ذاكرة الصفحاتصبحي حديدي

أدونيس والوهابية: عود على بدء!

null
صبحي حديدي
كتب أدونيس، في صحيفة “الحياة” اللندنية السعودية، يردّ على افتتاحية الدكتور سماح إدريس في شهرية “الآداب” اللبنانية، والتي تننقد موقف أدونيس من أفكار الإمام محمد بن عبد الوهاب. وفي الردّ اعتبر أدونيس
أنّ إدريس يفعل “كما فعل من قبل أصدقاؤه الثوريون، بروحٍ سلفيّة، والسلفيون بعباءةٍ ثورية”، دون أن يذكر أيّ اسم، ممّا دعا إدريس (محقاً، في تقديري) إلى أن يبادر فيسعف القارىء بتسمية اثنين من أفراد هذه الفئة الباغية: الدكتور صبري حافظ، وكاتب هذه السطور.
وسأل إدريس، مخاطباً أدونيس: “لماذا لم تُجِبْ إلى هذه اللحظة عن الأسئلة التي طرحها عليك في “الآداب”، قبل 12 عاماً، منتقداك الدكتوران صبري حافظ وصبحي حديدي (الذي تخاله، من دون أن تسميه، صديقي مع أنّني لم أره ولم أتحدَّثْ إليه يومًا)؟ إنْ كنتَ قد نسيتها فسأختصرُها لك هنا: كيف تُدْرج، يا عزيزي، الإمام بن عبد الوهاب ضمن “فكر النهضة” وهو الذي حرّم أنواعاً من الموسيقى، وسوّغ الحجاب، وأفتى بما لا يحصى من الممارسات الرجعية… إلاّ إذا كانت الرجعية مرادفةً للنهضة؟”…
وسواء كان أدونيس يضعني حقاً في تلك الفئة، وهذا ما أرجّحه بقوّة، ، أو يقصد سواي، فإنّ الإتيان على اسمي يحتّم عليّ العودة إلى بعض تفاصيل ذلك الملفّ المحزن، أدونيس والوهابية، الذي كنت أظنّ أنّ الشاعر الكبير قد طواه بعد 12 سنة. وأبدأ بالقول إنني كنت، في حدود ما أعلم، أوّل مَن اثار حكاية قيام أدونيس وخالدة سعيد باختيار وتقديم نصوص من محمد بن عبد الوهاب، وذلك في هذه الزاوية من صحيفة “القدس العربي”، أواخر العام 1994. وكانت المختارات قد صدرت في بيروت سنة 1983، عن دار العلم للملايين، ضمن مشروع بعنوان “ديوان النهضة” ضمّ مختارات من معروف الرصافي وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده ورشيد رضا وجميل صدقي الزهاوي. وقد تساءلت يومذاك عن أمرين:
ـ كيف يبرّر أدونيس إدراج العقيدة الوهابية في فكر النهضة؟
ـ لماذا رفض ـ ويرفض حتى اليوم في الواقع ـ إدراج الكتاب ضمن لائحة أعماله وترجماته ومختاراته؟
ثمّ شهدت مجلة “الآداب”، صيف 1995، سجالاً حول الأمر بدأ من أدونيس، وشارك فيه تحرير المجلة والدكتور صبري حافظ وكاتب هذه السطور. وقد أوضح أدونيس أنّ مقدّمته تلك ليست إلا فصلاً من كتاب “الثابت والمتحوّل”، وإذا كانت قد صدرت في سلسلة النهضة فإنه “أوّل من نقد تلك التسمية، ودعا إلى تغييرها”، مضيفاً: “قدّمت الوهابية بموضوعية كاملة (…) وقد طرحت عليها، بعد عرضها، أسئلة تُظهر مدى الخلل فيها ومدى انفصالها عن الواقع المعيشي الحيّ”.
والحقّ أنّ أدونيس، كما ساجلت يومذاك، لم يكن يضيف جديداً بقدر ما يزوّدنا بمادّة لتساؤلات إضافية:
1 ـ أن تكون مقدّمته فصلاً من “الثابت والمتحوّل” (وهي كذلك بالفعل، ولكنها اُضيفت إلى الطبعة الرابعة من الكتاب، 1994!)، أمر لا يغيّر من حقيقة أنها نُشرت قبل 11 سنة في سلسلة النهضة، ثمّ أدخل عليها أدونيس جملة تعديلات تناسب المقام. لقد أوضحتُ بعض هذه التعديلات في حينه، ولن أعود إليها مجدداً، إلا في مثال واحد: في الكتاب يقول أدونيس إنّ “التقدّم في الإسلام، على الصعيد اللاهوتي، ليس أفقياً بل عمودي”، وفي المقدّمة يقول إنّ “التقدّم في الإسلام، على الصعيد اللاهوتي، ليس أفقياً أو عمودياً، بل دائري”! كيف، في غضون زمن قصير قياسي، كان التقدّم الإسلامي عمودياً، فانقلب إلى دائري؟
2 ـ أين، في المقدّمة، نعثر على أسئلة أدونيس التي “تُظهر مدى الخلل” في النظرية الوهابية، و”مدى انفصالها عن الواقع المعيشي الحيّ”؟ أقصى ما تنطوي عليه تلك “الأسئلة” هو غمغمة غامضة حول التاريخ والتقدّم ووثنية المال والواحد السياسي، وليس فيها أيّ موقف نقدي ملموس، وهي لا تشير قطعاً إلى خلل أو انفصال عن الواقع. وفي جميع الأحوال، ليس ثمة التباس في العبارة التصالحية الأخيرة التي تختتم المقدّمة: “هذه تساؤلات [ليست “أسئلة”، إذاً؟] لا تقلل في شيء أهمية التصانيف التي تركها الإمام محمد بن عبد الوهاب. وليس هذا مما تهدف إليه”.
3 ـ أين، في المقدّمة أو في أيّ مقام آخر، نقرأ نقد أدونيس لتسمية النهضة أو اعتراضه (الذي يتوجب، والحال هذه، أن يكون واضحاً، صريحاً، بلا غمغمة) على إدراج العقيدة الوهابية في أيّ فكر نهضوي؟ ولماذا لم يُسجّل هذا النقد في المكان الأبرز اللائق به، أي في المقدّمة ذاتها؟
4 ـ في المقابل، ولضرب مثال واحد جوهري، هل من النقد أو الاعتراض، أم هو تبرير وتجميل وتهذيب، أن يساجل أدونيس بأنّ وراء تحريم الإمام للصورة “رؤيا دينية ـ ميتافيزيقية، وأنّ هذه المسألة ليست محصورة في حدود الشرع، كما يذهب بعضهم، وليست مسألة تفسير متزّمت أو ضيّق للدين، كما يرى البعض الآخر”؟ أليس عجيباً أن ينفي عن تحريم الصورة أيّ تزمت أو تفسير ضيّق للدين؟ أليس مدهشاً أن يرى في التحريم “رؤيا”… هكذا، ليس أقلّ؟ بل يذهب أبعد، إلى حيث لم يتجاسر أيّ من أنصار الإمام أنفسهم، فيحدّد معنى الجمال والقيمة الجمالية في الإسلام كما يلي، ويشدّد على الكلمات بالحرف الأسود: “الجميل في الإسلام هو ما لا يمكن تصويره. هو ما يفلت من الحسّية، وما يتخطّى الإدراك الحسّي. الجميل متعالٍ سامٍ، لا يمكن احتواؤه في أيّ شكل محسوس، ولا يمكن أن يخضع لمعيارية الحواسّ”؟ وأمّا ذروة هذه السفسطة في تأويل أفكار الإمام، فهي ختام الفقرة: “وهذا يعني، فنّياً، أنّ القيمة الجمالية ليست في “الصورة” أو “الشكل”، وإنما هي في “المعنى”، وأنّ الجمالية هي في اللانهائية التي لا تُصوَّر، أو هي في ما “لا يتشكّل”. ويعني، تقويمياً، أنّ الجميل هو ما يقول الشرع إنه جميل”!
لله درّ إمام الحداثة المعاصرة!
ما الذي أبقاه لنا، نحن معشر الثوريين بروحٍ سلفيّة، والسلفيين بعباءةٍ ثورية؟

2007-06-07 11:28
أدونيس: تساؤلات حول استفتاء المتنبي
في بعض الأجوبة عن الاستفتاء حول المتنبي مع بعض الشعراء، ما يدعو الى تساؤلاتٍ أوجزها، استكمالاً لهذا الاستفتاء وعلى هامشهِ، كما يلي:
أًوّلاً، هل يصح تقويم الشعر بوصفه «عملاً»؟ الشّعر «لغة»، لذلك ينبغي تقويمه جماليّاً – فنّياً، بحصر المعنى. وليس «عملاً» لكي نقوّمه أخلاقيّاً، سلباً أو إيجاباً. الإصرارُ على تقويم الشعر، أخلاقيّاً في نوعٍ من «محاكمة» صاحبه، انما هو اصرارٌ على الاستمرار في متابعة «تقليدٍ»، تنكره، جَذريّاً، جماليّات الإبداع الفنّي – وبخاصّةٍ في عالم اليوم.
الشعر طريقةٌ في الحسّ بالوجود، وفي فهمه، وفي التّعبير عنهما. فلا يصحّ النّظر اليه إلاّ في حدود جماليّته، في معزلٍ عن كلّ بُعدٍ أخلاقيّ. فالشعر، تحديداً، «خَرقٌ» (يجوز له ما «لا يجوزُ لغيره)، فكيف يصحّ أن نُخضعَهُ للواجب، أو لما «يجب»؟
ثانياً، يثبت هذا الاستفتاء أنّ مشكلة الشعر العربيّ، اليوم، إنما هي، في المقام الأوّل، مشكلة قراءة. المثل الأكثر بروزاً ومباشرةً في هذا الإطار هو القراءة السّائدة لشعر أبي نواس. فقد قُرئ هذا الشعر بوصفه، حَصراً، شِعر خمرةٍ ومُجون. هكذا تمزج هذه القراءة، على نحوٍ مُسبَّقٍ وقَبليٍّ، بين «علم» الجمال، و «علم» الأخلاق، محوّلةً الحكم الأخلاقي الى حكم جماليّ. وقبل ذلك تختزل شعر أبي نواس، مُقلِّصةً إيّاه في ما يُخرجه من شعريته نفسها. هكذا تجهل هذه القراءة أنّ أبا نواس، فيما «يُترجِمُ» كينونةَ الخمرة (لكي أبقى في حدود هذا الاختزال)، يترجمُ حياته، وحاضره، ووجوده.
يقول علاقته بجماليّة البداوة، مؤسساً لجمالية المدينة (الحضارة)، ويقول علاقته بالقيم التقليدية والدينية، مؤسّساً للقيم المدينيّة المدنيّة،
ويقول علاقته بتقاليد الأمّة أو الجماعة، مؤسّساً للحريّة الشخصيّة و «تقاليدها».
ويقول علاقته ببنية القبيلة – الفّرد، مؤسّساً لعلاقة الذات – الآخر، ويقول علاقته بالشعر، مؤسّساً لشعريّةٍ جديدة.
وهذا كلّه «تغطيه» تلك القراءة، بل تطمسه، وتمحوه.

واليوم، بدلاً من أن يُدرس شعر أبي نواس بوصفه رؤيةً شاملةً للوجود، وبوصفه أحدَ المبدعين الكبار في التّاريخ الشعريّ، العربي والكونيّ، يُدرس بإصرارٍ (وجَهلٍ) بوصفه «شاعرَ الخمرة»، العابثَ، الماجنَ، (والشعوبيّ، أيضاً). ولا بُدّ، إذاً، من أن يكون «رجعيّاً».
كيف يمكن تاريخٌ تهيمن عليه مثل هذه القراء أن يكون تاريخاً إنسانيّاً، أو شعريّاً؟
وليس هذا المثل إلاّ واحداً من أمثلة كثيرة، لا في الشعر وحده، وإنما كذلك في الثقافة، بأشكالها جميعاً، ومن ضمنها الدّين نفسه.
ثالثاً، يقول الشعر كلّ شيء، لا قولَ بُرهانٍ، بل قول استِبصار. والخطأُ الأول في قراءته هو اتّخاذ القصيدة بُرهاناً من أجل «حكمٍ» على الشاعر، سلباً أو إيجاباً، في سُلّم القيم الأخلاقيّة. هذه «قراءةٌ» لا يمكن أن تكون شعريّة، وهي في الوقت نفسه غير أخلاقيّة. ذلك أنّها لا تواجه القصيدة بوصفها فَنّاً، وانما تواجهها بوصفها «استثماراً» أو طريقة استعمالٍ في السوق السياسية – الثقافيّة. وهي، تِبعاً لذلك، تُقلّص الشعر في كيفيّة استخدامهِ، اجتماعيّاً. هكذا تُضمر هذه القراءة، من حيث لا تَدري، هَدفاً بائِساً هو إبطال الشّعر بإلغاء خصوصيّته.
رابعاً، كلّ قراءةٍ حقيقيةٍ للشعر تميّز بين طبقاته ومستوياته، بين ما يقوله الشاعر بوصفه ذاتاً، وما يقوله بوصفه آخرَ، أو متقمِّصاً الآخر. وفي هذا ما يُزلزِلُ الخطية – الأفقيّة في القصيدة، وما يجعلها مَسرحاً تتداخَلُ فيه وتتجابهُ أصوات الماضي والحاضر والمستقبل – تاريخاً وسياسةً وفنّاً، واستِشرافاً.
دون هذه القراءة العميقة، لا يرى القارئ في القصيدة إلاّ الأشياءَ التي يُضمِرها مُسبقاً، إلاّ ما يلتقطه على سطحها ذهنه المركّب على النظرة الاستعماليّة، المسكونة بقبليّاتٍ متنوّعة، إيديولوجيّة، على نحوٍ خاصّ. وهذه النظرة الاستعماليّة تُخرج المعانيَ والدلالات من سياقاتِها الأصليّة، بحيث يُصبح هوَى القارئ سيّداً ومرشداً.
ليس عجيباً، إذاً، أن تُهيمنَ المرجعية الأخلاقية والسياسيّة والدينية على القراءة الشعريّة السّائدة. مثلاً، لا يرى القارئ «المتديّن» أو «المؤمن» في الشعر الذي يُسمّى حديثاً إلاّ «الكفر» و «الإلحاد». و «المؤمن» هنا واحدٌ: سواء كان يؤمن بوطنٍ «أبديّ» في السماء، أو بوطنٍ «تقدميّ» على الأرض.
ليس عجيباً كذلك أن نرى مفكّرين عرباً يفخرون، كمثل كثيرٍ من الفقهاء و «أهل العلم»، أَنهم لا يُعنَوْن قطعيّاً بالشعر. كأنّهم لا يريدون أن يتعرَّضوا لغواياته، أو لا يريدون أن يُعرّضوا «حقائقهم» و «عقولهم» لحدوسه وتخييلاته.
لكن، ما يكونُ فكرٌ لا يتلألأ في عينيه ضوءُ الشّعر؟
«الثّوريّة» و«السَّلفية»: الوجه والقفا
أستغرب حَقّاً كيف لم ينتقدني الدكتور سماح إدريس (العدد الأخير من مجلّته «الآداب»)، لكتابتي عن ابن تيميّة، المعلّم الأول، أو «الشيخ الأكبر» للسَّلفية المعاصرة – واكتفى بنقد كتابتي عن أحد تلامذته، محمد بن عبدالوهّاب، كما فعل من قبل أصدقاؤه الثوريون، بروحٍ سلفيّة، والسلفيون بعباءةٍ ثورية. لكن، لعلّه لم يقرأ الكتاب الذي ينتقده، ولعلّهم هم كذلك لم يقرأوه.
للتذكير، أيضاً وأيضاً (لمن تنفع الذكرى) أَنّ كتابتي عن محمد بن عبدالوهّاب تندرج في دراسة طويلة صدرت بأربعة أجزاء (الثابت والمتحول: بحث في الاتّباع والإبداع عند العرب) وكان عليّ أن أقومَ بها، علميّاً ومنهجيّاً، لكي استكمل البحث في الفكر الإسلاميّ السّلفي (الثبات) وتجلياته الحديثة بدءاً من القرن الثامن عشر، وبعد زوال الامبراطورية العثمانية، كما تمثّلها، بخاصةٍ، الحركة الفكرية الوهابيّة. ولو أنني أهملت هذه الحركة، لكان ذلك نَقصاً كبيراً، خصوصاً أنها تمارس تأثيراً ضخماً على عقول الأجيال الإسلامية الطّالعة، بل إنها الأكثر تأثيراً، على المستوى الديني، في العالم الإسلاميّ، اليوم.
وكنت أنتظر مناقشة ما قلتهُ عن هذه الحركة، وموقفي منها، والسُّبلَ الفكريّة لتخطّيها. لكن خاب ظَنّي. فقد جعل الدكتور إدريس وأصدقاؤه من مجرّد ذكر اسم محمد بن عبدالوهّاب «جريمة» سياسيّة وفكريّة، وكادوا أن يصفوني بأنّني «وهّابيّ». إنه الغَرقُ في المستنقع الفكريّ الذي يطوّقنا: إنه «السّحر» إيّاه. تكفّرك السلفية لأنّك تكتب عن الحداثة، وتكفّرك الحداثة لأنّك تحرص على معرفة «المنطق» السّلفي، والعقليّة السلفية والفكر السَّلفي. إنها البنية العقليّة التكفيرية ذاتها، «سِحريّاً»، ومن خارج، ودون أيّة مناقشةٍ للمادة المكتوبة. البنية العقلية إياها التي قادت الثقافة الإسلامية بسيفين: سيف التّحليل، وسيف التَحريم. وهي ثنائيّة دمّرت الحياة العربيّة.

نحلّل الكلام على هذا الفكر أو هذا الشّخص، ونحرّمه على ذلك الفكر، أو ذلك الشخص. وليست السُّلطات هي وحدها التي تمارس هذا التَحليل وهذا التحريم، وإنما يمارسه كذلك المفكّرون وأصحاب العقائد. فعلت ذلك الأحزاب اليساريّة والأحزاب القوميّة. كان مجرّد ذكر ماركس أو لينين يُعّد انحرافاً و «جريمةً» في الأوساط القوميّة. وكان مجرّد ذكر انطون سعادة، يُعدّ هو كذلك انحرافاً وجريمةً في الأوساط الشيوعيّة واليسارية، وفي الأوساط العروبيّة.
وهذا ما فعلته الناصريّة – السلطة في مناوئيها. وما فعله حزب البعث – السّلطة في مناوئيه. وهذا ما فعلته القيادة الجماهيريّة العظمى… إلخ، إلخ.
وها نحن اليوم نتابع هذا النّضال «الفكريّ» العظيم بفضل الدكتور سماح ادريس ومجلّته وأصدقائه.
وطوبى لأهل هذا النّضال، وحدهم، فهم وحدهم «القبيلة» التي تحتلُّ المكانة الثقافيّة العليا بين «القبائل»، وتملك مفاتيحَ الجِنَان كلها – الوطنية، والثوريّة، والتقدميّة، وتُمسك الى ذلك، بمفاتيح الفكر غير «الاستشراقيّ»، طبعاً.
أدونيس
المصدر: الحياة

سماح إدريس يردّ على أدونيس: عن السلفيّة والاستشراق وفزّاعة التكفير
أسئلة سريعة أودّ أن أطرحها على الشاعر أدونيس بعد قراءة ردّه على سطور قليلة من افتتاحية العدد الأخير من «الآداب» (راجع مقالته الأسبوعية في جريدة «الحياة» السعوديّة، 7/6/2007). علماً أنّ مجلة «الآداب» هي، كالعادة، مفتوحة لردّ أدونيس ولكلّ الردود والمناقشات المحتملة الأخرى.
1 ــــــ برّرتَ يا دكتور تخصيصَك كتاباً عن الإمام ابن عبد الوهّاب بأنّ الوهّابية «تمارس تأثيراً ضخماً على عقول الأجيال الإسلامية الطالعة، بل إنّها الأكثر تأثيراً على المستوى الديني في العالم الإسلامي اليوم». فمِنْ أينَ استقيت معلوماتك يا عزيزي؟ وأين تجد ذلك التأثيرَ «الضخمَ» في العالم الإسلامي اليوم؟ صحيح أنّ للوهّابية أتباعاً في السعودية وقطر والكويت وعُمان والإمارات… والضنيّة، لكنّ أعدادهم ليست كبيرةً ولا في تزايد! كما أنّ السعودية الرسمية اليوم هي نفسُها على فراقٍ متصاعدٍ مع الإيديولوجيا الوهّابية.
2 ــــــ تنتقد المثقفين التكفيريين، لكنْ مَنْ كَفّّرك يا أدونيس في افتتاحيتي الأخيرة أو في أيّ مقال في مجلة «الآداب»؟ أرى أنك أنتَ الذي تَتّهم وتَسْخر من منتقديك، ثم تقذف في وجوههم فزّاعةَ التكفير! وهكذا تبدو مضطهَداً وملاحَقاً (بفتح الهاء والحاء) من قِبل المتخلِّفين على أنواعهم، أعضاءِ «القبائل» كما تسمِّيهم، سلفيين وحداثيين. فهل نَأْمل يوماً أن تُلقي من يدك هذا السلاحَ الاستشراقي، التعميمي والتبسيطي، الذي لا يفيد سوى الباحثين عن سببٍ إضافي لرمي كلِّ مصائب العالم على العرب والمسلمين و«بنيتِهم العقليةِ التكفيرية»؟
3 ــــــ لماذا لم تُجِبْ إلى هذه اللحظة عن الأسئلة التي طرحها عليك في «الآداب»، قبل 12 عاماً، منتقداك الدكتور صبري حافظ والاستاذ صبحي حديدي (الذي تخاله، من دون أن تسميه، صديقي مع أنّني لم أره ولم أتحدَّثْ إليه يوماً)؟ إنْ كنتَ قد نسيتَها فسأختصرُها لك هنا: كيف تُدْرج، يا عزيزي، الإمامَ بن عبد الوهّاب ضمن «فكر النهضة» وهو الذي حَرّم أنواعاً من الموسيقى، وسَوّغ الحجاب، وأفتى بما لا يحصى من الممارسات الرجعية… إلاّ إذا كانت الرجعيةُ مرادفةً للنهضة؟ يقول الدكتور أحمد دلاّل (من جامعة جورجتاون) في دراسة بديعة بالإنكليزية بعنوان «أصول وأهداف الفكر الإحيائي الإسلامي 1750 ــــــ 1850»، إنّ بن عبد الوهّاب «لم يكن مهتمّاً على الإطلاق بأية تسوية أو توافق ثقافيين»، وسعى إلى «تصنيف الناس على أساس عقيدتهم إلى مؤمنين وكافرين»، وبرّر خضوعَ الناس لظلم الحاكم وأذاه «إنْ لم يقتنعْ بالنصح»… وكان «يحتقر الفكرَ الذي يخالف مواقفَه». فأين انتقدتَ ذلك في مقدمة مختاراتك (وهي مقدمة قرأتُها حرفاً حرفاًً ونشرتُها في مجلة «الآداب» عام 1995 ليَحْكم القارئُ بنفسه موضوعيّاً)؟ وأين انتقدتَ ذلك في ردّك عليّ في «الحياة»، بل وفي ردودك على نقد «أصدقائي» لك، المنشور عامَ 1995 في «الآداب»؟ علماً أنّ المجالَ الأبرزَ لانتقادك الوهّابيةَ كان ينبغي أن يكونَ في تقديم تلك المختارات، وهو ما لم تفعله؟
4 ــــــ أضيف من عندي سؤالاً آخر: لماذا أحجمتَ عن ذِكْر مَنْ يدعم السلفيةَ الحقيقية، أي الوهّابيةَ، وعلى مَنْ يموِّلُها ويسلِّحُها ويَفْرضُها ايديولوجيا رسميةً، فيما تصبّ جامَ غضبك على السلفية المجازية، أي «التكفيرية» اليسارية والقومية؟
وختاماً، يا دكتور أدونيس، فإنّ ردّك نفسَه لا يقدِّم نموذجاً يُحتذى في تخطّي «الفكر السلفي» و«البنية العقلية التكفيرية». فردُّكَ ساوى بين كلّ القوميين واليساريين والسلفيين والحداثيين (باستثنائك طبعاً)… وبعباراتٍ تفتقر إلى الموضوعية التي تدعونا إلى التحلّي بها (ولا سيما اتهامُك منتقديك بممارسة السحر والتكفير). بل إنّك تتجاهل مجردَ ذكر أسماء منتقديك السابقين («أصدقائي») إمعاناً في التعالي. وإذا كنتَ تَسْخر من «نضال» مجلة الآداب «الفكري العظيم»، ومن «نضال أصدقائها» (المزدوجات كلُّها لك)، فكيف يكون النضالُ الفكري العظيم (من دون مزدوجات) «غيرُ الاستشراقي طبعاً» الذي سيحرِّرنا، كما تقول، من «قبائلنا» و«سِحْرنا» و«عقليتنا السلفية»؟
طوبى لي ولأصدقائي ومجلّتي، تقول ساخراً يا أدونيس؟ بل طوبى لنضال برنارد لويس، ورافائيل باتاي، وإخوانهم وأخواتهم من الاستشراقيين الآخرين الذين يقدِّمون للاستعمار البوشي الديموقراطي الجديد، عبر أطروحاتهم الجوهرانية الشمولية السقيمة عن «العقل العربي» و«الذهنية العربية» و«الفكر القبلي العربي» و«السلفية العربية»… وكلّها ليست سوى مبرراتٍ إضافيةً لاستباحة الوطن العربي.
سماح إدريس (بيروت)
http://www.al-akhbar.com/ar/node/35804

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى