زين الشاميصفحات سورية

من حجب الموز إلى حجب الفيس بوك

null
زين الشامي
الكثير من السوريين، خصوصاً منهم من ترعرع في السبعينات والثمانينات يذكرون كيف أن فاكهة الموز كانت شحت في سورية ولا يسمح باستيرادها، بالطبع هذا لا يعني أن كل السوريين كانوا محرومين من أكل الموز، فقط هم الفقراء والطبقات الكادحة من الشعب من عمال وفلاحين وصغار كسبة، لأن المسؤولين الكبار وأبناءهم كانوا يجدون طرقاً عدة لتوفير هذه الفاكهة على موائدهم كل يوم. وقد لعبت أسواق لبنان «الشقيق»، كونه دولة مجاورة وما زال عناصر وضباط الجيش السوري يخدمون هناك، دوراً في توفير هذه الفاكهة على موائد الطبقة الميسورة من السوريين من مسؤولين وتجار وغيرهم من خلال التهريب، فيما بقي الكادحون من دون موز.
ربما يتساءل البعض عن سبب الحجب رغم أن هذه الفاكهة ضرورية للصحة وتحتوي على فوائد يعرفها الأطباء جيداً؟ لم تكن هناك إجابات واضحة كالعادة، كان الموز وحجبه عن الأسواق وموائد السوريين، سراً وربما المطالبة بتوفيره تستدعي القيام بتحقيقات ذات طبيعة أمنية للوقوف وراء مثل هذه الدعوات. نحن لا نبالغ وإنما نروي الحقيقة عن حقبة من تاريخ سورية ما زال الكثيرون يتذكرونها ويعرفون تفاصيلها وأنا واحد منهم.
أذكر أني كنت ولداً مراهقاً عندما كان الموز محجوباً وممنوعاً، وإن وصل بعض منه فلا يصل إلا مهرباً من لبنان وغالي الثمن. في ذلك الوقت تناهى إلى مسمعي أن الشركات التي تمسك وتتحكم بتجارة الموز هي شركات «إمبريالية» وأن الدول المنتجة للموز كلها «تدور في الفلك الأميركي الإمبريالي»، وأن الموز يكلف الكثير من «القطع الأجنبي»، ولأني كنت طفلاً فقد فهمت التفسير الأول عن «الإمبريالية» والدول التي تدور «في الفلك الأميركي» كوني كنت في منظمة «طلائع البعث» لكني لم أفهم ماذا يعني «القطع الاجنبي»، بعد نحو عشرة أعوام، حين صرت شاباً ودخلت الجامعة عرفت أن المقصود بالقطع الأجنبي، هو عملة الدولار وأن الدولة، كون دولتنا دولة مناضلة واشتراكية ولا تدور في الفلك الإمبريالي، لا يمكنها أن تنفق هذا «القطع الأجنبي» على نوع من الفاكهة هي بالأصل فاكهة «برجوازية». بالطبع هذا لا يعني أني لم أخترق التعليمات والقوانين وأقوم بفعل الخيانة، لقد فعلتها يوماً ما في لبنان الشقيق عام 1986 حين كنت في زيارة لخالتي التي تعيش هناك، يومها اشتريت 3 كيلوغرامات من الموز وأكلتهم مرة واحدة، في ذلك الوقت شعرت أن هناك أشياء جيدة ومعقولة، لا بل لذيذة عند «الإمبريالية» الغاشمة، وحسدت الأطفال اللبنانيين لكونهم يستطيعون الوصول إلى الموز بسهولة رغم حزني عليهم كونهم ما زالوا يعيشون في «الفلك الإمبريالي والأميركي».
أقول واستذكر هذا اليوم، لأننا لم نتجاوز منذ ذلك الوقت سياسة الحجب والحرمان التي تتبعها الحكومة بحجة مقارعة و«التصدي» «للإمبريالية والأعداء»، فاليوم تحجب الحكومة السورية موقعاً «الفيس بوك» الاجتماعي العالمي للأسباب نفسها، بسبب الخطر الكامن وراء هذا الموقع كونه موقع أسسته شركة أميركية، ويسمح بالتواصل مع «المحتلين» و«الإمبرياليين» و«الإسرائيليين».
الموقف الرسمي، أو السبب وراء الحجب هو ما أدلت به مسؤولة سياسية رفيعة حين قالت ان أسباب حجب «الفيس بوك»هي «أسباب أمنية»، وأردفت أن «موقع الفيس بوك كان مفتوحا في البداية أمام الجميع في سورية لكننا اكتشفنا محاولات لجماعات إسرائيلية بفتح حوار مع مستخدمي «الفيس بوك» من السوريين وهذا ما لا نسمح به لأننا نرفض الخوض في حوار مباشر معهم وهم يحاولون من خلال هذه المواقع جعل الحوارات وكأنها أمر طبيعي وهذا ما لا نقبله ولن نقبله لأن إسرائيل عدو لنا وتحتل أرضنا العربية».
لكن ومثل ما كان الموز يتوافر على بعض موائد المسؤولين فيما بقي «الشعب» ممنوعاً عنه أو حتى التحدث عنه والمطالبة بتوفيره، فإن الشيء ذاته ينطبق على «الفيس بوك» اليوم. إن معظم المسؤولين الكبار لهم اليوم صفحاتهم الخاصة على هذا الموقع الاجتماعي العالمي ولهم الكثير من المعجبين والأصدقاء والمؤيدين، كذلك هم صحافيو السلطة وموظفوها حيث من المفترض أن يكونوا اول الملتزمين والصاغين الصاغرين لقرارات الحكومة؟ إن المسؤولة التي كانت وراء تفسير قرار الحجب هي أحد مستخدميه أيضاً! ورغم من حجب «الفيس بوك» في سورية «لأسباب أمنية» فإن مسؤولين كثراً احتلوا مكاناً على إحدى صفحاته بعشرات الصور في أماكن ومناسبات مختلفة، وعدد كبير من المعجبين. ولا نعرف إلى اليوم إن كانوا هم شخصياً من أسسوا هذه الصفحات أم أنهم محبوهم ومعجبوهم؟ لكن بعموم الأحوال يمكن القول ان «الفيس بوك» عرف طريقه إلى السوريين رغم المنع والحجب، فالغالبية ممن يستخدمون الانترنت في سورية، من مثقفين وممثلين وفنانين وصحافيين وطلبة جامعات ومدارس وغيرهم، نراهم في صفحات هذا الموقع العالمي.
واقع «الفيس بوك» اليوم في سورية يشبه تماماً واقع الموز في الثمانينات. تغير الزمن وتبدل وتغير العالم كله، لكن العقلية لم تتغير، وما زال هناك الكثير ممن يلتهمون الفيس بوك عندما يتسنى لهم السفر خارج سورية، مثلي تماماً حين التهمت ثلاثة كيلو غرامات من الموز دفعة واحدة وارتكبت فعل الخيانة وتناولت منتجات «امبريالية» تنتجها دول تدور في الفلك الأميركي.
كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى