من تجارب السجن الإضراب

مصطفى الحاج صالح
في يوم من أيام السجن؛ تطارحنا فكرة القيام بإضراب عن الطعام كان ذلك إن لم يجانبني الصواب في عام1988 آنذاك كانت ظروفنا الحياتية تزداد صعوبة بسبب منع الزيارات من جهة وبسبب التشدد في المعاملة اليومية الذي لم بقتصر على منع الكتب ومصادرتها أومنع الأوراق والدفاتر بل شمل جوانبنا أخرى ( قصر مدة التنفس؛ منعنا من استخدام بوابير الكاز للطهو ؛ إبقاء الأبواب مغلقة لفترات طويلة ) ناهيكم عن تشدد السجانون في معاملتنا .. بالمختصر المفيد ؛ كما يقال عادة ؛ كانت حياتنا تزداد سوءا ؛ طعام السجن رديء لايصلح للاستصلاح فما الذي يمكن فعله كي نوقف عجلة التدهور ..؟
في رأس من نبتة الفكرة لأول مرة أو من طرحها في البداية..؟ قد لا يكون مهما من فعل ذلك لو أنّ الأمر تم بسهولة ويسر ؛ من دون اعتراض ومن دون اتهامات متبادلة ؛ لكن ما جرى قبل القيام بالإضراب الذي دام أحدى عشر يوما ؛ يجعل الأمور أكثر وضوحا لو وضعت النقاط على الحروف والنقاط في حالنا هي الأسماء ، المرجح عندي بهذا الشأن ثلاثة أسماء ( ياسين الحاج صالح؛ بكر صدقي؛ أسامه عاشور ) وهؤلاء موضوع ريبة وشك عند ما يمكن تسميتهم ( الحفظة الأيدلوجيين ) أو الأقطاب الباحثين عن زعامات ولا يهم أين وكيف [ لن أسمي وفي عدم التسمية التفاف جلي على الموضوعية لكن هكذا هي الحال أحيانا نتجنب بعض الشوك ليوخزنا شوك آخر]
في تلك الفترة الزمنية قارب عدد السجناء أو الموقوفين السياسيين مائة شخصا ينتمون إلى أربع تنظيمات سياسية رئيسية إلى جانب أفراد من تنظيمات سياسية أخرى وهذه التنظيمات الأساسية [ المقصود هنا من حيث العدد في السجن] البعثيين المواليين للنظام البعثي في العراق؛ الحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي ؛ حزب العمل الشيوعي ـ رابطة العمل من ثم التنظيم الشعبي الناصر ؛ هناك شخص واحد ينتمي إلى الاتحاد الاشتراكي ( جمال الأتاسي) بالأضافة إلى عضو من (حزب العمال الثوري) ؛ شخص واحد مما يسمى جماعة (مراد يوسف ـ تنظيم شيوعي منشق عن الحزب الشيوعي المنشق ) وشخص محسوب على الأخوان المسلمين ولكي تكون الصورة أوضح للقارئ من الهام الإشارة إلى نوع من الفصل أو التقسيم فرضته عوامل مختلفة ليس هنا مجال البحث فيها لكن ما يهم هنا هو الإشارة إلى تواجد الشيوعيين من التنظيمين في ثلاث مهاجع مختلطة تجمع الطرفين في حين كان لما يسمى بجماعة اليمين (أهل منبج .. في الحقيقة لايمكن اعتبار هؤلاء تنظيما ولربما سيتاح الوقت للكتابة في هذا الشأن المعبر عن عقلية أهل النظام وعقلية بعض من أهل المعارضة) ثلاثة مهاجع مماثلة لا تضم أحدا آخر سواهم وهناك مهجع واحد خصص لجماعة التنظيم الشعبي الناصري ..
في ظل هذا التوزع بالإضافة إلى التفاوت في مجالات شتى كان من الصعب طرح فكرة الإضراب على الجميع ليس بسبب عدم الثقة وحدها بل وبسبب اقتناع راسخ أكدته الأحداث يتعلق بانتفاء أفكار مثل إضراب عن الطعام من قاموس أفراد لا يجمعهم بالعمل السياسي جامع من أي نوع فجماعة ( منبج) ضحايا صراع بين نظاميين متماثلين في الطبيعة والتكوين ولا علاقة حقيقية لهم بعمل سياسي أو تنظيمي منظم إلى ذلك هم متفاوتون فيما بينهم في كل شيء وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليهم بشكل جدي في موضوع قد يكون مكلفا فيما لو كانت ردة فعل أهل التظام عنيفة رغم ذلك وتجنبا لأي عتب من جهة ولكي توضع المسؤوليات في نصابها تمت مشاورة بعض الثقاة أهل العزم منهم من باب أخذ العلم بالشيء في الحد الأدنى ولم يكم ممكنا لهؤلاء المشاركة في عمل من هذا النوع يتطلب تحضيرا وسرية لعدة أيام إلى أن تحين ساعة الاعلان
باستثناء غالبية ما يسمى البعثيين من التشاور بهذا الخصوص طرحت الفكرة على معظم الأشخاص الآخرين إما بصفة تنظيمية أو بصفة شخصية وكانت ردود الفعل متباينة وعجيبة في آن واحد سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى التنظيمات وأول ما يجب تسجيله بهذا الخصوص أننا لم نكن وربما مازلنا كعرب أو لست أدري ماذا أيضا نجيد الاختلاف بقدر ما نجيد الانقسام الاختلاف طبيعة وضرورة يقوم على أسس ومباديء لم نتعلمها في حين نجيد إلى حد بعيد الانقسام ؛ انقسام قد يصل إلى حدود الانقسام على الذات ؛ الاختلاف حاور ؛ تبادل للرأي ينتهي عند العقلاء إلى تسوية معينة مرهونة بظروفها وبمكوناتها في حين لايحتاج الانقسام إلا إلى الصراخ والتشاتم؛ التنابز والتسفيه وهذا يسري على جميع الأحزاب والتنظيمات على الساحة السورية ع( سلطوية وغير سلطوية) بنسب متفاوتة تتعلق بمدى سيطرة شكل من أشكال التنظيم الستاليني فالخيار إذا أما بين قسر يقوم على اللوائح دون فهم ولا استيعاب أوانقسام وتذرر غير طبيعيين
الغالبية العظمى من الأشخاص المنتمين للحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي ( حزب الشعب الديمقراطي) لاحقا رفضوا فكرة الإضراب لأسباب متباينة مختلفة لم تخلو في بعض جوانبها من الوجاهة في جانب منها ومن التشنيع على الداعيين للإضراب في جانب آخر .. هل كانت المبررات حقيقة أم تخفي خلفها خوف ..؟ لن تفهم تلك الاعتراضات على حقيقتها إذا عزلت عن سياقها ؛ الخوف أمر طبيعي ما لم يكن جبنا ولم يكن أيا من المسجونين جبانا هذا أمر بديهي لا يقبل جدلا فالجبناء في بلد كسوريا لا يقربون السياسة ولا ينتمون إلى أحزاب سرية معارضة للنظام .. الخوف حقيقة واقعة في ظل نظام لم يكتفي بقتل الناس في بيوتهم أو في الشوارع؛ في المقابر أو في الجوامع بل تجاوزت أفعاله الانتقامية كل المعايير ألإنسانية والأخلاقية عندما قام بقتل سجناء عزل لا حول لهم ولا قوة في مهاجعهم ولن ينفع أي تبرير سابق أو لاحق فالمسئولية مسئولية النظام بغض النظر عن الفاعلين ..هكذا نظام غير مؤتمن على أرواح سجناء أو أسرى بين يديه لايمكن بأي حال تبسيط ردود فعله تجاه أي فعل معارض سواء في السجون أم في الخارج.. كثيرون ساقوا تلك المخاوف في معرض رفضهم للفكرة فهم غير مستعدين للمغامرة بعمل قد يؤدي إلى الموت .. بلى الموت .. ولسان حالهم يقول نحن العقلاء المتزنون نرفض فكرة نبتة في عقول غير ناضجة ؛ فكرة قد ندفع ثمنها غاليا فيما لو تحققت أو أعلنت .. آخرون من نفس التنظيم اعتبروا العمل غير مجد والنظام لن يأبه لإضراب من هذا النوع؛ سيتركنا جياعا حتى الموت بل ولن يكلف نفسه أمر كسر الإضراب بالقوة .. التفكير الزائد؛ التحسب؛ القياس .. قد تكون في أحيان معطلة عديمة الجدوى ليس كل شيء يقاس بالعقل أو بمسطرة المصلحة .. فما أكثر المغامرات الناجحة التي قادت إلى نجاحات لا تنكر ومنها الإضراب الذي أعاد انتظام الزيارات وأتاح لنا الحصول مزايا أخرة مختلفة كالدفاتر والكتب ..
خمسة أشخاص ينتمون إلى الحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي اشتركوا في الإضراب وما كنت لأذكر أسمائهم لولا التشنيع الذي لحق بهم أثناء فترة الإضراب كالقول( شوايا) أو ( عصابة الرقة) والعصبة من ( شوايا الرقة) الجاهلين الأقل رقيا وحضارة من سواهم هم( ياسين الحاج صالح؛ خالد الحاج صالح؛ خلف محمد الجربوع؛ محمد عبد الخليل والداعي لكم بطول العمر العبد لله مصطفى الحاج صالح) لم ننقسم على ( حزبنا ) المنقسم .. كنا مختلفون وأعتقد كنا قادرين حقا على الاختلاف وعلى المشاركة في كل الحورات بما فيها تلك التي جرت حول جدوى الإضراب …..
الغالبية العظمى من المنتمين لرابطة العمل الشيوعي/ حزب العمل الشيوعي وافقوا على فكرة الاضراب بل وعاشوا التجربة أيضا ومن الجدير بالذكر أنّ الأمر بالنسبة لهم كان قرارا تنظيميا وليس ممارسة فردية وفي هذا أيضا تعمية لا تقل عن العماء الأول عماء غالبية المنتمين إلى الحزب الشيوعي الرافضين للاضراب بصفته مراهقة يسارية ومغامرة ليس لها ما يبررها في ظل نظام كذا صفته وكذا نعته فأنْ تتخذ قرارا تنظيميا في شأن من هذا النوع؛ في السجن ؛ يفقد العمل زخمه الشخصي ويخفف من مقدار المسئولية الفردية في أمر فردي من حيث طبيعته( الجوع ) ومن حيث احتمالات التعرض للعقوبة .
أين يقع الطيش ؟ في أمر من هذا النوع .. لن أماري ألأمور بنتائجها فلو فشل الأمر لكنا ملامين ولحملنا كل الهزائم والنكبات .. أليست تلك طبيعة من طبائع التخلف في بلد فاقد للحرية وللقدرة على الدفاع عن حريته المهدورة .. من دون مجازفة؛ من دون مغامرة .. من دون تجاوز العادي .. لن يتغير شيء .. من دون تجاوز حسابات الخوف لن يحصل الأحسن .. آنذاك لم يكن من السهولة بمكان لوم الرافضين ..
هكذا بدأ الإضراب ؛ خمسة أشخاص من المنتمين إلى ( المكتب السياسي) و الغالبية من جماعة ( الرابطة) وكان هناك متعاطفون اقتصر دورهم على التعزية وإعداد وجبة متة واحد في اليوم الواحد .. كانت الخطة بسيطة وسهلة ؛ نمتنع في البداية عن الطعام ؛ مكتفين بقليل من الماء مع السكر أو بعضا من المته .. وكان مقررا الإعلان عن الإضراب وإبلاغ الجهاز الأمني عبر السجانين بعد اليوم العاشر والغاية من ذلك حسب تقديرات المخططين التأكيد على الجدية فبالقطع لن تؤخذ على محمل الجدية إذا أعلنت عن إضرابك بعد يوم أو يومين من بدءه هذا من جهة ومن جهة أخرى تحسب من الأسوأ فلو رفض الجهاز المطالب ومضى كعادته إلى معاقبة المضربين فلن يحتمل هؤلاء مزيدا من الضرب والجلد بعد عشرة أيام من الجوع .. قطعا سيغمى عليهم .. هل هناك ما هو أبعد من الإغماء .. بلى كان الموت محتملا .. أيضا من يدري .. .
كانت الأيام الأولى بطيئة ثقلية محفوفة أيضا بالتوتر والقلق وباستفزازات عديمة المعنى مارسها غير شخص بأشكال .. يندى لها الجبين .. لن أخوض في امرصغائر طواها الزمن رغم دلالاتها .. ألا بعدا لذاك الزمن الذي يجعلك تغيب إنسانيتك أو تفتقدها تحت ذرائع أو متطلبات ملعونة يمليها كل يوم السجن كحالة وكنظام للعيش دام سنوات وسنوات .. لا ألوم سجينا في سلوكه ما لم ينزل إلى الدرك الأسفل .. هل كان هناك من درك أسفل ..؟ في تلك الفترة كانت أعاني من قابلية كليتي لتشكيل البحصات.. في اليوم الرابع أو الخامس ؛ بعد نقاش ألزمني المضربون بالتوقف عن الاضراب فيما استمروا هم .. بعضهم سبعة أيام .. بعضهم الآخر عشرة .. وهناك من تجاوز ذلك .. هل أسمي .. فبعض الأشخاص لا يحتاجون مديحا ويمكنك .. في الحال معرفة من يكون ..
أعلن الإضراب.. أبلغ الجهاز وكانت المفاجئة مناقضة لتوقعات الرافضين .. استجيب في الحال لمعظم الطلبات .. حصلنا على الزيارات والكتب؛ تحسن وضعنا المعيشي مع ذلك ظل بعضنا ينظر إلى تلك التجربة من منظار تصغيري.. لماذا ..؟