيتحدث ريجيس دوبريه عن “إسرائيلين اثنتين”: إسرائيل العلمانية وإسرائيل الدينية، إسرائيل المستوطنين وإسرائيل المناهضة لهم، إسرائيل إسحق رابين وإسرائيل قاتله، إسرائيل تل أبيب وإسرائيل القدس، ويخشى من أن تكون الدولة العبرية قد انتقلت نهائياً “من الكيبوتز الى الكيبا”، أي من بناء التجربة الاجتماعية والسياسية الثورية الى السلوك الديني الإيديولوجي الذي لا يجذب إعجاباً ولا يثير تأييداً. وهو عند هذا يختم رسالته، تاركاً المجال لبرنافي للإجابة عليه والرد على بعض ما قال.
وبرنافي، الى إبدائه موافقته على معظم ما ورد، يرى أن التمايز بينه وبين دوبريه يتمحور حول ثلاثة مواضيع. الموضوع الأول، موضوع اللاسامية، إذ يؤكّد برنافي أن بذور الأخيرة ما زالت موجودة وأنها تتّخذ في لحظات معينة من نقد إسرائيل ذريعة لها، فتذهب نحو التنقيب في ذاكرة المحرقة والتشكيك بها، أو نحو التلطّي بمعاداة الصهيونية لإطلاق المواقف ذات الخلفيات اللاسامية.الموضوع الثاني، موضوع “الشوا” وعقدة الضحية. يرى برنافي أن “سلوك الضحية” لم يكن موجوداً عند تأسيس إسرائيل. على العكس، يدّعي أن اليهود الناجين من معسكرات الاعتقال والموت كانوا يخجلون بتجربتهم في الحرب العالمية الثانية. كانوا يحسّون بالذنب لأنهم نجوا أو لأنهم لم يقاوموا النازيين كفاية. ويقول إن ذلك استمرّ فترة الى أن أخرجهم بن غوريون من عقدة الذنب، فراحوا يستعيدون ماضيهم القريب وينبشون الروايات والذكريات ويعتبرون أنهم في قتالهم الجديد إنما يواصلون ملحمتهم. ويعتبر برنافي أنه يمكن الفلسطينيين لاحقاً، بعد سلام يُنشئ لهم دولة، أن يتّخذوا من الرموز الإسرائيلية الحالية نفسها رموزاً لهم، يفسّرونها وفق تاريخهم وصيرورتهم: “فتصبح النكبة هي محرقتهم، وحق العودة الى دولتهم هو حق العودة اليهودي، وذاكرة مقاومتهم هي ذاكرة القتال للاستقلال الاسرائيلي”.أما موضوع التمايز الثالث بحسب برنافي، فهو العلاقات الأميركية الإسرائيلية. يرى الديبلوماسي والمؤرّخ الإسرائيلي أن لأميركا القدرة إن شاءت على فرض الحل وعلى إلزام الإسرائيليين به. يتذكّر بوش الأب وضغطه (بواسطة وزير خارجيته جيمس بايكر) على شامير وإجباره على الذهاب الى مفاوضات مدريد. يقول إن الخوف من تدهور العلاقة مع واشنطن دفع الناخبين الاسرائيليين الى إسقاط شامير في الانتخابات يومها، وأن القلق اليوم من احتمال تبدّل الموقف الأميركي جدّياً يمكن أن يغيّر الكثير. ويخلص بالتالي الى أن لا حل للصراع بين الفلسطينيين والاسرائيليين إلاّ من خلال مشروع أميركي يُفرض فرضاً، وهذا بحسبه يجب أن يتمّ بأسرع وقت.
الكتاب في سياقه الراهن
صدر الكتاب بالترافق مع عودة الإسرائيليين والفلسطينيين الى التفاوض برعاية أميركية. لكنّه لم يتطرّق الى الأمر مباشرة، بل أظهر قلة تفاؤل بالمسعى الأميركي وبقدرته على إيجاد الحلول المقبولة من الطرفين.
في المقابل، يرتبط الكتاب بحيثيتين راهنتين، هما الحيثيتان الفرنسية والإسرائيلية. ففرنسياً، ثمة صعود متعاظم للخطاب العنصري المتّخذ من قضايا الهجرة والأمن والجنسية والمواطنة والهوية والاندماج والحجاب ذرائع له للتعبئة السياسية والتنافس على استمالة فئات من الناخبين الريفيين أو المتدّينين الكاثوليك أو العاطلين عن العمل (المعتبرين الهجرة سبباً في قطع أرزاقهم) أو المتقاعدين الخائفين من مهاجرين “قادمين للسيطرة على فرنسا وأسلمتها وقضم موازناتها الاجتماعية”. ومع هؤلاء، يصفّي دوبريه حسابه، إذ تشكّل الاستعارات الفرنسية في محاججاته لصديقه الإسرائيلي تسخيفاً لهم وردوداً عليهم، ولو غير تفصيلية أحياناً.وإسرائيلياً، ثمة سيطرة لليمين القومي (بشقّيه العلماني والديني) على المشهد السياسي، على نحو تبدو (بالنسبة الى الفرنسيين) حظوظ الوصول الى حلول للصراع معدومة، في وقت تحوّلت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي مراقبَين للأمور من دون قدرة تأثير، و”خزينة” لدفع التعويضات بعد كل حرب من دون القدرة على المحاسبة. وفي كل هذا، ما يحفّز كاتباً مثل دوبريه راكم “رأسمالاً ثقافياً” ورافق قضايا عديدة في الكثير من أرجاء العالم على الكتابة والمساجلة محصّناً بشهرته وبصعوبة توجيه الاتهامات إليه على ما يصيب بعض منتقدي إسرائيل الآخرين.
لهذه الأسباب، جاءت الردود على الكتاب متفاوتة ومحدودة، تراوح بين الهجاء (السينمائي كلود لانزمان والكاتبة إليزابيت ليفي) والترحيب الفاتر أو اعتباره مادة إضافية تُنشر حول صراع صار مملاً ومتقادماً ولا أمل في بلوغ خاتمة سعيدة تنهي أهواله. أي أنه لم يولّد حملة شرسة ضدّه، على الأقل إعلامياً أو علانية.
ملاحظات في المضمون
يمكن تسجيل مأخذين رئيسين على الكتاب وعلى المقاربة المتّبعة فيه، ويمكن أيضاً الاختلاف الجذري مع الكاتب حول فكرة مركزية عنده تضبط إيقاع مواقفه ولو أنها تختفي بعض الشيء حين يلامس الحاضر اليوم.على أنها مآخذ واختلاف لا تغيّر من كون الكتاب جديراً بالقراءة المتأنّية لما فيه من حشد للأمثلة ومن ربط للأفكار ومن غزارة ثقافية موظَّفة لتدعيم الحجج وتقديمها ممتعة. كما أنها لا تغيّر من كونه وثيقة تدين الاحتلال الاسرائيلي اليوم وتستطيع حكماً التأثير في آراء القارئ الغربي لأنها بالأساس تتوجّه إليه…
المأخذ الأول على الكتاب هو تغييبه الفلسطينيين رغم حضورهم الدائم في خلفية المشاهد الموصوفة وفي سياق البحث في معاناتهم وانتهاكات الاحتلال بحقّهم. والمقصود بالتغييب هو الاكتفاء بسردية فرنسية – يهودية – إسرائيلية تبدو مبتورة في علاقتها بتاريخ المنطقة حيث أقيمت دولة إسرائيل. أي أن السردية تقفز من فرنسا والحرب العالمية الثانية الى لحظة التأسيس الاسرائيلي عام 1948. وبهذا، لا يغيب الفلسطينيون فحسب، بل يغيب أيضاً اليهود العرب وسائر السفاراد، فيبدو دوبريه وكأنه يتعامل مع دولة أشكينازية أوروبية، مستشهداً على الدوام بأمثلة من تراث الأشكيناز وزاد مفكّريهم، ومستنداً الى قيمهم المدينية الغربية في أكثر محاججاته. وحتى حين يصل دوبريه الى التوسّع والاحتلال عقب حرب ال67 وصولاً الى انفلات الاستيطان اخيراً وتحوّل المهاجرين الروس كتلة ديموغرافية وناخبة وازنة (قرابة 20 في المئة من الإسرائيليين)، يبقى في أمثلته وترميزه الثقافي ومرجعيته الأوروبية يخاطب اليهود الأشكيناز.
والتغييب هذا لا تبرّره مخاطبة صديق إسرائيلي والحديث عن تفضيله مخاطبة “الأقوياء”، ولا يعوّضه استنكار الاحتلال والقضم والقهر ولا الانتقاد الحاد والشجاع لازدواجية المعايير الاسرائيلية والأوروبية. فالفلسطينيون كيان في ذاتهم وفي تحوّلاتهم وفي مرجعياتهم الثقافية وفي اصطدامهم بالاسرائيليين الذي يغيّرهم بقدر ما يغيّر الاسرائيليين. وهم أيضاً أفراد وتجارب مختلفة، وليسوا فقط جماعات تُمارَس عليها عمليات الحصار أو القتل أو التشريد المستنكرة. والأمر هذا مهمّ لأن إحالة القيم والتحوّلات المصيبة الاسرائيليين الى جذور أو مرجعيات صهيونية أو يهودية أوروبية غربية ينفي المسار الذي سلكه الإسرائيليون نتيجة تنوّع الهجرة ونتيجة احتلالهم واقتلاعهم سكاناً أصليين ونتيجة ولادة جيلين أو ثلاثة منهم بعيداً عن أوروبا وعلى تماس مباشر مع الفلسطينيين، حتى وإن فضّلوا نكران الأمر وعدم النظر في عيون “جيرانهم”. ولعل هذا الغياب الفلسطيني بصفته غياباً لفاعل فوق أرضه (وليس لمفعول به أو لتائه لاحقاً بين “حماس” والسلطة) يفسّر مثلاً تغييب إسم إدوارد سعيد في مستهل الكتاب حين يحيّي دوبريه دانيال بورنبويم “مؤسس الاوركسترا الإسرائيلية العربية” ناسياً أن المؤسس الآخر هو الفلسطيني سعيد. ولعلّ هذا يفسّر أيضاً تغييب الحديث عن المؤرّخين الفلسطينيين الذي بحثوا في النكبة وفي خطط الجيش الاسرائيلي للتهجير، والذين استند إليهم بعض المؤرخين الاسرائيليين الجدد (يشيد بشجاعتهم دوبريه) ليعيدوا صياغة السيرة التأسيسية لدولتهم (علماً أنه لم يبق من هؤلاء المؤرخين على مواقفه السياسية المستندة الى عمله التأريخي إلا قلّة قليلة أبرز من فيها إيلان بابي وهو يعيش في بريطانيا بعد مغادرته منصبه الجامعي في حيفا عقب الضغوط والمضايقات التي تعرّض لها).
بهذا، بدت الذاكرة المكانية والحدثيّة التي استند إليها دوبريه في عرضه في أكثر مواضيع الكتاب محصورة بالاسرائيليين (الأوروبيي الأصل)، لا مكان فيها لتنقيب آخر، لروايات مضادة أو موازية، لتفاعل ولو صراعي متبدّلة أطواره ومعالمه.
المأخذ الثاني هو إقامته مقارنة سريعة (وكاريكاتورية) بين النخبتين السياسيّتين الإسرائيلية والعربية عام 1948 لتقديم مبرّر إضافي لسبب انحيازه (كمعظم الفرنسيين والأوروبيين) لإسرائيل لحظة نشأتها. فالحديث عن “زعماء يشبهون موسوليني” مقابل زعماء من طينة “النبي المقاتل” بن غوريون، على ما يذكر دوبريه، يصلح لتحليل الخلفيات الثقافية والاجتماعية للنخب القيادية عند الطرفين وليس للمفاضلة بناء على نتائج المقارنة بين شعبين أو دولتين أو مشروعيّتين سياسيتين وأخلاقيّتين. فمقارنة أولئك القادمين من عائلات وقبائل في منطقة تهيمن عليها قيم البادية والريف ولم تمارس السياسة بمعناها الحديث من قبل، بأولئك الوافدين من المدن الأوروبية المساهمين في نهضتها وازدهارها وتنوّرها منذ قرون مقارنة معروفة النتائج سلفاً.
لكن هل هذا يكفي ليكون مبرراً لتأييد الأرقى ثقافة على الأدنى مرتبة؟ أليست العنصرية متحجّجة بمقولات كهذه لتبرير إقامتها التراتبية بين الشعوب والأقوام؟ هل كان يمكن دوبريه إجراء المقارنة نفسها بين النخبة البيضاء في جنوب إفريقيا أيام الأبارتيد وزعماء قبائل الزولو مثلاً؟ وهل كان سيتسبّب تفوّق الأوائل (البديهي) بتأييد منه أو بتماهٍ من الأوروبيين مع النظام العنصري؟قد تكون الإشارة متسرّعة في كتاب دوبريه الى النخبتين، وهي حكماً لا تشي بأي ميل عنصري لديه – إذ هو يساجل العنصريين في الكتاب نفسه على نحو يهشّمهم – لكنها في مكان ما تعبّر عن قدرة المعايير العلمية المجرّدة من كل اعتبارات قانونية أو قيمية على الدفع نحو خيارات سياسية بعيدة عن القوانين الدولية وشرعة حقوق الانسان وسائر المبادئ التي صاغتها النخب الغربية المتنوّرة، لا سيما بعد الثورة الفرنسية، وعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية.
أما نقطة الاختلاف “المركزية” مع دوبريه (التي تتسبّب ببعض الأمور كالتي أخذناها عليه آنفاً) فهي في البعد السياسي لتمييزه بين شكل التأسيس الإسرائيلي (أو حرب الاستقلال كما يسمّيها الإسرائيليون) وبين حرب 1967 والتوسّع الاحتلالي والاستيطاني الذي تلاها. بهذا المعنى، فالاختلاف هو مع دفاعه عن الصهيونية التأسيسية للكيان العبري عامي 1947 و1948 واعتبار التأسيس بداية لتاريخ الصراع. ففي الأمر، أولاً، إغفال لعقود سبقت التأسيس، وسبقت بالتالي المحرقة وأهوال الحرب العالمية التي أعطت زخماً عاطفياً هائلاً للمشروع الصهيوني وأمّنت له غطاء “أخلاقياً” أوروبياً ودولياً، وهي عقود هجرة يهودية الى فلسطين الانتداب البريطاني، وبتسهيل أحياناً من سلطات الانتداب، تسبّبت باستيلاء على الأراضي وببدء الضغط على الفلسطينيين لتعديل خريطة البلاد الديموغرافية. وتسبّبت أيضاً بصدامات وانتفاضات كانت “ثورة 1936” تتويجاً لها. وفي الأمر، ثانياً، اعتبار مفاده أن التهجير والتشريد للفلسطينيين لإحلال التائهين والهاربين من جحيم أوروبا مقبول طالما أن اللحظة كانت لحظة مأسوية على القارة العتيقة المليئة باللاجئين.
وهذا في ذاته تبرير لشكل من أشكال التطهير العرقي الممنهج بحجة وقوع ما يماثله (أو أكثر) في بعض المناطق في روسيا وبولونيا وألمانيا، على ما يورد دوبريه. وحتى لو سلّمنا أن ثمة تبدلاً كبيراً قد طرأ على طبيعة إسرائيل بعد حرب العام 1967، فإن في موقفه النقدي من هذا التبدّل، ومما يسمّيه “التوحّد” الإسرائيلي وبروز إسرائيل ثانية تقوم على بناء الجدار وقضم الأراضي والاستيطان والانتقال من “الكيبوتز” الى “الكيبا”، في موقفه هذا، ما يحيلنا مجدداً الى مبرّرات رأيه في تطوّرات العام 1948. فهل لو بُنيت كيبوتزات بالزخم نفسه الاشتراكي التجديدي نفسه (الذي قام بحسبه عام 48) في الضفة الغربية ومحيط القدس الشرقية (بعد العام 67) عوض بناء المستوطنات حيث مرتدو الكيبا المتطرفون دينياً والقادم كثر منهم من الولايات المتحدة (وفرنسا) لكان موقفه تغيّر من الاحتلال اليوم؟ وهل لو أنه أجرى مقارنة بين موشي دايان وغولدا مائير مثلاً وبين عدد من الملوك أو الزعماء العرب عام 1967، لكان اتّخذ مجدّداً الموقف نفسه الذي اتّخذه لحظة تأسيس إسرائيل؟ ثم من قال إن “الكيبا” بالمؤديات السياسية لأيديولوجيّتها هي أشدّ إيلاماً مما تسبّب به “الكيبوتز” عند مصادرة الأراضي وتشريد القاطنين فوقها؟طبعاً ليس المقصود اعتبار أن لا فرق بين القوى السياسية في إسرائيل، أو بين التيارات الثقافية، أو بين الميول المسالمة ليساريي تل أبيب وعنصريي المستوطنات أو يمينيي الهجرة الروسية. وطبعاً هناك تحوّل أصاب المجتمع الإسرائيلي وتطرّف ديني ازداد في أوساطه. لكن الدخول في تصنيفات قد تبرّر فظاعات يرتكبها تقدّميون (بالمعنى الاجتماعي للكلمة) وتدين فظاعات أخرى يرتكبها “رجعيون” يوقع ريجيس دوبريه وغيره أحياناً في ازدواجية معايير تضعف تماسكهم الفكري-السياسي عند مقاربتهم الصراع الفلسطيني الاسرائيلي.
يبقى السؤال الأهم في الآخر: هل السلام ممكن في فلسطين؟تبدو إجابة برنافي في آخر الكتاب أكثر إقناعاً من إجابة دوبريه في عرضه. فالسلام على أساس قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة الى جانب إسرائيل لم يعد ممكناً تحقيقه بغير الإكراه: الإكراه الأميركي والدولي لإسرائيل بالانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967. عدا ذلك، يمكن أن تستمر الأمور على ما هي عليه وأن تزداد سوءاً عاماً بعد عام.
لكن هل الإكراه هذا وارد؟ سؤال آخر لا تبدو الإجابة عليه، الآن، إيجابية، خاصة في ظل المواقف الأميركية المراوحة بين الانحياز والعجز، وفي ظل الواقع الميداني والانهيارين الفلسطيني والعربي. لكن المطالبة به تتصاعد، على الأقل في فرنسا، وآخر أصواتها صوتا وزير الخارجية الفرنسي الأسبق أوبير فيدرين ورئيس الحكومة الأسبق فيليب دوفيلبان…
(•) Régis Debray- A un ami Israelien – Flammarion – 2010
(ارسل الكاتب هذا النص لـ”قضايا النهار” وهو مكتوب لمجلة الدراسات الفلسطينية في عددها الصادر مؤخراً (84).)