أستاذ عزمي بشارة، تحية، أما بعد
أحمد نظير الأتاسي
في العاشر من أكتوبر (تشرين الأول)، كتب الأستاذ عزمي بشارة على “الجزيرة. نت” مقالة مؤثرة بعنوان “مستقبل النضال الفلسطيني … رسالة إلى الشباب”.الأستاذ عزمي يرى نفسه عجوزاً، وعاجزاً أيضاً، فيتوجه إلى الشباب ليقيّم تجارب الماضي ويستخلص الدروس من أجل المستقبل “لأنهم المستقبل ذاته”. المؤثر في المقالة هو ذلك الإحساس بالعجز والإخفاق الذي لا يستطيع الكاتب أن يواريه خلف نبرته المتفائلة والمشجعة. كتبتُ في مقالتي السابقة المعنونة “ذاكرة الجسد والقومية العربية” عن حال أيديولوجية القومية العربية اليوم ومآلها المستقبلي كما أراه. حاولت في تلك المقالة أن أفصل اللغة عن الأيديولوجيا وأن أفصل المواطنة عن الإنتماء القومي الذي لا أراه أكثر من قرار يتخذه الإنسان دون أي سند خارج منطق الأيديولوجيا التي تعرّفه وتدعو إليه. وليس طرحي ذاك نكأً للجروح أو استسلاماً لواقع الهزيمة الذي لا يمكن نكرانه، إنما محاولة صادقة لتلمس طرف الطريق في العتمة المطبقة. ويعيدني الأستاذ بشارة إلى الموضوع ذاته والأجواء الحزينة ذاتها. فالسؤال الذي أعود وأطرحه هو: كيف نفهم ونحل مشاكلنا دون أيديولوجية القومية العربية؟
يحنّ عزمي بشارة محقاً إلى أيام النضال لكنه يعرف أن هذه الأيام انتهت. وهو يُلقي على كاهل الشباب مهمة إعادتها من خلال منظمات المجتمع المدني لأن أيام حركات التحرر المسلحة ولّت (بما فيها حماس على ما أعتقد). إن ما يقترحه ليس حلاً شاملاً أو واضحاً لكنه يرى أساسيات لا يجب التخلي عنها. وهي أولاً “الحقوق الثابتة” (الأرض والعودة والمواطنة)، وثانياً نبذ التفاوض الفردي والتسوية مع إسرائيل في غياب حل نهائي واضح يضمن الحقوق الثابتة، وثالثاً إستمرار الحراك الجماهيري بكل أشكاله ما دمنا دون الحل النهائي العادل. وهو يرى هذا الحل في ” أن يعيش السكان في فلسطين كلھا مواطنين متساوي الحقوق في دولة واحدة.” ويعني بالسكان العرب واليهود (والروس أيضاً). الحل إذاً دولة واحدة ليست صهيونية ولا يهودية، لا بل دولة لمواطنيها، ديمقراطية تنتمي “إلى حاضنة أكبر ھي الوطن العربي”. بالنسبة للكاتب، حل الدولتين أخفق لأن إسرائيل لن تسمح بأكثر من سلطة فلسطينية تقوم بأعمال البوليس بدلاً عنها. “القيادة التاريخية للشعب الفلسطيني” أخفت بانتهاجها طريق أوسلو “لأنھا وضعت استمرارھا السياسي وبقاءھا قيادةً فوق حقوق ومصالح الشعب الذي تمثله، ورھناً بالمعطيات الدولية.” بالنسبة للكاتب، عرفات لم يتخذ القرار الوحيد المتاح حينئذ لأنه “في نفس اللحظة التاريخية تولّدت خيارات مقاومة أخرى”.
نعم، وهذا ما لم يقله الكاتب صراحةً، لقد فاوض عرفات لأنه قارب الموت ولم يحقق حلمه. وأكرر “حلمه هو”، لأن ثلاثين أو أربعين سنة من حكم الرجل الواحد جعل من قضية فلسطين ملكاً شخصياً له وحكراً عليه. فالحلم إذاً لم يكن دولة فلسطينية بل دولة فلسطينية هو مؤسسها ورئيسها. ولا تخرج حماس عن حدود هذه العقلية الأبوية فهي أيضاً تملك القضية الفلسطينية التي ترى حلها في دولة إسلامية تكون هي على رأسها. في كلتا الحالتين ستكون هذه الدولة المنشودة دولة ريعية (هذا ما عناه بتلميحه إلى “بضعة ملاهٍ ومقاهٍ وأكشاك ومجمّعات استھلاكية”( بوليسية تزج بمعارضيها في السجون وتوزع المناصب على أعوانها وتعِد رعاياها (وليس مواطنيها) بالنضال المستمر. وهو ما نراه متحققاً في حالة دولة السلطة في الضفة ودولة حماس في القطاع. إذا كان حلم عزمي بشارة قد أخفق فإني أعتقد أن أحلام الطرفين المتصارعين (السلطة وحماس) قد تحققت. فإلى من ياترى يوجه عزمي بشارة نداءه وأي شباب يعني؟ وأي نضال مستمر يريدهم أن ينخرطوا فيه مهما تعسّرت الأمور وشحّت الخيارات؟ لم يجد في الحقيقة، وهذا هو المؤثر في المقالة، إلا أن يوقظ في قارئيه شيئاً سماه “الوطنية الفلسطينية”، ويعني به الوحدة حول الثوابت مهما اختلفت الآراء لأنها بالنسبة له تعرّف الفلسطينيين كشعب. فهو يتساءل: “ماذا ينفع الإنسان لو ربح بضعة ملاهٍ ومقاهٍ وأكشاك ومجمعات استھلاكية في ظل الاحتلال، وخسر مقابل ذلك ذاته كشعب؟ وكيف نكون فلسطينيين من دون فلسطين، ھل نصبح ضفاويين وغزاويين ومقدسيين، أو نابلسيين؟” وهنا نصل إلى بيت القصيد، أي إلى الأيديولوجيا التي نسميها القومية. هل يبكي الأستاذ بشارة غياب القومية (العربية أو الفلسطينية) أم أنه يبحث عن حل للقضية الفلسطينية؟ وهل تُفصَل المسألتان؟
الأستاذ بشارة يريد بقاء القومية العربية، وبقاء فلسطين كقضيتها المركزية، وتفعيل الوطنية الفلسطينية (وهل توجد هذه بوجود تلك، فالأولى تنفي الثانية)، وتأبيد النضال المتغيّر الأوجه حسب شحّ أو وفرة الخيارات، والدولة الواحدة الديمقراطية غير الصهيونية وغير اليهودية والتي تنتمي إلى حاضنة الوطن العربي. ثم يلقي بهذا كله على كاهل الشباب. ماهي الوطنية الفلسطينية داخل إطار القومية العربية؟ ما هو النضال الأبدي الذي يتأقلم ويتغير؟ وماهي الدولة الواحدة التي تضم يهوداً وفلسطينيين لكن تنتمي إلى حاضنة الوطن العربي؟ إننا الآن نجد صعوبة في تشكيل عراق أو لبنان أو مصر (أو أي بلد شرق أوسطي) يعترف بتعدد مواطنيه ويعلن في الوقت نفسه أيديولوجيا رسمية واحدة وموحّدة، فكيف “بإسراطين”. لا أقصد التهكم لأني أحترم الأستاذ عزمي بشارة ومواقفه ونضاله وثقافته وأعتبره أفضل محلل سياسي عربي، رغم أنه يكتب للجزير.نت التي أنفر منها شكلاً ومضموناً وأسلوباً رغم اطلاعي عليها. وأوافق الأستاذ عزمي على حلوله التي طرحها لكني أود أن أضعها في إطار نظري أو أيديولوجي مختلف (إذ لا بد من أيديولوجيا) قائم على المصلحة القطرية. إني أتساءل إذا كانت القومية العربية هي الوعاء الأيديولوجي الأمثل لقضية فلسطين اليوم. فإن لم تكن فما الوعاء الذي أدعو إليه؟
لطالما تساءلت عن سر تعلّق العرب بالقضية الفلسطينية رغم إهمالهم للفلسطينيين في بلادهم. كيف يتعلق إنسان بقضية لا تخصه مباشرة دون أن يتعلّق بأهلها. في الوقت ذاته أتساءل كيف انتظر فلسطينيو الضفة والقطاع ثلاثين سنة العرب الآخرين ليحلوا لهم مشكلتهم (هذا قبل الإنتفاضة الأولى). لقد حققت الإنتفاضة الأولى في عدة سنوات ما لم يحققه النضال المسلح العنيف في عدة عقود. وآخر تساؤلاتي وهرطقاتي هو سر إغفال المقاومة الفلسطينية المسلحة لحق السكان المدنيين في دول الجوار (لبنان مثلاً) بحياة مسالمة بعيدة عن الحروب المستمرة والنضال الأبدي. رغم تعلق العرب الظاهري بأيديولوجيا القومية العربية ورغم اعتبارهم القضية الفلسطينية قضيتهم المركزية، فإني أرى أن هوياتهم لا تتعدى حدود بلداتهم ومدنهم وقبائلهم وعشائرهم وطوائفهم. فلا وجود لهوية عربية، ولا حتى لهوية سورية أو عراقية أو جزائرية أو لبنانية أو مصرية (وهي في الحقيقة في طور الظهور لتحل محل القومية العربية). ما يوجد هو هوية شامية أو حلبية أو بغدادية أو غزاوية (لا أحد يقول غزّية هذه الأيام!) أو مقدسية أو نابلسية أو سنية أو شيعية أو مسيحية أو مارونية أو أرثوذوكسية. هذا ادعاء صادم وغير مفهوم بالنسبة للإنسان الذي يعيش في أية مدينة أو قرية “عربية” ويتفاعل مع الأخبارالتي يسمعها على التلفزيون، لكن الحال يختلف تماماً حين يخرج هذا الإنسان من قوقعته الضيقة التي ينتمي إليها. خذ العاملين العرب في دول الخليج أو المغتربين العرب في أوروبا أو أمريكا، أو حتى الطلاب في جامعة أية عاصمة عربية.إن انتقاء الأصدقاء والمعارف (وحتى الأعداء) يقوم على أساس المدينة والعشيرة والطائفة، مع تواصل مع الآخرين فقط عند غياب أعضاء الفرقة المفضلة.
ولا أعتقد أن الحال يختلف تماماً بالنسبة لقاطني المخيمات الفلسطينية. ولقد طرح المسلسل السوري “تخت شرقي” مأساة الفلسطيني الذي يتعاطف معه الجميع لكن الذي لا يزوجه أحد ابنته لأنه “مقطوع من شجرة” أي لا أصل له ولا هوية، إنه الغريب الأبدي الذي لا نثق به لأننا لا نعرف أصله وفصله وعشيرته، أي مكونات الهوية المحلية التي أتكلم عنها. وكذلك فإن تلميذي الكويتي يفرّق تماماً بين قضية العرب المركزية وبين طرد أربعمئة ألف فلسطيني لأن بعضهم ساعد قوات الإحتلال العراقي على حد زعمه. ففي غياب أية رابطة عربية عامة (كرابطة المواطنة في دولة واحدة والتي هي باعتقادي أساس الأيديولوجية الوطنية أو القومية، ونحن الوحيدون الذين يفرقون بين الإثنتين)، فكيف يمكن إذاً أن يحثّ الأستاذ بشارة الشباب “العربي” كلهم على النضال وكأن قضية فلسطين تعني حياتهم أو موتهم، مصيرهم ومستقبلهم وهم يرون أن الغزاوي لا يعترف بالنابلسي والعكس بالعكس؟ وإذا كانت إسرائيل خطراً على بعض الدول العربية فلا بد أن سلاماً منفرداً حسب الأعراف الدولية سيعفي الجميع من مشقة النضال الأبدي غير الواضح المعالم أو الأهداف ويحصره بفلسطينيّي الـ 48 وفلسطينيّي الضفة والقطاع. “وياجامع إنت مسكّر (مغلق) ونحن مرتاحين”، كما يقول المثل السوري.
إن غطاء القومية العربية والنضال من أجل “قضيتها المركزية” أتاح للعرب استغلال القضية الفلسطينية لبناء دولهم المستقلة دون أي التفات لمعاناة اللاجئين الفلسطينيين في بلادهم، كما أتاح للمقاومة الفلسطينية المسلحة خوض حروب مستمرة دون التفات إلى حق أي إنسان أن يرفض حرباً لا يريدها. وأخيراً فقد أتاحت القومية العربية لعرب الداخل أن ينتظروا الخلاص من الخارج مع بعض تجارب الإندماج في الدولة الإسرائيلية التي أخفقت. وحتى الآن نخوّن بعضنا البعض بناءً على مواقفنا من القضية الفلسطينية (القضية المركزية للقومية العربية) رغم أننا لا نقدم أي شيء لها أو لأهلها. ومن نفس المنطلق يطلب عرب الداخل من القومية العربية (باسم قضيتها المركزية) أن تنقذهم من إسرائيل التي أيقنوا أنها لا تريدهم. ولأشرح فهمي لهذه التصرفات المتناقضة مع الأيديولوجيا المعلَنة أقدّم هذا المثال: عندما نجحت حماس ومناصروها بأسلمة القضية الفلسطينية رأيت مسلمين باكستانيين مثلاً ولدوا وعاشوا في أمريكا يجادلون و يصرخون ويغضبون من أجل فلسطين كما يفعل العرب. وتماماً كما يفعل العرب لا يقدّمون لفلسطين أي شيء مجدٍ. لا بل لا يفقهون من قضية فلسطين إلا أنها حرب كونية بين الإسلام واليهودية (دين الحق ودين التحريف) بدأت منذ آلاف السنين وستستمر إلى الأبد. فما ينفع هذا المسلم الأمريكي تعلقه الجديد نسبياً بقضية فلسطين؟
جوابي هو أننا في الحقيقة نُسقط قضايانا على القضية الفلسطينية ونعبّر عن سخطنا ويأسنا وصراعاتنا من خلالها لكن ليس لها أو من أجلها، لأنها تمثل الفضاء التعبيري الوحيد المسموح لنا به. فيجب إذاً أن ننظر إلى المسألة من منظار آخر. هل ياترى يكون الحل بتحويل القضية إلى قضية فلسطينية داخلية تخص أهل الضفة والقطاع فقط؟ أم هو بالتمسك بالقومية العربية آملين أن تتحقق الوحدة يوماً وتبتلع الدولة الموحدة دولة إسرائيل وشعبها؟ ليس عندي حل شامل أو حتى جزئي. ولا أعتقد أن الوحدة العربية ستتحقق في أي مستقبل قريب ولا أؤمن بضرورتها حتى. ولا أعتقد أن حرباً ضد إسرائيل أو عدة حروب ستنتهي بانتصار العرب وزوال إسرائيل. ولا أعتقد أن أمريكا ستتوقف عن الدعم غير المشروط لإسرائيل. ولا أعتقد أن السلام مع إسرائيل سيقود إلى سلام فعلي أو إلى حل لمشكلة الفلسطينيين (في الداخل أو الخارج). طيب، باهي، القومية كانت غطاء، فكيف نتعامل مع قضية هي حقيقية أكثر من الحقيقة؟
أولاً وقبل كل شيء، القضية هي قضية ناس وليست قضية أرض أو عقارات. لقد نجحت إسرائيل بتحويل القضية إلى مطالبة ببعض الأراضي. ولا أعتقد أنها ستعطي أحداً أكثر من بضع دونمات من صحراء النقب، أو قطاع غزة كما كان مخطط شارون. وليست القضية قضية دولة أو دولة قومية. لقد قامت إسرائيل على مبدأ الدولة القومية وكذلك فعلت كل دول مرحلة ما بعد الاستعمار الأوروبي. وها نحن اليوم نعود إلى تعريف المواطنة ونطالب الدول القومية نفسها بحقوق المواطنة التي نرى فيها حلاً لمشاكل التعدد الإثني والديني والثقافي ولمشاكل الهجرة العالمية للعمالة والعقول. إنما القضية كما أراها هي قضية ناس لا يعترف بهم أي إطار مؤسساتي (أليست مأساة البشرية جمعاء أننا بحاجة دائمة لاعتراف مؤسسة ما بإنسانيتنا حتى تدخل هذه حيز التحقيق). وهؤلاء هم ناس داخل فلسطين وناس خارج فلسطين. ناس الداخل لم يحصولوا على حقوق المواطنة ويُتوقع طردهم في أية لحظة؛ وناس في الضفة والقطاع محاصرون من كل الجهات بقصد خنقهم أو تهجيرهم (وتهجيج أصح هنا)؛ وناس أصبحوا لاجئين وبقوا هكذا على الهامش لا تقبلهم أية دولة كمواطنين ذوي حقوق كاملة. لقد كان اللجوء وسيلة لإبقاء الصراع المسلح حياً فأصبح معضلة عربية تستخدمها إسرائيل للمساومة (السلام مقابل حل مشكلة اللاجئين).
هذه هي القضية، أما المشكلة فأخرى مختلفة وهي ليست بالناس الذين تحدثت عنهم بل بوجود إسرائيل نفسها كدولة توسّعية إقصائية عنصرية. وبعيداً عن شعارات القومية والمقاومة فقد تبدّى لي، من خلال إقامتي الطويلة في أمريكا، أن إسرائيل تشكل خطراً حقيقياً على الجميع من خلال وجودها التوسعي المعادي ومن خلال علاقتها الغريبة مع الولايات المتحدة. وليست المشكلة كذلك في اليهود أو اليهودية أو في سيطرتهم المزعومة على مراكز القرار في أمريكا وأوروبا وإنما في الأيديولوجية الصهيونية بشكلها الحديث (أي حاجتها الدائمة للحرب لتبرير الوجود)؛ وفي الإرث الكولونيالي والعنصري الأوروبي الذي امتصته أمريكا كاملاً بعد الحرب العالمية الثانية إضافة إلى أحلامها الإمبراطورية الخاصة، والتي تكوّن الصهيونية الأمريكية جزءاً أساسياً فيا؛ وأخيراً في الأيديولوجيات البروتستانتية الخلاصية الأمريكية التي تترقب عودةً قريبة للمسيح وتتمسك بجذور مزعومة لأفكارها في العهد القديم ونبوءاته، وهنا قد نفهم علاقتها الغريبة مع إسرائيل الحالية. نحن أما عائقين أساسيين يكادان يندمجان في واحد هو عائق ضخم لا أرى له زوالاً في القريب العاجل لأن قوة أمريكا في خيراتها وثرواتها وليست فقط في إمبراطوريتها كما كانت حال الإمبراطورية البريطانية، فهي باقية إلى أمد ليس بالقصير. فما العمل؟ إننا حقيقة ننطح رؤوسنا بالحائط كما يقولون.
أولاً، أعتقد، كما يعتقد الأستاذ بشارة، أن الحل قد يكون في دولة واحدة تحترم جميع مواطنيها، لكن ليس ضمن حاضنة الوطن العربي. ثانياً، وبناءً على ما سبق، واعترافاً بالواقع القائم، لابد من تفادي الصدام مع أمريكا والحرب مع إسرائيل. يجب فعلاً أن “ننسى إسرائيل” أن “نطنشها” مع اتقاء أذاها والحد من توسعها وإجبارها على مواجهة مشاكلها. إنهم فعلاً ينظرون إلينا على أننا شعب واحد في بلدان مختلفة. ويحاولون “ضربنا في الصميم” بإقناعنا أن القومية العربية فشلت وأن زمن الاستسلام قد حان. لكن هذا ليس أساساً كافياً لأيديولوجية قومية، خاصة لأيديولوجية لم تعد حركة تحررية ولا تستطيع المحافظة على جبهة واحدة تجاه الأعداء. وأنا أقول، عندما تسحب أساس مخطط الخصم فقد أربكت مشاريعه وخطواته المستقبلية. القومية العربية غير موجودة كأيديولوجية تحررية ولا حتى كأيديولوجية دولة قومية موحدة، فإذا اعترفنا بذلك كسرنا الغطاء الذي يؤدي إلى تناقضات كثيرة ذكرت بعضها أعلاه. لكن هذا لا يعني كسر التضامن بين دول المنطقة (وضمن إطار اللغة العربية) وفي كل المجالات دون تهديد الهويات المحلية والنخب المحلية ودون شعور بالذنب الدائم ودون الحاجة إلى اتخاذ قرارات متناقضة تحكمها المصلحة المحلية لكن تعجز الأيديولوجية القومية عن تبريرها. مما يفقد الحكومات المحلية جزءاً كبيراً من مصداقيتها ومشروعيتها ويفض الدعم الشعبي عنها. لقد أثبتت دراسات المؤرخين الإسرائيليين الجدد (مثل إيلان بابه) أن إسرائيل هجّرت المواطنين العرب عمداً، كما أثبتت أن العديد من الحكام العرب في الخمسينيات عرضوا السلام على إسرائيل (لكن بن غوريون رفض) لكنهم خافوا ردود فعل شعوبهم ومزايدات عبد الناصر التي لم يكن هدفها إلا بناء إمبراطوريته الخاصة.
نعود إلى مقترحاتي القائمة على حسابات نفعية محلية. إذن التضامن بين دول المنطقة العربية وغير العربية (وليس الوحدة بالضرورة) ضروري جداً، كما أن السلام والتسوية المنفردين مع إسرائيل الصهيونية مضرّين بالجميع أيضاً. ثالثاً، وهو الأهم، لا بد من التركيز على النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي والاجتماعي فهو ضمانتنا المستقبلية ضد توسع إسرائيل وهيمنتها. لكني لا أعني السلام ولا التسوية. إن دعم أمريكا غير المشروط لإسرائيل وفرضها السلام على الدول العربية يجعل هذه الدول تعتقد بأنها تحتاج إسرائيل من أجل السلام واتقاء أذى أمريكا. لكن الحقيقة هي أن إسرائيل بحاجة إلى العرب ليشتروا بضائعها ويسلّوا سائحيها ويعملوا في مصانعها ويعترفوا بوجودها، هذا في حالة السلام، أما في حالة الحرب فهي بحاجة إليهم لتأبيد أسطورة “اليهودي المعرض للفناء” والذي “عاد إلى أرض أجداده وحول الصحراء إلى جنة خضراء”. إن السلام مع إسرائيل لا معنى له في قاموسهم فكيف يكون له معنى في قاموسنا. وإن كنا لا نستطيع فرض شروطنا على إسرائيل، وإن كنا لا نريد الاشتباك معها في حرب أو حروب خاسرة، فيمكن على الأقل تجاهلها، أي توقيع اتفاقية عدم اعتداء متبادل دون تسوية. أو يمكن حتى بناء سور عازل بين العرب وبين إسرائيل. فالحقيقة أنهم يحتاجون إلينا ولا نحتاج إليهم. إن اشتراط إسرائيل الدائم على الاعتراف بحقها في الوجود كدولة يهودية دليل على مدى حاجتهم النفسية والواقعية لنا ولقبولنا بهم. إن التسوية خسارة محققة وتنازلات لا نهاية لها مهما كانت وعود السلام والاستقرار والدعم الاقتصادي معسولة ومهما قدمت أمريكا من ضمانات. كما أن التسوية الفردية تُضعف الجميع كما أصبح ذلك واضحاً. إذن لا حرب لكن لا تسوية، وهذا حل لن تستطيع أمريكا أن تعاقب الدول العربية عليه. التعامل مع أمريكا يجب أن يكون من خلال استغلال تناقضاتها الأيديولوجيا بين اعتقادها بأنها إمبراطورية الخير وبين دعم إسرائيل الشريرة (وقد بدأ هذا التناقض بالظهور مع حرب لبنان 2006 والهجوم على سفينة مرمرة وتسفيه نتنياهو لأوباما ومشاريعه في الشرق الأوسط).
أما بالنسبة للخطوات الآنية، فإذا كانت إسرائيل تريد من الجميع الإعتراف بيهوديتها الأبدية فعلى الدول العربية أن تجتمع وتقرّ فلسطينية فلسطين الأبدية. ليس في أيدي العرب ورقة رابحة إلا الكلام، وهذا كلام سيدفع إسرائيل إلى الجنون. أعتقد أن على الدول العربية أن تمنح اللاجئين الفلسطينيين جنسية خاصة تجعلهم مواطنين على أراضيها وأبناءً أبديين لأرض فلسطين. إن حق العودة حق عادل لكنه صعب التحقيق لذلك يجب أن يبقى حياً نظرياً بربط أبدي بين “اللاجئين” والأرض. وإسرائيل تستخدم حساسية وضع اللاجئين في البلدان العربية كورقة مساومة. ولذلك فإن منحهم جنسيات عربية سيحل أزمة حياتهم الصعبة وسيأخذ من إسرائيل ورقة المساومة هذه. أما اعتبارهم أبناءً أبديين لفلسطين فسيضع ورقة المساومة في أيدي الدول العربية. فكيف يمكن تحقيق ذلك تحت غطاء قانوني دولي كما تقتضي “الموضة هذه الأيام”؟ إذا اعتمدت إسرائيل على قرارات عصبة الأمم ومن بعدها هيئة الأمم في احتلالها لأراضي الـ 48 (قرار التقسيم) وتسييرها لأراضي الـ67 (سابقاً اراضي الإنتداب البريطاني)، وإذا كانوا لا يعيرون أي اهتمام إلا لقرارات دول مستقلة بمؤسسات منتخبة (ويزعمون أن الفلسطينيين ليسوا شعباً لأنه لا دولة له، ونعود هنا إلى الغطاء المؤسسي المأساوي)، فإن المؤتمر السوري العام المنعقد عام 1919 كان جمعية وطنية منتخبة وممثلة لكل أنحاء سوريا الحالية وفلسطين ولبنان والأردن وقد أقرّ قيام دولة واحدة مستقلة ووضع لها دستوراً. إذا اعترفت دول سوريا والأردن و لبنان باستقلال بعضها البعض فإن أياً منها لم يعلن إستقلال فلسطين عن أي منها. كما لم يعترف أي منها بقرار التقسيم الصادر عام 1947 (عدا الأردن الذي وقع اتفاقية سلام واعتراف مع إسرائيل لكنه اعتراف بإسرائيلية أراضي الـ 48 وليس أراضي الـ 67). إذن بالنسبة للقانون السوري مثلاً لا تزال فلسطين سورية وأهل فلسطين مواطنين سوريين (لكن على سوريا أن تعتبر تأسيسها نابعاً من قرارات المؤتمر السوري العام وليس من إنسحاب المستعمر). إذن منح اللاجئين جنسية خاصة ممكن حسب القانون الدولي.
لكن ماذا عن عرب الـ 48 والـ 67؟ إن الفصل بن أراضي الـ 48 وأراضي الـ 67 ليس في مصلحة أية دولة في المنطقة لأنه سيؤدي في النهاية إلى أزمة لاجئين جديدة بعد أن تطرد إسرائيل مواطنيها العرب (لرفضهم أخذ قسم يهودية إسرائيل) و سكان الضفة (بعد ضمها إلى دولة إسرائيل). إن أقصى ما يمكن للدول العربية عمله من أجلهم سيكون تأكيد هويتهم الفلسطينية لكن دون منحهم أية جنسية لأن ذلك سيبرر لإسرائيل طردها إياهم. يجب أن تفرض دول المنطقة بشتى الوسائل على إسرائيل قبول عرب أراضي الـ 48 و الـ 67 كمواطنين على أراضيها. وهذا يكون بأن تُسقط إسرائيل يهوديتها مقابل أن تُسقط الدول العربية فلسطينية الأرض. إذا كان الأستاذ بشارة يؤمن بأن الحل يكمن في الدولة الواحدة فلا بد أن تتحول القضية الفلسطينية إلى قضية حقوق مدنية كما حدث في جنوب إفريقيا. إن صراعاً كهذا سيجرّد إسرائيل من أي دعم خارجي ومن أي معنى للتمسك بيهودية الدولة. إن تشبث القادة الإسرائيليين بهذا المطلب الآن يدل على خوفهم الشديد من رجوح كفة الميزان السكاني وخسارتهم المعركة الأخلاقية إذ لا يمكن أن يحتفظوا بصورة الضحية ومواطنوهم يطالبون بحقوقهم المدنية دون الدعوة إلى رمي السكان اليهود في البحر. إن المعركة الأخيرة هي معركة عرب الداخل والضفة والقطاع (بدعم سياسي وتضامني ومادي من فلسطينيي الشتات)، وهي معركة حقوق مدنية وليست معركة عسكرية على طريقة الحروب التحريرية.
موقع الآوان