فصيلُ المُهارفة
محمد الحاج صالح
يفضل الرعاةُ أنْ يكون للقطيع أكثر من كلبِ حراسة. وفي العادة تقوم الطبيعةُ باختياراتها الصارمة. كلبٌ صموت دغّارٌ يأخذُه الراعي على محمل الجِدّ متى شنّف أذنيه وتنبّه، وكلبٌ آخر نبّاح عيّاطٌ يُهارفُ حتى وسوسة الريحِ بين القَصَل، وإذا ما اقترب الخطرُ ضمّ ذيلَه بين قائمتيه وشرع بالنعْوصة.
والرعاةُ “التوليتاريون” يمتلكون مثل هذا. كائناتٌ تُخيفُ وتعتقل وتُعذّبُ وتغتال وتمتلك أبنيةً سريةً وسيارات لا تعدّ ولا تحصى، اسمها المخابرات “على الأقل في سورية”، وكائناتٌ أخرى تجدلُ حبالَ الكلام بلا كللٍ ولا ملل لصالح الشموليّة، اسمها الصحافيون الملتزمون “على الأقل في سورية أيضاً”
في الواقع وعلى الرغم من أنّ لبنان وسورية شقيقٌ وشقيقةٌ، فإن ثمة فروقاتٍ تبدأ بالتوافقية اللبنانية وتقاسمِ السلطات التي يقابلُها عندنا سلطةٌ واحدة وحُزْمةٌ واحدة. إنما والحقّ يقال إن هذه الفروق تنْمحي عندما نقارنُ توليتاريّتنا مع “توليتاريّتهم المُمانعاتيّة” إذْ يلمسُ المرءُ أنْ لا فرقاً كبيراً في العدّة والعتاد، ولا فرقاً بين صحفي مُمانع هنا و صحفي مُمانع هناك إلا في الدرجة. كلاهما ملتزمان وممانعان على دين الرأس الذي يخدمانه. ينتمي الصحفي المُمانع إلى فصيلةٍ هتاّفة تُهارفُ أيّ حسّ وأي حركةٍ ببضع كلمات:المقاومة، والممانعة، وفلسطين، والعدو الصهيوني. ولكثرة ما ردد المُمانع تلك الكلمات نشأ لديه مُنعكس “بافلوف”. فلا غرابة أن يرى سائلَ اللعابِ مُنتصب الأذنين عند ذكر المقاومة مثلاً، مُستعداً للهتاف وخفْق القبضة المضمومة في الهواء تهديداً ووعيداً. لسان حاله يقولُ. اهتفْ باسمِ المقاومة تربحْ رصاصةً مجازيةً أو حقيقية تخرسُ به الآخرين. أمّا الهدفُ الحقيقي فهو الذبّ عن الرأس التوليتاري وأفكارِه.
في سورية الأسد، هكذا سماها الصحافيون الممانعون زملاء إبراهيم الأمين أنشأ الأسد الأبُ نظاماً، يُمَكّنك من أن تشتم كل أركانه ماعدا الأسد الأب ذاته وعدّة رجال غامضين لا صورَ لهم. أمّا رؤساء الوزراء والوزراء ورئيس مجلس الشعب، فكلّهم كانوا مسخرةً. كانوا الدريئة التي يتدرّب عليها الممانعون زملاء ابراهيم. ولعلَ ابراهيم يذكر ساعة أهدى الوعدُ الصادقُ سيد المقاومة بندقيةً لرجل المخابرات السوري، آنذاك صادَقَ الوعدُ الصادق على تسمية بلدنا بسورية الأسد. ولربما كان الحدث أكثر رمزية من التسمية والبندقية. ربما كان علامةً على ولوجِ الضاحية وسيّد المقاومة إلى الحقل المغناطيسي لهكذا تسميات شديدة الدلالة.
في نكتة سورية وشوشَ موظفون منافقون في رئاسة مجلس الوزراء في أذن رئيس الوزراء محمود الزعبي بأنّ من حقّه هو أيضاً أن يُعلّق صورتَه في مكتبه الخاصّ. أيامها كانت صور الأسد الأب في كلّ مكان. بعد تمنّع وحساباتٍ اقتنع “أبو مفلح” محمود الزعبي وذهب إلى مصوّرِه وأحضر صورةً كبيرة في برواز. وللمصادفة البحتة جاء الأسدُ الأب في زيارة، ورأى أبا مفلح يحمل الصورةَ الكبيرة في البرواز. فما كان منه إلا أن سأل أبا مفلح عنها. تأتأ أبو مفلح واختنق، لكنه استطاع أخيراً أن يقول: إنها صورة للصقها على إخراج القيْد سيدي! مثل هذه النكتة كانت لذّة الممانعين زملاء ابراهيم، وإبراهيم يريد نقلَها من الشقيقة سورية إلى الشقيق لبنان، بحيث يكون هناك قدسٌ يمنع مسّه ورئيس مجلس وزراء ورئيس ووزراء يلعبون دورَ الدريئة للتهديفِ المُمانعاتي. لكن كيف؟ فالدولة هناك بثلاثة رؤوس. فليتحولْ لبنان إذنْ بالحزبِ إلى الوضعية التي تنصّبُ قدساً ووعداً صادقاً، وتعيّن وزراء ورئيساً مسخرةً. وبالمناسبة، انتحر “أبو مفلح” رئيس وزرائنا الأسبق برصاصتين، وكذلك غازي كنعان. وهو الأمر الذي اعْتُبِر معجزةً في الطب الشرعي.
هل بنا حاجةٌ هنا إلى التذكير بالضغط الذي تعرض له “سعد الحريري” كي ينتحرَ أيضاً مجازيا برصاصتين: العمل على إلغاء المحكمة، والسير في ركاب خطّة هدد منفّذوها مراتٍ بإلهابِ المنطقة من غزوين إلى المتوسط.
ابراهيم الأمين لا ينضح من بئر نقيّة عندما يشتم رئيس وزراء لبنان ويصفه بالأرعن، فالبئر التي يمتح منها هي ذات البئر التي شيّدها الأسد الأب حاكم سورية الأسد لثلاثين عاماً، والمورثُ سوريةَ الأسد للأسد الابن. هذه ليست لعبةً لغوية. فالوعدُ الصادقُ سيّد المقاومة أسماها هكذا: سوريةُ الأسد. وما علينا نحن السوريين إلا أن نصمتَ أو أن يتقاسمنا الفصيلان، فصيل الرعب العمليّ، أوْ فصيلُ المُهارفة حيث ابراهيم الأمين وزملاؤه السوريون الصادحون بالطُهرية والممانعة نكاية بأي طبابة شرعيّة.
يكتبُ ابراهيم الأمين، لا حرمَ اللهُ الممانعين من ممانعته “كان ينقصُ لبنان أرعن في رئاسة الحكومة. يقف ويرفع إصبعه ويهدّد وزيراً في الحكومة كأنّه موظف في شركاته المتعثّرة، أو جار من الذين يُمنعون من إيقاف سيّاراتهم قرب منازلهم، ومن استقبال الضيوف أو فتح النوافذ أو توظيف نواطير قبل الحصول على إذن خاص، وذلك لأسباب أمنيّة “. أيعقلُ أن الأمين، وهو من فصيل المُهارفة، لايعرف أن المربعات الأمنيّة اختراعاً لـ”رَبْعِهِ” إنْ في سورية الأسد أوْ ضاحيةِ الوعد الصادق. وعلى ذكر “لأسباب أمنية” هنا ماذا عن النظام المُتقَن “يللي ما يخرّش الميّه” والمُكْلف، والاستعراضي والشديد السريّة والشديد الإرعاب بآن معاً، والكبير الشاشات التي يُصبّر أمامها السذّجُ الطيّعون كما لو أنهم جنودٌ أغرارٌ! ماذا عنه!
الدنيا مقلوبة فعلاً. رئيس حكومة يوجّه كلمةً قاسيةً لوزير تجاوز حدَّه في نقاش محدد ومشهود، شيءٌ يحدث في كلّ بقاع الأرض. أما الذي لا يحدثُ إلا في كانتون من القرون الوسطى وبلغة تنتمي فعلاً إلى قرون بالياتٍ ما قاله السيدُ حسن نصرالله سيد المقاومة مع هزّة إصبع مهددة؛ إنّه والمقاومة سيقطعون الأيدي والألسن. تصوروا المشهدَ. ألسنٌ مقطوعة وأيدي مبتورة. إنه الوعدُ الصادقُ في لحظة صدقٍ استثنائية، ألم يُوعد أهلُ لبنان بأن سلاح المقاومة لن ينْدار إلى الداخل؟
إذن يا أهل لبنان ذوقوا ماذقنا جرّاءَ وعودٍ وعهودِ لم تقلْ ولمْ تعطَ إلا لتُنكثَ. إلا لتنكث حصْراً. وهاهي البشارةُ في ابراهيم الأمين. صحفيٌ من الفصيلة أيّاها يهين ويتكلم على رئيس وزراء كما لو أنه تلميذ سيّء. نحن في سورية نعرف جيداً من أين تأتي هذه الآلية النفسية التي تسمح للطرطور برتبة مساعد في الأمن في أن يُكلّم أستاذاً جامعياً تماماً باللغة ذاتها وبالنبرة ذاتها التي يهارفُ بها ابراهيم الأمين. إنها القوّة. القوّة القَلِقة المُذنبة.
والمضحك حتى الفَقْع أن يكتب الأمينُ كلمات عن الزعران والأوادام! فعلاً إنْ لم تستحِ افعلْ ما شئت. يعني “الآوادم!” هم المُدجّجون بالسلاح والذين أثبتوا بما لايدع مجالاً للشك بأنهم عند اللزوم أكثر زعرنة من الزعران! أمّا “الزعران المُتوهّمون” فهم الذين لا يملكون السلاحَ، والذين يحتمون بالدولة وكلّ ذنبهم أنهم ينظرون برِيبةٍ إلى أُولائِك المُدجّجين بالسلاح.