في الذاكرة القطيعية وأصل الاستبداد..
مطاع صفدي
كيف يمكن للإنسان العربي أن يخلع عن ذاته هموم أمته. وهل لا يزال يوجد حقاً ذلك الإنسان أم أنه أمسى تمثالاً من الشمع في متحف الماضي، إلى جانب تماثيل رموز أخرى عفا عليها زمن الذاكرة القطيعية السائدة هذه الأيام على وجه البسيطة، دونما تمييز بين حضارات متقدمة وأخرى متخلفة. فمن لا يقول بعد أحداث العقد الأول من هذا القرن الحالي، الواحد والعشرين، أن العالم يرتد إلى الحالة القطيعية جملةً وتفصيلاً. وأن العصر الإنساني الراهن تكاد تقوده أقليات البشر من نخب القوة المسيطرة، بوسائل العنف المطلق، المميزة لهذا الزمن، وهي المال والتكنولوجيا والعسكر؛ فقد أصبح التلاعب المعاصر بالذاكرة الجمعية السوية يتخطى حدود المجتمعات القومية، إلى أوسع مدى بشري. لم تعدْ أرقى هذه المجتمعات قادرة على اختيار أفكارها وأذواقها ونماذج سلوكها، بناء على وعيها الذاتي وإرادتها الشخصية. فقد تمّ محو الذاكرة الجمعية، وتحويلها إلى مجرد ذاكرة قطيعية فاقدة لفرديتها وهويتها وإنسانيتها؛ بحيث تعتبر أسوأ وأدهى منتوج لنموذج الحضارة الاستهلاكية، أخطر ما فيها أنها لا تبطل ثقافة الاختلاف فحسب، بل تقضي على أساس الإحساس بضرورته، وبذلك تضمن لذاتها فعالية السلطة والاستمرار إلى ما لا نهاية، إذ يغدو المجتمع مجرد عجينة تتقولب وتتجدد من فتات خبزها الفطير دون سواه.
يُعزَى عادة للذاكرة الجمعية خصائص إيجابية أكثر منها سلبية. فهي الحافظة لأمجاد الماضي وخلاصة دروسها المستفادة، وهي المسؤولة عن تأصيل جذور كل حاضر يولد تحت هالتها. فلا تقتصر وظيفتها فقط على تغذية الديمومة الشخصية الذاتية للشعب وتميزها عن سواها، لكنها في أحسن أحوالها، لا تجعل من تراثها عقبة لا يمكن تجاوزه نحو ابتكار التراث الآخر الذي يأتي به حاضر جديد، ومستقبل آخر مجهول. عليها أن تظل حية مبدعة، كالتربة الطيبة مستعدة لكل فصل أن تتلقى تجاربه، أمطارَه الغزيرة لتُنبت منها ربيعاً موسمياً مختلفاً. لكن عندما يجف حاضر الشعب، وتجْدُب مواسمه المتوالية، تتصحّر التربة، فلا يعود ينبت منها إلا الشوك والعوسج وحدهما.
ما يغطي صحارى الوطن العربي هما: الشوك والعوسج معاً؛ ليست هذه لوحة سريالية أو خيالية مرضية، لكنها صورة مجازية قد ترمز إلى حال البطالة الحضارية التي تؤول إليها مختلف تجارب النهضة المعاصرة، بالرغم من مظاهر وأعراض كثيرة، وقد تخلّف انطباعات خادعة مغايرة لواقعها الفعلي. ولعل السبب المباشر الذي يتمسك به عادة المثقفون العرب في تعليل هذه المحصّلة البائسة، هو العجز المستديم عن تغيير واقع الاستبداد الدولتي المسيطر على جل أقطار العرب. إذ فشلت (نضالات) الأحزاب المعارضة، والتيارات الأيديولوجية معاً في تجاوز طبيعة سلطة الحكم الواحدة المستمرة، ما وراء عناوينها الملكية والجمهورية والقبلية. حتى يبدو أن (شكل) هذه السلطة قد أثبت أنه من المتانة والتجذّر في أرضه، وفي مجتمعه، بحيث تظهر كل حركات المعارضة له، كما لو كانت أجنبية غريبة، وبالتالي عارضة وزائلة، وقد تعزّز من أصوله وجذوره، وتجدد فعاليته. فاليأس من تغيير طبيعة قمة الهرم، يبقى على أحجار كيانه المنخورة، كما كانت في خطة هندسته الأولى.
القول القديم أن النهضة المغدورة هي المدخل الإجرائي إلى النهضة الفاشلة، قد يجعل من الصيغة الأولى مُبَرّأة إلى حد ما مما يُفعل بها من وراء ظهرها؛ وأما الصيغة الثانية فهي تصوّب عليها حكماً بالإدانة، تتحمل هي وحدها مسؤوليتها. وفي الواقع يبقى هناك سؤال الحقيقة هكذا، بالنسبة للصيغة الأخرى: ما هي أعراض الفشل، وبالتالي ما هي أسبابها ونتائجها. كل ذلك يتطلب ابتكار وتنظيم ثقافة جديدة قائمة بذاتها، لتتولى استيعاب عصر تدوين معاصر آخر، يشتغل على استخلاص نصوص الفكر من نص المايحدث التاريخي، بوصفه هذا النوع من الحدث الذي تنقضي وقائعه دون أن تنقضي عواقبه بعده.
هذا الجهد الكبير الاستثنائي قد لا يفيه حقّه جيلٌ من المثقفين الملتزمين، المخضرمين بين زمن لما قبل التدوين، وزمن التدوين عينه، لكن اللحظة الراهنة هي الأصعب في مشروع التدوين، لكونها هي لحظة استشعار بخطر انزلاق الذاكرة الجمعية المتميزة في سديم الذاكرة القطيعية التي تداهمها، لتبدل أحداثها وتسترق معانيها بأضدادها، أو بمسوخها الشوهاء؛ فالنهضة الفاشلة سوف تعتمد في تربيتها لأجيالها مرجعيات القيم والمفاهيم، مستمدةً من خزائن الذاكرة القطيعية الغبراء، وذلك ضداً على إرهاصات تبشيرية بعصر تدوير آخر مختلف. فالألحان الجديدة لا تطرب الآذان الصماء، كما ان العيون المطفأة لا تميز بين الليل والنهار. تلك أمثلة شائعة. لكن المشكلة في كل ما هو تسجيل قطيعي أنه لا يسمح إلا بقراءة المجاميع من الناس، سابقةٍ على تهجية الأفراد لدلالاتها أو مانعة لها.
عودة السيطرة الثقافوية للذاكرة القطيعية في الفضاء الجماهيري العام لا تعيق التبشير بعصر تدوين جديد، إلا يسبب خشيتها أن تكون هي موضوعَ مساءلته الأولى عن ذاتها، عن مدى أحقية عودتها من ما وراء الزمن، وممارسة آليات فعاليتها في إحباط وعوده المتنظرة، وكيف لها أن تبرّر وتسوّغ ممارستها اليومية في إنتاج البطالة الحضارية، ودعم حراسها معها حيثما تقوم معابد أوثانها الحجرية في كل مكان منسحب مقدماً من العصر؛ تلك هي جدلية النهضة مع كل من الذاكرتين، الجمعية السوية التي سوف تنطق باسمها نخبة التنويريين، وتلك الأخرى الذاكرة القطيعية التي تجتر آمريات الطقسنة الماضوية، وقد أعيد تعليبُها وتجديد قوننتها باحدث وسائل التحشيد والتعبئة للعقول والأفعال والمواقف. والهدف واحد دائماً في زمن البطالة الحضارية، يتلخص في منع الولادة الطبيعية للحرية من رحم التطورات الذاتية للمجتمع الناهض. وقد يتكرر هذا المنع طيلة المسيرة النهضوية بفعل قوى الخارج، حتى يغدو المنع من قبل الغير امتناعاً من تلقاء الذات أو المجتمع، ضد نفسه.
لا يصح التعلل دائماً بأن أنظمة الاستبداد كانت وستظل أقوى من شعوبها في العالمين العربي الإسلامي. ذلك أن التسلط في قمة الهرم، إنما يستمد هندسته المتعالية من دونية قاعدته. فالنظام والمجتمع متكافلان في تغذية التباسية الاستبداد ما بين دوريهما؛ فليس مقبولاً تعريف هيجل للمجتمع الشرقي، كونه مجتمعاً كله من العبيد، والسيد الحر الوحيد فيه هو حاكمه فقط. كان الأجدى عدم استثناء الواحد الحاكم. فهو الأشد عبودية لاستبداده لأنه لم يعد يملك خياراً آخر سواه، في حين قد لا يفقد العبد الأمل في تحطيم قيوده يوماً ما. هذا إذا استطاع شعاع تنوير ما أن يخترق جمجمة المستعبد، ويطلق عقله من أغلال الذاكرة القطيعية التي تفقده بداهته، كلما قرأت عليه تراتيل القدسيات الآتية من ما قبل التاريخ.
فالخاصية القطيعية منفعلة وفاعلة بما يأتيها من خارجها، حتى يصير (الشيء) الخارجي منبثّاً في خلاياها. فكما هي طائعة طيّعة لأوامر الماضي، فإنها قابلة لكل تلعيب جديد، قد لا ياتيها دائماً بصيغة الأمر المنجز. بل غالباً ما تكون له براعة الإيصال، والاندساس في فراغ تلك الذاكرة الخالية أصلاً من كل إرادة أو مقاومة واعية لما يُراد لها ويُفعل بها. بالمقابل يخوض التنويريون عبثاً معارك البحث عن مداخل نادرة إلى ما وراء صروح هذه الذاكرة القطيعية، لعلهم يتعرفون إلى بعض أسرارها، ويتعاملون مع بعض رموزها أو مفرداتها؛ لكنهم سريعاً ما يكتشفون أنه ليس هناك حقاً صروح جبارة قائمة هنا وهناك، وليس وراءها كائنات ناطقة فعالة. ثمّة عالم طيفي، أو مساحة شاسعة تتطاير في أجوائها أطياف عابرة هائمة، ليس ثمّة لغة مشتركة تُحكى معهم، سوى حفيف أجنحة شفافة، لا لون لها ولا مسار لانطلاقها. إنه عالم طيفي فحسب!
هل حان الوقت ليضع التنويريون ذواتهم موضع الفحص والسؤال والتفكيك، بدلاً من الاستغراق، طيلة منعطفات النهضة المغدروة التي تصير نهضةً فاشلة، في ابتكار التنظيرات حول مجتمع العدالة والحرية والمساواة، الموعود وغير الموجود لا اليوم ولا الغد المعروف. هل كان التنويريون أطيافاً، لاعبين آخرين في فضاء لا إسم ولا مكان له عندما اعتقدوا أن الاستقلال الوطني هو باب الحرية الصانعة للنهضة؛ لعلهم لم يأخذوا على عاتقهم الهم المبدئي المُسمّى ‘صناعة’ الحرية. فهي ليست لُقيا معلّقة على شجرة الاستقلال. إنها الصناعة الوحيدة الملتصقة بصانعها؛ فإن انفصلت عنه ارتدّ صاحبها عبداً، وانتكست هي إلى مجرد أسطورة مثالية.
الحرية هي البشر الذين يصيرون بشراً أحرارا،ً قبل كل مؤسسة إن كانت الدولةَ أو الحزبَ أو الأيديولوجيا، وحتى الطبقة. لكن الذاكرة القطيعية هي التي تريح شعبها من هم الحرية، تمنحه تعويضاً عنها، نعمةَ الطاعة لأُوَلي الأمر، داخل ذوات أفراده، قبل أن يكونوا حكّاماً شخصانيين في قمم السلطات العامة.
وإلى آخره من تَرَنُّح الفكر بين شاطئّيْ نهضة مغدورة بأعدائها المعروفين، وأخرى نهضة فاشلة بأبنائها وأدعيائها.
‘ مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي