الإسلام والحداثة من منظور مختلف
رشيد الحاج صالح
إن المتأمل لمسار العلاقة بين الإسلام المعاصر وقيم الحداثة الغربية, سرعان ما يلاحظ أن تلك العلاقة لم تكن ثابتة ونهائية بقدر ما كانت متغيرة ومتبدلة بحسب تبدل الظروف والأحوال. فهي علاقة تتأرجح بين الرفض المطلق والقبول الجزئي, وصولاً إلى البحث عن قواسم مشتركة وقراءات معمقة.
فكيف سار تاريخ العلاقة بين الإسلام والحداثة؟ وما هي سياقات التطور ونضوج العلاقة؟
فإذا كان الموقف الأول للإسلام المعاصر تجاه الحداثة يقوم على مواجهة الغرب مواجهة كلية ورفض كل قيّمه وأساليبه في الحياة والحكم, فإن هذا الموقف انتقل على يد خير الدين التونسي إلى الأخذ من الحداثة الغربية بغية مواجهتها والحصول على أسباب قوتها, وصولاً إلى اكتشاف الحركات الإسلامية المعاصرة أن قضايا الديمقراطية وفصل السلطات والانتخابات والنقابات -وهي منجزات للحداثة بامتياز– من الأمور الأساسية القادرة على إيصالهم إلى سدة الحكم بغية تطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة دولة العدل والمساواة وتخليص الأمة من الطغاة.
وفي العودة إلى بدايات العلاقة بين الإسلام والحداثة, نجد أنها كانت معقدة وتقوم على الرفض المطلق, حتى أن مفتي الديار العثمانية في نهايات القرن التاسع عشر رفض طباعة القرآن الكريم بآلة صنعها شخص كافر, وحجته في ذلك أنه لا يجوز لأحرف القرآن أن يدنسها الكفار.
بل إن هناك من أفتى بتحريم الكهرباء في الريف لأن الريفيين يتلهون عن أعمالهم بمشاهدة التلفاز, حتى وصل الأمر إلى رفض بعض نتائج ومشاهدات ومنجزات الكثير من العلوم التجريبية المعاصرة.
أما على المستوى السياسي فقد وصفت الديمقراطية بأنها «بدعة غربية», وأن الأحزاب لا تجلب إلا التفرقة والتحاسد, وأن فصل السلطات غريب تماماً عن نظام الحكم في الإسلام, وأن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ما هو إلا مؤامرة يهودية. بل إن غالبية المسلمين كانوا يظنون أن تطبيق الديمقراطية سيؤدي إلى نهاية الإسلام وضياعه وانتشار الرذائل والإباحية الموجودة في الغرب.
غير أن الموقف لم يبقَ على هذا الحال. إذ سرعان ما استقر الرأي لدى غالبية المفكرين والفقهاء الإسلاميين على ضرورة الأخذ بالمنجزات الصناعية والآلات الغربية, بما أن استخدامها يصب في مصلحة المسلمين وتنمية حياتهم الصناعية والزراعية, وتقوية جيوشهم بالآلات والمعدات الحديثة, التي تمكن المسلمين من مواجهة التحديات الاستعمارية الحديثة. مع التأكيد على رفض كل القيم الحداثية من علوم وأنظمة حكم وطرق اقتصادية واجتماعية في الحياة, بحجة بعدها ومخالفتها لقيم حضارتنا الإسلامية.
ومع بداية النصف الثاني من القرن العشرين, أخذ الموقف الإسلامي من قيم الحداثة, يميل باتجاه المرونة والاستيعاب والبحث عن قواسم مشتركة, بما يفيد المسلمين ولا يتعارض مع شريعتهم, ويساعد على نهوضهم وحصولهم على حياة كريمة. وقد شمل هذا التوجه: الفقه, علم الكلام, نظرية الحكم الإسلامية, العلاقة بين العلوم الغربية والعلوم الشرعية.
ففي مجال الفقه, نجد أنه أخذ يناقش قضايا حداثية لم يتطرق لها الفقهاء في التاريخ الإسلامي -إلا في حدود ضيقة- ويتخذ منها موقفاً إسلامياً وحداثياً في الوقت نفسه. فإذا أخذنا مسألة «الذميين » في الدولة الإسلامية, نجد أن الفقه الإسلامي المعاصر جعل منهم «مواطنين لا ذميين»، والمواطنة كما هو معروف مفهوم حداثي غربي.
أما التعددية السياسية فتم القبول بها على اعتبار أن الدين الإسلامي يحترم الاختلاف ويقرُّ به. وقد وصل الموقف الإسلامي الإيجابي من إعلان حقوق الإنسان, بأن وصف محمد عمارة تلك الحقوق بأنها ضرورات وليست حقوقاً فقط, بل وقدَّم الإسلاميون إعلاناً إسلامياً خاصاً بحقوق الإنسان.
وعلى مستوى تكتيك العمل السياسي لم تجد الحركات والأحزاب الإسلامية المعاصرة حرجاً من التحالف مع أحزاب علمانية وليبرالية، والمشاركة في تشكيل هذه الحكومات.
وفيما يتعلق بالقضايا الاجتماعية, فقد عمق الفقه الإسلامي من مناقشاته لحقوق المرأة وعمل الأطفال وشرعية النقابات والعقوبات القاسية التي فرضها الإسلام على المخالفين. وقد استقر رأي الفقهاء على تحريم عمل الأطفال والقبول بعمل النقابات وإعطاء المرأة الكثير من حقوقها ودورها التربوي الذي يضمنه لها الإسلام نفسه.
كما سار الفقه باتجاه التخفيف من العقوبات القاسية حتى لا يعطى الذين يريدون تصوير الإسلام بأنه دين عنيف أية فرصة, سيما وأن هناك أنواعاً من العقوبات تفي بالغرض الذي يريد الإسلام تحقيقه من وراء تلك العقوبات.
أما على صعيد علم الكلام, فقد كف هذا العلم -في نسخته المعاصرة وبتأثير من الحداثة الغربية التي تهتم بالواقع المعيش- عن مناقشة قضايا الإلهيات والميتافيزيقا، من قبل صفات الله وخلق القرآن وغيرها, والتفت إلى القضايا التي تربط المسلم بعالمه الذي يعيش فيه.
فقد بين هذا العلم أنْ لا تعارض بين الإسلام من جهة والعقل والعلوم الوضعية من جهة ثانية -كما بين ذلك محمد عبده- ومن جهة ثانية، فقد ركز هذا العلم على رفض الأيديولوجيات المخالفة للقيم الإسلامية, ولا سيما الشيوعية والدارونية, بطرق علمية واجتماعية ومنطقية, وعلى تكوين موقف منهجي للإسلام من منجزات الحداثة وعلومها ونظرياتها وأيديولوجياتها التي تتصارع في العالم المعاصر.
أما في مجال السياسة فقد وصل تحمس التيارات والحركات الإسلامية للديمقراطية حداً, أن وصفها العقّاد بأنها تمثل جوهر الإسلام, وأكد آخرون أنَّ كل من يرفضها باسم الإسلام فإن الإسلام بريء منه, وذهب جودت سعيد إلى حد اعتبار الديمقراطية مخلصة للمسلمين في محنتهم الطويلة، لأنها تمنع أن يأتينا الحكام بالقهر والإكراه.
أما الأحزاب فأصبح ينظر إليها على أنها تنظيم لحق الاختلاف الذي منحه الإسلام للجميع. في حين اعتبرت مسألة فصل السلطات أمراً ضرورياً للحد من جور الحكام واستفرادهم بالسلطة بشكل مطلق, وهو أمر عانت منه الشعوب الإسلامية لقرون طويلة.
أما بالنسبة للرأي الذي كان يذهب إلى أن الأخذ بالعلوم الإنسانية الغربية، من علوم اجتماع ونفس واقتصاد وتاريخ, ستحوَّل مجتمعاتنا إلى صورة ممسوخة عن المجتمع الغربي, والمخاوف على التعليم الديني من التعليم الذي يعتمد على العلوم الغربية في مناهجه, فقد اتضح أنها أراء ومخاوف ليس لها ما يبررها.
فقد تعايش التعليم الديني والعلوم النقلية مع العلوم الغربية في الجامعات والمدارس من دون أي مشاكل ومخاوف, ولم يعد للعلوم الغربية أية صبغة أرستقراطية أو استعمارية.
وعلى الرغم من كل ذلك , فإن هذا التعايش والتقارب والتلاقح بين الإسلام المعاصر وقيم الحداثة الغربية, لم يمنع المفكرين الإسلاميين من التنبه للنزعات الاستعمارية الجديدة ورفضها، والبحث عن وسائل فعّالة لمواجهتها, ومواجهة آلة الإعلام الغربية التي تهاجم الإسلام في كل مكان وزمان, ولا سيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001.
ما نريد أن نقوله في هذا المقال الموجز، أن منهج التحليل الاجتماعي والسياسي، أقدر على فهم آليات التفاعل والتناحر بين الإسلام والحداثة, وفهم أسباب التقارب والمواجهة, الأمر الذي يسمح لنا برؤية المواقف والأفكار في سياقها الاجتماعي والسياسي الذي تعيش فيه, بعيداً عن الأحكام المطلقة والترسيمات النهائية.
فالحركات الإسلامية المعاصرة تتحمس اليوم للديمقراطية لأن الشارع العربي هو شارع إسلامي, متذمر من الأنظمة السياسية الفاسدة, وبالتالي فإنها ستكتسح أية انتخابات ديمقراطية وهذا حقها. كما أن هذه الحركات تعادي الغرب السياسي، لأنها تعرف أن هذا الغرب هو أكبر داعم لهذه الأنظمة وهو الذي يشكل أكبر خطر على الهوية الإسلامية.
أما الغرب فيهاجم الإسلام بشكل دائم لأنه يعرف أن الإسلام يشكل أكبر منظومة من القيم في المنطقة, ولأنه يبحث بشكل دائم عن أعداء يريد أن يمارس الاستقواء عليهم ونهب ثرواتهم.
الجزيرة نت