إيديولوجية تجمع اليسار الماركسي (تيم): مقاربة نقدية ومادية
حسان خالد شاتيلا
إلى فاتح جاموس*
تقدَّمت عدد من الفصائل الشيوعية المنضوية تحت راية “تجمع اليسار الماركسي” (تيم) في سورية منذ فصل الربيع الماضي من العام 2010 بورقات عمل تعرض فيها لوجهات نظرها حول عملية التوحيد في ما بينها. وتُقِر هذه الحالات النقدية والتحليلية بصورة صريحة وواضحة بضرورة التوحيد لما تحمله المرحلة التاريخية من أسباب موضوعية تملي على هذه الأحزاب توحيد قواها بما يستجيب مع المهام المرحلية. إلا أن هذه المقترحات، بالرغم من أنها تقارب الواقع بصورة ملموسة، وترسم أمام الحزب الموحَّد مسارا نحو المستقبل غني بالوعود والأمل، ويرسي أيضا الأسس التي تكفل لحركة التحرر والديمقراطية أن تنتصر على مسار طويل من المراحل الانتقالية، إلا أنها أَخذت كلها بالمقاربة التكاملية لمسار التوحيد، على غرار ما جاء – على سبيل المثال – في ورقة حزب العمل: إن بناء الحزب الشيوعي الموحَّد عملية تتفاعل فيها مكونات…
ويَغلب على هذه الأوراق، بالإضافة إلى الرؤية التكاملية، ترجيحها للحوار، و”الجدل بين الأفكار” على الضرورة التاريخية التي تملي هذه الوحدة دونما تأخير، وذلك باعتبار أن وحدة الشيوعيين مهمة عاجلة وذات أولية في سلم المهام والمسارات. إن هذه الأوراق تضع – على سبيل المثال – القراءة النقدية لتاريخ وواقع الحركة الشيوعية في سورية بكل تكويناتها، أو مراجعة أخطائها، كمهمة لابد من إنجازها قبل الانتقال إلى التوحيد، وتجعل من تاريخ الحركة الشيوعية في سورية مساراَ يسير بمحاذاة غيره من المسارات، كمسار الحوار والتقارب النظري، وذلك بصورة مساوية وتكاملية لمسار التاريخ من حيث هو اليوم والآن يملي بوجه الضرورة هذا التوحيد. إنها بتعبير آخر تجزئ التاريخ بطريقة تجريبية، وتجعل من وحدة الشيوعيين عناصر ثقافية وفكرية. إنها، بتعبير آخر، تعزف على هذا النحو عن التحليل النقدي والمادي الذي يحيط بعملية التوحيد من حيث هي كلٌ واحدٌ لا تنفصل عناصرها في ما بينها.
بيد أن هذه الأوراق، بالرغم من أنها تحمل في طياتها مقترحات مفيدة وفعالة، إلا أن العقلية المدرسية التي تَعتَمد المقاربة التكاملية للواقع، وهي أيضا تجريبية تجزئ الواقع المادي والتاريخي إلى عناصر مفكَّكة أو مترابطة، هي التي ما تزال تسيطر عليها، وتوجِّه سياستها. ذلك أن هذه الفصائل الشيوعية، بالإضافة إلى مساواتها التكاملية ما بين نقد التجربة السابقة وغيرها من المسارات، فإنها تضع، إيمانا منها بضرورة التسريع في عملية بناء الحزب الموحَّد، الأولوية التي لا يعلو عليها أولوية غيرها لما تسميه تقريب الفهم والأفكار والآراء والمواقف… وهو الأمر الذي يؤكِّد مجددا أن العقلية المدرسية والفهم المثالي للمادية التاريخية هي التي تسيِّر حركتها نحو التوحيد.
ولا يقف التحريف المثالي لدى التشكيلات الشيوعية حيال عملية التوحيد عند حد ما هو مدرسي وتكاملي، بل وإن مفهومها هذا للتوحيد لا صلة له بالتاريخ من حيث هو نفسه الزمان، ليس الزمان الرياضي الذي يقاس بالتوقيت والساعة والليل والنهار وفصول السنة، وإنما الزمان من حيث هو نفسه التاريخ. إذ إنها تأخذ كل مسار من مسارات التاريخ على حدا أو بحد ذاته، فهناك مسار للضرورة التاريخية، ومسار ثانٍ للحوار النظري، ومسار ثالث لنقد التجربة، وأخر لرسم البرنامج السياسي المرحلي، إلخ. وهذه المسارات أو المكوِّنات “تتفاعل” – حسب ما جاء في هذه الأوراق – في ما بينها إلى أن تتمخض عن التوحيد. فإذا ما تركنا مسألة التوحيد بأيدي التفاعلية والتكاملية والتجريبية والعقلية المدرسية، فإن الأحزاب الشيوعية لن تبلغ إلى هذا التوحيد المنشود طالما تجري مقارباتها في صندوق أسود تتفاعل فيه الأدمغة إلى ما شاء الله؛ هذا، إن لم يتمخض الحوار “المتفاعل” عن مدارس شيوعية تكرِّس كل منها على حدا وبدورها لمثل هذه العقلية المثالية. إن الأوراق تضع باختصار شديد عملية التوحيد خارج التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية، وتفصل عملية التوحيد عن هذه التشكيلة كان توحيد الشيوعية ليس مجبولا بلبنة التشكيلة الاجتماعية والاقتصادية.
لكن عملية التوحيد تصبح في متناول اليد إذا ما نُظِر إليها من حيث هي مسارات تاريخية مادية أو زمنية، مضمونها الذاتي مكوَّن من الضرورة والتغيير والتحول والصيرورة والحركة والصراع الطبقي ونمط الإنتاج وموازين القوى والحزب والدولة والإمبريالية والإيديولوجية، إلخ. وهذه كلها تشكل ككل واحد المادية التاريخية، والتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية. وهذه المكوِّنات، إذا ما أمعنا النظر فيها هي عملية سياسية زمنية، شانها شأن نهر هيراقليط ومياهه المتدفقة والغزيرة التي تَحُول دون أن يُستحمُّ المرء فيها مرتين اثنتين. هذه العملية السياسية والزمنية هي نفسها المادية التاريخية لحياتنا السياسية، وهي عديمة الصلة بالفلسفة والمنطق والاجتماع، وغير ذلك من علوم ومعارف، ما دام الجدل – على سبيل المثال – ليس منطقا شأنه شأن المناهج المنطقية، تجريبية ورياضية أو غير ذلك، وإنما هو التاريخ المتجدَّد نفسه والذي يظهر للعيان بصورة ملموسة وتلقائية عير الدولة والثورة والصراع الطبقي ونمط الإنتاج وموازين القوى، إلخ. فالتاريخ وما يحمله ضمنيا من متغيِّرات سياسية لمكوِّناته، من نمط الإنتاج والزمان إلى الإيديولوجية، إلخ، أو المسار التاريخي للتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية، هو كل واحد لا يتجزأ، وهو أيضا الحيِّز الحي والمتجدد لتناقضات الواقع ومتغيِّراته المادية، أو ما يُعرَف بجدل التاريخ.
هذا الجدل المادي يَظهر ملموسا للعيان عبر الصراع الطبقي والتحولات المجتمعية ونمط الإنتاج، إلخ، وهو مختلف جوهريا عما يسميه بعض الماديين بالمنهج الجدلي أو المنطق الجدلي. ذلك أن نظام المعرفة ليس من نتاج العقل، وإنما هو معجون بالتاريخ من حيث هو مادة متجدِّدة ومتحوِّلة، أي مادة تاريخية وواقع جدلي. وهذه المتغيرات الواقعية التي تنتقل من الحالة الضمنية التلقائية إلى الحالة الواقعية الملموسة، الواعية والمُنَظَّمَة، ومنها الأحداث التاريخية الكبرى ككومونة باريس ونهاية الاتحاد السوفييتي وسقوط حائط برلين وظهور العولمة والإمبريالية الجديدة والصراع الطبقي والأحزاب الثورية والتحررية، خاضعة للتغيِّير من حيث هي كلٌ ماديٌ واحدُ، تحت وقع الأحداث والفعل والممارسة. وهذا كله علم سياسي مادي جديد يرفض، على نقيض من الاقتصاد السياسي والفلسفات المادية والمثالية والتجريبية وغيرها، التقسيم والتجزئة. وهذا العلم السياسي الجديد (المادية التاريخية) المجبول بطينة واحدة هي المادة التاريخية التي لا تعرف الانفصال ما بين الفكر والممارسة، المادة والوعي. هذا العلم السياسي متجدِّد تجدُّد الزمان والمادة التاريخية، وهو لا يفصل – على سبيل المثال – ما بين مسار تحرير المرأة ومسار نضال الطبقة العاملة. إنه يدحض الفصل ما بين التأمينات الاجتماعية للعمال والإيديولوجية السائدة بأشكالها القانونية والدستورية والثقافية. إن مكوِّنات المادية التاريخية خاضعة للتغيير، ليس من حيث الجوهر، فالصراع الطبقي باق ما بقيت الدولة ونمط الإنتاج الرأسمالي، إلخ، وإنما من حيث الشكل، كالصراع السلمي والآخر الثوري، التحالفات السياسية للبروليتاريا مع كل أصحاب الأجر المحدود والبروليتاريا من حيث هي طبقة بحد ذاتها، الحزب الشيوعي من حيث هو حزب الطبقة العاملة التي تدرك التاريخ عفويا قبل أن تدركه علميا بقيادة حزبها، والجبهة اليسارية الثورية. وما الوضع العالمي اليوم الذي يتميَّز بالعولمة النيوليبرالية أوالإمبريالية الجديدة وما يرافقها من أزمة رأسمالية سوى الشكل الجديد لجوهر قديم هو نمط الإنتاج الرأسمالي. لذا، فإن طبيعة المعركة السياسية بمكوِّناتها الطبقية والمحلية والعالمية، وفي مقدِّمتها الإمبريالية والصهيونية والأزمة العالمية الخانقة للنظام الرأسمالي والعولمة، هي نفسها المسار التاريخي للضرورة بكل ما تحمله من جدل متن التاريخ من حيث هو مادة زمنية، ومتن الزمان ما بين هذه المسارات من حيث هي كل واحد. وبتعبير آخر، فإن تقسيم عملية التوحيد ما بين الشيوعيين السوريين إلى مسارات منفصلة ما بينها، لا يأخذ بعملية التوحيد ما بين المسارات من حيث هي كل واحد معجونٌ بطينة واحدة هي التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية، ويفكِّك التاريخ إلى عناصر، وينفي الوحدة ما بين المسارات، ويلغي الزمان التاريخي غير المتجزئ، ولا يرى ما ينقله الزمان من تطور وتحوُّل وتغيير وصيرورة. ويحيل بذلك مسألة التوحيد إلى مسألة بحد ذاتها وكأنها النقطة التي يبدأ وينتهي منها وإليها العالم ويَغِيب، على هذا النحو، عن الفصل ما بين المسارات ما يمليه الصراع الطبقي، على الأصعدة القومية والإقليمية والعالمية، على القوى العاملة وأحزابها من توحيد مُلْزِم ما بين تنظيماتها. إن التاريخ المفكَّك إلى عناصر، شأنه شأن التوحيد الموهوم ما بين الشيوعيين، والذي يسير على مسارات متعدِّدة بدل أن يوحِّد ما بينها، لن يقود إلا إلى المزيد من تقفيص زمر شيوعية تتكاثر كخلايا السرطان التي لا تتوقف عن النمو إلا عندما يموت الجسم المريض.
والمادية التاريخية، من حيث هي التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية، مكوَّنة من مسارات وأزمنة، وتشكل في ما بينها كلا واحدا وتنفي الانفصال ما بين المسارات طالما هي عجينة من طينة واحدة هي نفسها الظروف الموضوعية. وإن التوكيد بصورة قوية ومستديمة على ضرورة الحوار النظري، والذي يجد مكانا واسعا له متن هذه الأوراق، لا علاقة له بالظروف الموضوعية أو بالمادية التاريخية. فالحوار ما بين حزبين أو أكثر ليس هو نفسه المادية التاريخية وجدل التاريخ. إن هكذا حوار ما لم يتحوَّل إلى ممارسة وبرنامج سياسي موحَّد ليس أكثر من جدل مثالي ما بين الأفكار. فإذا ما نحن بدأنا بالتفكير، فإننا لن ننته منه على مدى الزمان، شأننا في ذلك شأن الفلاسفة واللاهوتيين. وغالبا ما تنته المسارات الفكرية إلى هرطقة سماوية لا علاقة لها بالواقع المادي أو السياسة المادية. أما إذا بدأت هذه الأحزاب بالعمل السياسي المادي، أي الأخذ بصورة فورية وعاجلة بما تمليه الظروف الموضوعية، القومية والإقليمية والعالمية، فانتقلت إلى التأسيس لحلقة شيوعية قوية أولى بناءً على برنامج سياسي شيوعي ومرحلي، فإن المسارات الأخرى ستَنتَقِل إلى حيز الواقع والممارسة بالممارسة ومتن البرنامج السياسي وليس بالفكر، ما لم يكن الفكر هو نفسه معجون كالممارسة من لبنة التاريخ وبمسارها الزماني. وستخضع هذه المسارات بدورها للتغيير، والتحول، والتجديد، والصيرورة عبر الحزب والصراع الطبقي ومناهضة الإمبريالية وتغيير الدولة وموازين القوى ونمط الإنتاج الرأسمالي. وستخضع عملية التوحيد، حينئذ وعلى هذا النحو، لجدلية التاريخ المادي أو زمانه متن التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية، صيرورتها ولبنتها أو بنياتها.
لقد أهملت إذن هذه الأوراق في مقارباتها لعملية التوحيد أن التاريخ يدحض الانقسام إلى مسارات زمنية منفصلة ما بينها، ورجَّحت على المسارات التاريخية الموحَّدة المقاربة التكاملية، المدرسية والتفاعلية، وسلخت مسألة التوحيد ما بين الشيوعيين عن البنية العامة التي تُنتِج من مائها وترابها، لحمها ودمها، حزب الطبقة العاملة ووعيها التاريخي وثورتها على الإيديولوجية والفلسفة، وتفرض من حيث أن هذا الدم واللحم، هذا التراب والماء، هو نفسه التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية التي تُنتِج لحزب الشيوعي. هذه التشكيلة التي تميِّز، بخلاف تيم، ما بين تكوين الحزب الشيوعي وصيرورته – وصيرورة الحزب هي نفسها صيرورة التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية – وما بين الأحزاب البورجوازية التي تعود بتكوينها إلى تقسيم وتجزئة المجتمع والاقتصاد، وفصل أحدهما عن الآخر، والفصل ما بين الدولة ونمط الإنتاج، والسياسة والطبقة. ف/تيم لا يختلف عن أي حزب بورجوازي في مقاربته للتوحيد. وحري ب/تيم أن يتذكر أن توحيد الشيوعيين ليس هو نفسه التوحيد ما بين الحزب االوطني وبورجوازية حلب التي كانت مرتبطة بالعراق وتركيا والسوق البريطانية، وحزب الشعب وبورجوازية دمشق التي كانت مرتبطة بمصر وآل سعود والسوق الفرنسية والأمريكية. فإن للمرحلة التاريخية، زمانها ومسارها ككلٍ واحدٍ، وهي التي تَفرض بوجه الضرورة هذا التوحيد، وهي أيضا التي تقود عبر التوحيد وفي ضوء المرحلة إلى التقريب ما بين المسافات النظرية في ما يتعلق بالمفاهيم المتباينة حيال المادية التاريخية وتاريخ الحركة الشيوعية والدولة ونمط الإنتاج، إلخ، هذه المفاهيم التي تباعد ما بين أحزابنا الشيوعية والضرورة التاريخية طالما هي تعلي النظرية على الممارسة، وتنسى أن الممارسة في السياسة المادية ترتفع إلى مستوى المفهوم إن لم تعلو عليه. وإذا كان لكل من هذه المسارات زمانه وتاريخه، كأن يكون زمان التقارب على مسار نقد الستالينية ومورِّثاتها أسرع من التقارب على مسار تشخيص المرحلة الحالية والانتقالية اللاحقة، إلا أن الصهر ما بين هذه المسارات لا يأتي عن طريق التفكير، وإنما بفضل العمل والممارسة الذي يتفوق على الفكر ، بل وأن الممارسة والنظرية مجبولان بطينة واحدة هي التاريخ، والجدل ما بينهما ينساق في مسار من الصيرورة والتغيير الواقعي والملموس. ولن يأتي التقارب المنشود أيا كان المسار ما لم تبدأ الأحزاب وتنطلق من المسار التاريخي العام للصراع الطبقي، والممارسة الشيوعية الطبقية والمناهضة للإمبريالية، ونمط الإنتاج، والنضال القومي والإقليمي والعالمي، وهذا كله هو لذي يملي لزوما بضرورة التوحيد ما بين التكوينات الشيوعية فوريا.
* * *
وإلى ذلك، فإن مسألة التوحيد تسير على عدد من المسارات التاريخية، ظاهرها تعدُّدي تعدُّد المكوِّنات التاريخية، ومنها الصراع الطبقي ونمط الإنتاج وموازين القوى والحزب، إلخ، وجوهرها واحد، وهو التغيير والصيرورة والضرورة.
إن المرحلة التاريخية الراهنة، من جهة، وما تحمله من مكوِّنات مادية، منها الوضع السياسي والاقتصادي في سورية، والظروف السياسية الإقليمية بما في ذلك المقاومة وتحرير فلسطين والجولان المحتل، والوضع الدولي الذي يتَّسم بالأزمة التي تسيطر على نمط الإنتاج الرأسمالي، وسنأتي على الحديث عنها لاحقا، تَفرض بوجه الضرورة هذا التوحيد. لكن الأحزاب الشيوعية المحمَّلة بأثقال من الانحرافات الفلسفية والمنهجية والمثالية والمنطقية (ومنها الفصل ما بين المادية التاريخية والمادية الجدلية، الماركسية اللينينية من حيث هي المؤسَّسة الإيديولوجية للدولة الستالينية، تعريف الماركسية بأنها منهج تارة ومنطق أو فلسفة تارة أخرى)، والمنقسمة في ما بينها حيال تعريف طبيعة النظام الحالي والمرحلة الانتقالية اللاحقة، يَحُول ذلك كله دون أن تكُون أحزابنا الشيوعية مهيأة في ما حضر وبصورة فورية كي تكون هي نفسها التاريخ، وذاتيته، أو ضروراته.
إن قطع المسافة الفاصلة ما بين هذه الضرورة من جهة، والأحزاب المثقلة بانحرافات الماضي والحاضر من جهة ثانية، من أجل إنجاز التوحيد، يمر عبر التغيير والتحول والصيرورة والتطور والصراع الطبقي ومناهضة الإمبريالية والدولة والتحرر الوطني والديمقراطي، أي بفضل البرنامج السياسي الموحَّد، أو الممارسة التي تنفرد بإدراك ذاتية التاريخ وما تنتجه من وعي وأفكار. وهو بهذا المعنى مسار من جدل التاريخ المادي وصراعاته وتطوراته وتحوُّلاته. إنه المسار الجدلي المادي والواقعي، وهو ذو أولوية على غيره من المسارات طالما هو الكل الذي لا يتجزأ إلى كثرة، وهو الذي يوحد ما بين أحزابنا الشيوعية وذاتية التاريخ التي تُلزم هذه الأحزاب بالتوحيد ما بين تشكيلاتها، والتأسيس منذ اليوم لحلقة أولى قوية تحمل برنامجا سياسيا، وتخوض الصراعات السياسية والطبقية، وتساهم عبر نضالها ومعاركها السياسية في التوحيد ما بين ذاتية التاريخ المادي المتطور والمتغيِّر والمتحول، وما بين أفكار الشيوعيين السوريين ومدارسهم، بحيث تصبح هذه الأحزاب، من حيث سياستها، ممارساتها ووعيها ونظرياتها، هي نفسها ذاتية التاريخ التي توحِّد ما بين الصراع التاريخي والحزب الشيوعي في برنامج سياسي مرحلي يرد على المرحلة ويستجيب للصراعات والتطورات المُلزِمَة لها. ولا بد هنا من التذكير بأن التجمع الماركسي الديمقراطي (تمد) يتميَّز بورقته على غيره من الزمر الشيوعية ل/تيم بما تمنحه للبرنامج السياسي والتحليل النقدي لطبيعة المرحلة التاريخية من أهمية.
إن تقليص المسافة، من جهة ثانية، ما بين واقع الأحزاب الشيوعية في سورية، وما بين ضرورات المرحلة التاريخية، يأتي على مسار تاريخي وزماني من بناء الحزب الموحَّد. إذ إن الأحزاب الشيوعية ما لم تبدأ بذاتية التاريخ وضروراته، وتتعرَّف وتَعتَرِف بذاتية التاريخ والضرورة، فإن بناء الحزب الموحد وتنظيماته ونظامه الداخلي سيستعصي أمره على هذه الأحزاب، فتبقى على حالها اليوم مشتَّته ومتنافسة في ما بينها. وتخضع بدورها العلاقة ما بين هذين المسارين، أي الضرورة التاريخية والحزب، من جهة، التاريخ والزمان وما يحمله من صيرورة وتطور وتحويل وصراع وحركة، من جهة ثانية. فالجدل مادي، تاريخي، وواقعي ملموس، وليس مكتوبا على الورق ومتبادلا ما بين الأحزاب والأفكار على صفحات الصحف وعبر أجهزة المعلوماتية، أو تحت سقف “التجمع اليساري الماركسي” (تيم). والملاحظ أن الشيوعيين السوريين بصورة عامة ما يزالون يميَّزون ما بين الممارسة والنظر، ويعتقدون، على غرار غرامشي أن العلاقة ما بين الفكر والممارسة جدلية، أو براكسيس حسب المفردات الفلسفية لغرامشي. أما إذا نظرنا إلى هذه العلاقة من وجهة نظر المادية التاريخية، فإن العلاقة الجدلية ما بين هذين المكوِّنين لا يأتي من تلاقيهما في ضباب النظريات الفلسفية، وإنما من التوحيد ما بينهما ماديا في التاريخ توحيدا لا يميز بين الذات والموضوع، النظرية والممارسة، أي ما بين التاريخ والوعي الطبقي للبروليتاريا، ما دام الفكر والنظر مجبولان بطينة مادية واحد هي المادية التاريخية. بيد أن النظرية، وإن كانت موجودة بصورة مستديمة متن التاريخ المادي، السياسي والاقتصادي والمجتمعي والبيولوجي، إلا أنها تبقى ضمنية. ولا تنتقل إلى التنظيم إلا عبر الممارسة والحزب البروليتاري. فالنظرية تمر على هذا النحو من الحالة الضمنية والعفوية إلى الحالة المنظَّمة الواقعية. وهي في الحالتين مادية، ضمنية عفوية في البدء، ثم واعية وحزبية ومنظِّمة، أي علمية. وإنما هي في جميع الأحوال مادية وتاريخية. فالانتقال من العفوية إلى الوعي الحزبي المنظم،أي العلمي والشيوعي، مادي ومجبول بلبنة التاريخ المادي، وهو ليس انتقالا من العفوية والضمنية إلى الحالة النظرية والتنظيمية، إلا بالمعني الجدلي، ليس جدل الفكر والمنطق، وإنما الجدل الاقتصادي السياسي، وهو واقعي ملموس، وحيزه هو نفسه الصراع الطبقي المحلي والعالمي، ونمط الإنتاج المحلي والعالمي.
هذا الانتقال ليس فكريا أو منطقيا إلا من حيث هو ممارسة أوفعل يأخذ نظاما من التناقض أو الصراع، والتحول والتغيير والصيرورة. وما تاريخ الشيوعية (الماركسية) إلا هذا النقاش حيال اكتشاف النظام المادي الآني والمرحلي. لآن النظرية والممارسة كالوعي أو الفكر والفعل مجبولان من طينة مادية واحدة هي التاريخ. وإن الجدل هو جدل التاريخ الواقعي والملموس من حيث هو ذاتية موضوعها التاريخ المادي نفسه. فالمضمون والذات في المادية التاريخية كل واحد لا تمييز فيه ما بين الذات والموضوع، ذاتية التاريخ (وعي البروليتاري،الصراع الطبقي، التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية، نمط الإنتاج)، موضوع التاريخ (الحزب الشيوعي من حيث هو القوة المنظَّمة للطبقة العاملة، النظرية، أي المادية التاريخية، أو أيضا ولمزيد من الوضوح: المادية السياسية مقابل القائلين، على غرار ستالين، بأن الماركسية فلسفة أو منطق دياليكتيكي أو منهج). إن الجدل يتحرك في الواقع الملموس، وليس ما بين الأفكار والأحزاب، إلخ. فإذا كان التاريخ والوعي المادي للبروليتاريا وحلفائها يشكل كلا واحدا أو ذاتية واحدة هي ذاتية التاريخ المادي، فلأن المادية السياسية لا تميِّز ما بين الإنسان (البيولوجيا، والمجتمع، والإنسان المجتمعي) من حيث هو ذاتية التاريخ وموضوعه، شأنه شأن الطبقة العاملة وحزبها.
وليس ل/”الإنسان” بمعناه الشمولي وحدِّه المجردّ عن أي انتماء طبقي، وجوداً إلا في القاموس الإيديولوجي للبورجوازية. لاسيما وأن كل وعي هو وعي منحاز وطبقي. إلا أن أوراق تيم تأخذ في أكثر من موقع بالمفهوم البورجوازي لل”إنسان”. وفي مثل هذه الحالة، فإن الفوارق الطبقية، حسب مفهوم الإنسان كإنسان، تلْغي نفسها لتترك المجال واسعا أمام إنسان لا طبقة ينتمي إليها، شمولي ومجرَّد. لكن الوعي الطبقي، وهو سياسي مادي، ليس موضوعا لذات هي التاريخ، وإنما هو نفسه ذاتية التاريخ وموضوعها. إذ إن الوعي الطبقي أو الإنسان الذي يعي التاريخ، والتاريخ هنا هو الموضوع، هو نفسه هنا وهناك، في حالتي الوعي والممارسة، النظرية والعمل، الإنسان هو نفسه موضوع التاريخ وذاتيته معا من حيث أن الوعي الطبقي (أو الإنسان) هو تطور تاريخي له مسار من التطور متعدد الأشكال بالرغم من أنه واحد لا يتجزأ في تنقُّله ما بين علم الحياة والمجتمع والإنسان المجتمعي. وكان ظهور الطبقة العاملة السياسية والمنظَّمة في منتصف القرن التاسع عشر، وما رافق ذلك من ثورات في فرنسا وألمانيا، رافقه ظهور المادية التاريخية أو السياسية المادية التي قلبت المفاهيم والأنظمة الإيديولوجية ومؤسساتها. إذ إن ظهور العامل الذي يثور في الكومونة ومع عمال النسيج في ألمانيا، نقلت حيِّز التفكير من البورجوازية إلى البروليتاريا، ومن الفلسفة والمنطق إلى المادة من حيث هي تاريخ وحياة ومجتمع وإنسان مجتمعي.، أي العلم السياسي المادي، أو المادية التاريخية. وهي معرفة أوسع من العلوم الجامدة والمخبرية. فانتهي مع هاتين الثورتين ، حسب ماركس وإنجلز، عهد الفلسفة والإيديولوجية، وأصبح الحزب البروليتاري والطبقة العاملة هي التاريخ ووعيه، ذاتيته وموضوعه في آن واحد وبصورة لا انفصال فيها بين الحدين.
ومن العبث بمكان، من جهة ثالثة، أن تَرتَفع القضايا النظرية عقبة أمام توحيد الشيوعيين، لأن الخلافات النظرية ما لم نَخرج من المادية بمدارسها المثالية والمنطقية والتجريبية والميكانيكية والتطورية الداروينية، لتأخذ بمقولات التاريخ المادية من حيث هي مكوناته الملموسة، كالصراع الطبقي ونمط الإنتاج، وموازين القوى، والإمبريالية، والتي يحتار الشيوعيون ويختلفون عبر تاريخهم في ما بينهم حول تلمس تطورها وتغيُّرها، ووضع اليد على نظام الصراعات والصيرورة في الواقع الملموس. لكن هذه الخلافات الشيوعية تبقى أشبه ما تكون بصخرة فولاذية غير قابلة للتفجير من أجل فتح ممر للمرور عبرها. إلا أن هذه الخلافات في ضوء المادية التاريخية ليست عقبة مادية، وإن كانت كذلك بنظر المثاليين الماديين والستالينيين. فستالين الذي توهَّم بوجود عقبات نظرية هي مصدر للنزاع ما بين البلاشفة لأن “أب الشعوب” مثالي مادي، لم يجد حلا للخلافات ما بين الماديين الروس، دياليكتيين وتطوريين وهيجليين وميكانيكيين، سوى بإعدام كل من يخالف دولته وفلسفتها، أي الماركسية اللينينية التي ابتكرها، واستبدل باسمها وللدفاع عنها الشيوعيين الذين أُعدموا بالألوف، بأجهزة الدولة والفكر النظري الفلسفي. حتى أن النظرية أصبحت هي نفسها العقبة أو هذه الصخرة.
كلا، من الحري بنا أن نجد الطريق الذي لا يصطدم بالصخرة، ويُبقي عليها في آن واحد معا. هذا الطريق ليس مسألة أخرى سوى مسار التاريخ نفسه. هذا المسار المتجدِّد والمتطور. وهو جدلي، أي أن الدياليكتيك هو نفسه التاريخ المتطور والمتغيِّر في نظام من الصيرورة التي تسبق الوعي بفارق زمني ما. وهذا النظام من الصيرورة ليس منطقا مجردا قوامه قوانين، وإنما هو من طينة واحدة لا تنفصل عن المادة التاريخية المتجدِّدة والمتطورة، وهو نفسه‘ وفي وقت واحد، الوعي من حيث هو مادة وذاتية التاريخ معا، وليس منطقا كالمنطق الصوري والوضعي، أو الدياليكتيكي إلخ، وليس منهجا كما هو الحال في العلوم التجريبية والرياضيات، أي أن الجدلية ليست قوانين عامة مجردَّة وشاملة، وإنما هي نفسها التاريخ الذي يأخّذ أشكالا متحوِّلة في نظام من الصيرورة المستديمة. وهذا التاريخ يَجمَع في لبنة واحدة لا تتجزأ ما بين البيولوجيا أو علم الحياة، والمجتمع، والإنسان المجتمعي (البروليتاريا ومثقفوها وحزبها).
وعلى سبيل المثال، فإن الحزب الشيوعي في عهد ماركس وإنجلز ولينين ولوكسمبورغ وتروتسكي كان هو الذي يَجمَع في لبنة واحدة الوعي المادي من حيث هو نفسه موضوع التاريخ. وهذا الجمع بين ذاتية المادة وموضوعها في لبنة مادية واحدة هو الذي كان يجعل من الحزب الشيوعي، من حيث هو حزب البرولييتاريا الثورية حتى غاية وفاة لينين، مصدر الحقيقة التاريخية. ولما كان الوعي طبقي، وكانت البروليتاريا هي مصدر ومضمون، ذات وموضوع، الثورة المعرفية السياسية والواقعية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإن البروليتاريا الثورة وحزبها الشيوعي ينفرد في قيادة الثورة العمالية الاشتراكية. الأمر الذي يعود بديكتاتورية البروليتاريا، من حيث منشئها ومصدرها، إلى الثورة المعرفية والسياسية التي بلورت بصورة مادية ملموسة، وذلك عبر كومونة باريس والثورة العمالية في ألمانيا، هذا التوحيد ما بين البروليتاريا والتاريخ، الممارسة والمعرفة، الذات والموضوع، الحزب الشيوعي من حيث هو يجسِّد موضوع التاريخ وذاتيته. بيد أن الخلافات ما بين الشيوعيين ما بعد لينين أصبحت أشد مما كانت عليها قبل رحيله. وكانت روزا لوكسبورغ حذَّرت لينين من استبدال البروليتاريا باسم ديكتاتوريتها بالدولة، وحثَّته على ترجيح دور البروليتاريا وحلفائها في ظل ثورتها البلشفية بممارسة الحرية السياسية وحق التعبير عن الرأي والاختلاف حول قضايا الثورة ومكافحة الدولة التي تمارس الديكتاتورية باسم البروليتاريا. ثم أصبحت الخلافات أكثر شدة وعنفا مع ستالين، وهي مستمرة. فلقد أصبحت ديكتاتورية البروليتاريا اليوم تعني زوال الدولة ما بعد الثورة وعلى مسار من الانتقال إلى الاشتراكية، ومن ثم إلى الشيوعية بعدما كانت تعني للشيوعيين في عهد ستالين تكريس الدولة الاشتراكية.
ومصدر هذه الخلافات النظرية واسعة الانتشار بالأمس واليوم ما بين الشيوعيين هو تشخيص نظام الصيرورة المادية والتاريخية، وهي سياسية، واكتشاف تناقضاتها وتطورها وتغيرها في تاريخ سياسي لا يسير كما كان يريد ستالين حسب المادية الدياليكتيكة وقوانيها المنطقية الجدلية، وإنما يشق لنفسه في كل مرحلة تاريخية، وباختلاف المجتمعات، نظاما جديدا من الصيرورة يَختلف فيه نظام الصراع والتناقض والتطور والخصوصية والشمول والثورة والدولة، يختلف من حالة إلى حالة، ومن زمان إلى آخر، وفي كل مرة؛ هذا وإن كان الصراع ونمط الإنتاج والصيرورة نظاما ثابتا وعاما.
وكانت المادية التاريخية نشأت في صميم نقاش نظري لا ينته ما بين الشيوعيين. ذلك أن المادية التاريخية تتجدَّد كل يوم، وأعمال المادية التاريخية على صعيدي النقد والظروف التاريخية ومساراتها الواقعية لا نهاية لها. وأعمال ماركس وإنجلز ليست نهاية التاريخ، وهي من حيث الأصل غير منتهية. فأعماله متجدِّدة، وما تزال حيَّة بصورة مستديمة، طالما تتجدَّد بصورة مستديمة وتغتني. إن الشيوعيين لا يعودون إلى ماركس، وإنما يعودون بماركس إلى الحاضر. كما أنهم لا يعودون إلى المنطق الدياليكتيكي والمادية الدياليكتيكية لتشخيص الحاضر والآني المتطور، وإنما يعودون إلى المادة التاريخية التي تَكشِف أو تُخفي، تُظهر أو تُضمر، ما هو متجدد في صيرورتها. ها هنا موضع الخلاف ما بين الشيوعيين عبر قرن وأكثر، وإن كانت المادية التاريخية هي المرجع والمرجعية، ليس من حيث هي فكر نظري، وإنما من حيث هي الواقع الملموس المتغيِّر وذو الصيرورة، وهي التحليل الملموس للواقع الملموس. إنها النقد، والرجوع إلى الظروف والسياق التاريخي.
وعلى هذا النحو، فإن أوراق رفاقنا الشيوعيين ، من جهة رابعة، تميل إلى التحدث باسم “الإنسان”، بمفهومه الشمولي، وهو مفهوم بورجوازي، وتطغى عليه المثالية، وقد أَسقطت إلى حد كبير من مقاربتها أنها تترجم – حسب ما هو مفترض – عن وعي البروليتاريا وحلفائها وحزبها، وأحلت محله “الإنسان”، هذا المفهوم البورجوازي الذي يوحِّد أيديولوجيا ما بين قيم البورجوازية المستحوذة على الملكيات، وكل من لا يملك سوى قوة عمله في كل واحد شمولي، اسمه المجتمع المدني. ويُفهمً اليوم من خطاب الشيوعيين السوريين، ومنهم تيم، أن المجتمع المدني الذي ينبرون للدفاع عنه هو نفسه المجتمع المدني بمعناه البوروجوازي، والذي يضع القانون والتشريع بكل أنواعه من دستورية إلى جنائية مكان التاريخ والبروليتاريا، والإنسان محل الطبقة، وقيم الملكية الفردية مكان الملكية الجماعية، والحريات العامة من حيث هي البديل للثورة.
ولم تَعثر من جهة خامسة هذه الأوراق على أثر للمسار الذي يقطعه الحزب عبر الواقع والزمان المادي وما يحمله التاريخ والزمان من جدل تاريخي، ما بين النواة الأولى للحزب الموحَّد، من جهة، وتوحيد كافة اليساريين الماديين الثوريين، من جهة ثانية. فالمسار الذي يمتد أمام توحيد الشيوعيين ما بين تأسيس النواة الأولى للحزب الشيوعي الموحَّد، وتعبئة أصحاب الأجر المحدود، من عمال وفلاحين وكل من كان لا يملك سوى قوة عمله، وذلك على مسار الثورة الوطنية الديمقراطية، بقي غائبا. هذا ما لم يكن برأي تيم وغيرها انتظار خدعة الإصلاح تارة، والسير وراء وهم البورجوازية الديمقراطية تارة أخرى.
ولم تضع أيضا هذه الأوراق، من جهة سادسة، وبوجه خاص “تمد”، يدها على التحليل السليم للمرحلة. إنها تفترض – المكتب السياسي بوجه خاص – أن حزبا يساريا قويا للبروليتاريا، أو جبهة يسارية قوية، قادر على ممارسة الضغوط على سياسة “الحكومة البورجوازية” في مرحلة الثورة البورجوازية الديمقراطية، بما يلبي حاجات ومطالب أوسع الفئات الشعبية وأكثرها هامشية، وبما يعزز أيضا من مفهوم المواطنة وإنصاف الأقليات القومية المتظلِّمة، ويرسي بفضل ديمقراطية السوق لمرحلة لاحقة هي الانتقال الاشتراكي. هذه الفرضية تراهن إذن على البورجوازية في إنجاز بعض المهام الديمقراطية والوطنية، وكأن الظروف التاريخية في سورية تَحتَمل هكذا رهان وهكذا فرضية!
هذه الفرضية ما هي سوى استمرار لشعاري “الانتقال السلمي التدريجي”، و”العمل السياسي العلني” بصورة جديدة. فكـأن الشيوعيين لا عمل لهم أيا كانت المرحلة السياسية سوى انتظار الإصلاح، والتعويل على حرب المواقع في مواجهة البورجوازية. الآن حيال بورجوازية السلطة الديكتاتورية، وغدا مع ديمقراطية السوق البورجوازية. وكأن الصراع الطبقي ومناهضة الإمبريالية – حسب القوانين الشمولية والمجردة للمادية الدياليكتيكية – هو نفسه بصورة مستديمة وفي جميع الحالات، في سورية وفرنسا على حد سواء. لكن مثل هذا التحليل التاريخي، وإن كان يصح في الحالة الشمولية للتاريخ من حيث جوهره، إلا أنه ينحرف عن ذاتية التاريخ إذا هو لم يأخذ بالخصوصية التاريخية إلى جانب الشمولية. إن التمسك بدروس الشمولية، وإهمال الخصوصية، يقود أحيانا الشيوعيين إلى الخلط كيفما اتفق ما بين الحالة السورية والحالة الروسية والحالة الفرنسية، وغيرها من الحالات.
لكن الواقع، وواقع السلطة البورجوازية في سورية في المقام الأول، يسير في الاتجاه المعاكس للنوَّم الذين ما زالوا يَحلمون ببورجوازية ديمقراطية تحمل معها بذور الثورة الاشتراكية. إن أحلام اليقظة أيضا، ما بعد أحلام النوم السطحي، فات عنها، من جهة سابعة، أن دستور الجنرال أسد أصبح قديما، ولم يعد صالحا في الوقت الحالي بعدما سيطر نمط الإنتاج الرأسمالي في سورية، وتعزَّزت البورجوازية التي كانت طرفيه حتى غاية الحركة التصحيحية لمؤسس دولة العصبية، دولة السلالة والعشيرة، ثم أصبحت مسيطِرَة بعدما اتسع توزيع الثروة ليشمل الأسرة الحاكمة والبيروقراطية والرأسمال السوري والعالمي. إن البورجوازية اليوم بقيادة البورجوازية البيروقراطية، وإن كانت تَفتقد إلى التنظيم السياسي، هذا ما لم يُعتَبَر “إعلان دمشق” بوادر متقدِّمة له، شأنه شأن رياض سيف ومأمون الحمصي وعبد الحليم خدام والأخوان المسلمين وغيرهم كثرٌ، فإنها تنم عن نشأة جديدة للبورجوازية السياسية. إنها، بورجوازية سلطوية كانت أم ديمقراطية، تطمح إلى نظام سياسي من نمط “جديد” يَفتح أبواب سورية على مصراعيها أمام السوق الرأسمالية العالمية، والليبرالية الجديدة، والعولمة، ويرفع الحواجز أمام الإمبريالية والصهيونية. وتَطمح أيضا البورجوازية البيروقراطية في ما هي آيلة إلى التحول نحو البورجوازية الديمقراطية، إلى قطع الصلة ما بين سورية وإيران من جهة، والمقاومة (حزب الله وحماس)، أي ما تسميه العولمة النيوليبرالية ب”الإرهاب”. هذا، إن لم تكن تتطلع إلى “إحلال السلام” مع إسرائيل، والسير من وراء المنظَّمة الرأسمالية للدول الأوروبية أو ما يسمّى ب”الاتحاد الأوروبي”. ولم لا طالما سيطرت عقائد البورجوازية على المجتمع والدولة، حتى أن بعض هذه الأوراق “الشيوعية” عَلَّقَت القضية الفلسطينية في الفراغ، وتَرَكَت محلا لانضمام سورية إلى “السياسة العربية الرسمية”!
إن البورجوازية – من جهة ثامنة – تجد من يمثِّل تطلعاتها هذه في أعلى قمة الأجهزة صاحبة النفوذ، والتي تقود بنفسها البورجوازية وتمثِّلها سياسيا . وسوف تَنجح على الأرجح البورجوازية البيروقراطية في تغيير النظام السياسي لصالحها، ما دامت العلاقات الرأسمالية تخطَّت الحالة الدستورية والسياسية للنظام الحاكم، وحلَّت الأجهزة محل الدولة وحزب البعث، في ما فُتِح الباب أمام الرأسمال العالمي. وتتطلَّع البورجوازية الطرفية بقيادة مثيلتها البيروقراطية، وهما شريكان في السوق المحلية والعالمية، بعدما تراكم لديها رأس المال بصورة تفيض عن الإمكانيات المتوفرة أمامها في ظروف سيطرة بورجوازية متأخرة سياسيا، إلى ظروف سياسية واقتصادية تتيح لها فرصا أوسع لاستغلال اليد العاملة، ومن أجل أن تبسط سيطرتها على الصغيرة والكبيرة في السوق، وكي تمارس الحكم بما في ذلك التشريع والقانون والدستور، بحيث يحل محل نظام بورجوازية الأجهزة نظام جديد يمارِس القمع على القوى العاملة وأصحاب الدخل المحدود، ويَستغل قوى العمل أبشع استغلال لصالح رأس المال بصرف النظر عن هويته القومية، وذلك في ظل ديمقراطية من النمط المصري في أحسن الأحوال، وأجهزة بوليسية أكثر تحضُّرا من سابقاتها، وتمارس قمع الحريات بأسلوب “متمدِّن” يؤسِّس له الدستور والقانون وغيرهما من مكوِّنات الإيديولوجية قاعدة قانونية لممارسة أبشع أنواع العنف على قوى العمل. وفي مثل هذا الحال، لن يلبث الشيوعيون وحلفاؤهم أن يتحولوا في ظل البورجوازية الديمقراطية إلى إرهابيين، وتنزل بهم أبشع أشكال العنف والتنكيل. إن تحوُّل الشيوعيين إلى إرهابيين سوف يأتي على أرضية من أسلوب قوامه إغراق الإعلام بالصحف والمنابر ووسائط الاتصالات بكل أنواعها البورجوازية والليبرالية الجديدة، بما في ذلك الصحف الأجنبية والرجعية، إلخ، بحيث تنتشر إيديولوجية العولمة أو الإمبريالية الجديدة، ويضيق الخناق من حول اليسار. لاسيما وأن اليسار، وبوجه خاص الشيوعي منه، متفتِّت، ومتشتِّت، ويحمل علاوة على ذلك فوق رأسه قبَّعات نظرية لا علاقة لها بالخصوصية التاريخية.
وإذا كان لدى “تمد” و”المكتب السياسي” و “حزب العمل” إدراك بأهمية التوافق على برنامج يستجيب للضرورة التاريخية، وبوجه خاص ورقة “تمد”، إلا أن هذه الأوراق، من جهة ثامنة، ما تزال غير قادرة حتى غاية الآن على التوافق حول برنامج مرحلي. بل، وإن بعض الشيوعيين إن لم يكن كثرة منهم، ما يزالون يعوِّلون الآمال على البورجوازية الجديدة وإصلاح السلطة. وهذه الأوراق تُهْمِل، على هذا النحو، معالم المستقبل التي بدأت تُفرِّخ في الواقع. إنها تغض الطرف عن المكوِّنات البورجوازية للنظام والتي تطالِب باللحاق بالسوق العالمية الرأسمالية والاندماج الكامل بالعلاقات النيوليبرالية. ولن يكون التغيير في مثل هذه الظروف، لاسيما وأن المعارضة اليسارية غائبة، مجتمعيا يعبِّر عن الشعب قوميا واقتصاديا، وإنما سيأتي من أعلى قمة السلطة، عبر انقلاب عسكري فاشي من حيث المضمون ينادي بالوطنية السورية من أجل تبرير القطيعة مع إيران، وديمقراطي من حيث الشكل، يأخذ بديمقراطية السوق، ويُطلق الحرية أمام الاستثمار والاستغلال، ويكافح اليسار الشيوعي مستعينا بتهمة الإرهاب، ويَعقد صلات وثيقة مع الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي. وبالمحصِّلة، فإن هذه الأوراق ما تزال متردِّدة حيال توصيف المرحلة، وتتعامى عن رؤية مدى تأثير الإمبريالية الجديدة أو العولمة النيوليبرالية، اقتصاديا من حيث حرية تنقل الأموال عبر العالم، وإيديولوجيا من حيث انتشار عقيدة “الإرهاب” و”نهاية الإيديولوجية” – هذا فضلا عن أن أحزاب “تيم”، حسب ما يتبين من هذه الأوراق، ما تزال متردِّدة بدرجات متفاوتة حيال الاستجابة إلى الضرورة التاريخية – طالما أن العولمة النيوليبرالية ألغت الأوطان والوطنيين، ومسحت الحدود القومية ما بين البورجوازيا، وروّجت لما تسمِّية البورجوازية الوطنية والديمقراطية.
وإذا كان المستقبل السوري بورجوازيا من حيث الشكل والمضمون، نمط الإنتاج وإيديولوجيته، إلا أن الشكل يبقى، من جهة تاسعة، موضعا للتنبؤ الذي يتسع لاحتمالات متعدِّدة. ذلك أن التكهن بمستقبل التاريخ من حيث الأشكال، وليس مضمون المسار والسياق والظروف، ليس دقيقا وحتميا كما هو الحال في العلوم الجامدة، لأن التاريخ أو حوادثه السياسية العظمى أوسع من الوعي ويتقدَّم عليه زمنيا. فليس بوسع المادية التاريخية أن تتنبأ بصورة دقيقة لا يكتنفها الخطأ في ما يتعلق بشكل المستجدَّات التاريخية والحوادث السياسية العظمى. فقد يأتي التغيير من أعلى قمة السلطة وأجهزتها التي تسهر على أمن العلاقات الرأسمالية السائدة، وتحمي توزيع رأس المال بين شرائح من المستفيدين. وقد يأتي من الخارج تحت تأثير الوضع الإقليمي والدولي. بيد أن التنبؤ بأشكال التغيير إذ هي موضع للفرضيات، فإن مضمون السياق التاريخي لسورية يسير بخطى ثابتة نحو السيطرة الكاملة للبورجوازية المندمجة في السوق الرأسمالية العالمية والعولمة النيوليبرالية والإمبريالية.
ولمستقبل سورية البورجوازي، من الجهة العاشرة، صلة وثيقة بالوضع العالمي للأزمة الرأسمالية. ذلك أن الرأسمالية العالمية لم تَخرج من أزمتها الاقتصادية، وهي عاجزة عن الخروج منها، وإن كانت تؤجِّل انفجار الأوضاع السياسية والمجتمعية بصورة مؤقتة وذلك بفضل تعبئة الاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية الاقتصادية التابعة للرأسمالية العالمية، كصندوق النقد الدولي، من أجل إنقاذ الرأسمالية في اليونان. وما تزال المضاعفات المجتمعية للأزمة الاقتصادية تختمر بين طيات المجتمع الأوروبي والدول الصناعية، وحيث تسود البنوك والبورصات العالمية الكبرى، طالما تتأخر المضاعفات المجتمعية للأزمة الاقتصادية وراء هذه الأخيرة، ولا تظهر إلا بعد مرور سنوات. إن الرأسمالية العالمية تستنفد رويدا رويدا طاقتها المالية الكامنة لإنقاذ نفسها في اليونان في الوقت الحالي، ولن تلبث الأزمة في كل من أسبانيا والبرتغال أن تمتص من هذه الطاقات مزيدا من الحيل والإمكانيات. وإذا كانت فرنسا بدورها مهدَّدة بهذه الأزمة، فإن المعطيات تشير إلى أن أمام الرأسمالية العالمية مخرج واحد، وهو اكتساح العالم وتحطيم الحدود الوطنية، إن بالحرب، أو بدمج البورجوازيات الطرفية في النظام السياسي والاقتصادي للرأسمالية العالمية، لاستغلاله في إطار شكل جديد من الاستعمار والتبعية السياسية والاقتصادية. وكما أن مستقبل السوري بورجوازي، فإنه أطلسي أيضا شأنه شأن تركيا.
وكانت إيديولوجية “صدام الحضارات” و”نهاية التاريخ”، وتهافت الإيديولوجية، و”الإستراتيجية الأمريكية الجديدة” (الحرب الوقائية التي كان المحافظون الجدد أرسوا لها)، و”حق التدخل الإنساني” لصاحبه برنارد كوشنير، رافقت ظهور العولمة النيوليبرالية والإمبريالية الجديدة. وجاءت إيديولوجية “صدام الحضارات” لتبرِّر الحرب في العراق وأفغانستان إيذانا بتوسيع الحرب إلى البلدان المجاورة، القريبة منها والبعيدة، باسم “محاربة الإرهاب”. وتشهد البلدان الرأسمالية، وبوجه خاص الأوربية منها، حملة إيديولوجية معادية للإسلام والمسلمين والعرب تحت راية حظر الحجابـ، ثم النقاب، فالمآذن. وتجد هذه الإيديولوجية رواجا في أوساط الأوروبيين بصورة عامة، حتى أنها طالت اليسار بما في ذلك الشيوعي منه (نائبان شيوعيان في الجمعية الوطنية الفرنسية هما اللذان أطلقا الحملة ضد النقاب). ولم يعد الرأي العام في هذه البلدان يميِّز ما بين المسلم والعربي. حتى أن وصف نصف سكان الكرة الأرضية بالإرهابيين أصبح مستساغا واعتياديا. وهذا هو الرئيس ساركوزي الذي يتبنى إيديولوجية اليمين المتطرف وخطابه الفاشي، يساوي ما بين الجانحين والعرب والغجر والمهاجرين ومن عاصرهم من الضعفاء والمظلومين وشعوب مضطهدة ومستغلَّة، ويهدِّد هؤلاء بإسقاط الجنسية الفرنسية عن كل من حاز منهم عليها في حال يتسبب أي من هؤلاء بمقتل رجل أمن، وذلك في ما توسِّع فرنسا من تدخلها العسكري في موريتانيا وبلدان الساحل باسم “محاربة الإرهاب”، وذلك في ما وضَعت المجموعة الفرنسية لاستغلال اليورانيوم “أُوريفا” يدها على مصادره في البلدان الإفريقية المجاورة لبلدان الساحل. لذا، فإن اليمين الأوروبي الذي يستعير في الفترة الأخيرة خطاب الفاشيين، يبرِّر منذ الآن احتلاله لأية دولة في العالم تحت شعار “محاربة الإرهاب”، والهمجية، تحت شعار الغرب الحضاري والشرق الهمجي.
إن البورجوازية في سورية، على أرضية من “حرب الحضارات”، آيلة إلى مناهضة إيران وحزب الله وحماس، ولا ترى حرجا منذ الآن بالمناداة بتسوية القضية الفلسطينية بأية طريقة كانت، ولن تلبث في المرحلة المقبلة من اتهام الشيوعيين السوريين وحلفائهم والمقاومة ب”الإرهاب”. فهل من مناص، في ما المستقبل بتوعد الشيوعيين وحلفاءهم والمقاومة بمثل هذه التهمة، من توحيد الشيوعيين استجابة لمسار الضرورة التاريخية واستعدادا للمستقبل!!
وعلى امتداد أو تعرُّج المسار الذي يقطعه الحزب لترجيح موازين القوى لصالح أصحاب قوة العمل في معركته لدحر البورجوازية طبقيا وسياسيا وإيديولوجيا، تَنشأ من الناحية الحادية عشرة، الجبهة اليسارية الواسعة. وحري بالشيوعيين، والوحدويين، والقوميين العرب، والأمميين، أن يبنوا هذه الجبهة من أجل إنجاز التحولات الوطنية والديمقراطية في الظروف الحالية، ظروف العولمة التي تجتاح العالم، وتَجرف معها كل البورجوازيات “الوطنية” – بالرغم من أن تناقضاتها الثانوية تبقى ما بين الأخذ والرد – بكل انتماءاتها القومية، إلى خندق ليبرالي هجومي موحَّد لا يميِّز ما بين العربي والأوروبي والآسيوي، ويَجمَع ما بين الصهيونية والإمبريالية والبورجوازية “العربية” في جبهة موحَّدة، لإبادة القوميين والأمميين والتحرريين والعلمانيين.. حري بالشيوعيين وقوى اليسار القومي والديمقراطي أن يبنوا تحالفهم من أجل إنجاز الثورة الوطنية الديمقراطية تحت راية الجبهة اليسارية، ومن أجل برنامج يساري تحرري وقومي وشعبي، على أُسس من الديمقراطية السياسية والمجتمعية. ديمقراطية واسعة لا تكتفي بعد الأصوات في صناديق الاقتراع، وتدعو إلى التحرر الوطني والتحرير، والنمو، والتصنيع، وتَدحض في الوقت نفسه ديمقراطية السوق. وفي هذا السياق، فإن التعويل على ما يُطلق عليه تسمية “الجناح اليساري” في الواجهة التنظيمية الجماهيرية لسلطة البورجوازية الحاكمة، أي ما يُطلق عليه تسمية حزب البعث، ليس من موضوعات الساحة وحري بالمشجعين له تأجيله إلى ما بعد التغيُّرات إياها، وليس ما قبلها على حد زعم أوراق تجمع اليسار الماركسي (تيم).
وعلى هذا النحو، فإن التعويل على “تيار يساري في السلطة”، أو “بورجوازية ديمقراطية معارضة” من أجل توفير مناخ سياسي جديد تتوفَّر فيه الظروف التي تتيح أمام اليسار الشيوعي والاشتراكي أن يَقتلع من الحكومات “البورجوازية الديمقراطية والوطنية” التي ستتعاقب على سورية حسب مقولة الحالمين، مواقع على جبهة الصراع من أجل بناء الاشتراكية، حسب ما ورد في هذه الأوراق، يفتقد إلى الواقعية. ذلك أن الثورة الوطنية الديمقراطية يتوقف إنجازها على دور الشيوعيين واليسار الثوري، العربي منه والأممي، في الجبهة اليسارية الواسعة، بعدما يكون الشيوعيون وحلفاؤهم تخلَّصوا من مؤثِّرات الاشتراكية الديمقراطية والأممية الثانية والكومنفورم التي تسلَّلت إلى إيديولوجيتهم وبرامجهم السياسية.
وعلى امتداد أو تقطُّع المسار الذي يقطعه الحزب الموحَّد ومعه الجبهة اليسارية، ما بين ولادته وإنجاز الانتصار على الإيديولوجية البورجوازية ومنشآتها ومؤسساتها، تَبلُغ قوى اليسار الثوري إلى نقطة التحوُّل أو إلى عتبة الانتقال عندما تَحُلُّ ليلة العيد التي تسبق الثورة الاشتراكية بساعات قليلة. ومثل هذا المسار طويل الأمد، ويشق طريقه عبر حالات كثر من الصراع والخلاف على امتداد الزمان أو التاريخ وتقلُّباته التي تخضع لظروف موضوعيه ليست كلها ظاهرة على سطح الوعي، خلافات وصراع ليس فقط ما بين اليسار واليمين، وإنما ضمن اليسار الثوري نفسه. لاسيما وأن تاريخ الاشتراكية والثورات في الشرق والغرب هو نفسه تاريخ للخلافات وحالات من الصراع الكامنة والظاهرة حول المسار الذي يقود إلى ليلة العيد، والذي يلي يوم الثورة على طريق بناء الدولة الاشتراكية.
* * *
هذه هي مسارات بناء الحزب الموحَّد. مسارات الصيرورة وصراعاتها وتطوراتها وتحوُّلاتها، أو ما يَصطَلِح المثاليون على تسميته ب/”المادية الدياليكتيكية”، وما هو في الواقع الملموس سوى “المادية التاريخية”. هذا الحيَّز الواقعي السياسي – وليس المنطقي، المنهجي، الفلسفي – الذي يتفجَّر بصورة متجدِّدة على امتداد الزمان الواحد ومساراته الزمنية المتعددة عن حالات من الصراع الطبقي وتطور لنمط الإنتاج وانقلابات في موازين القوى ونشوء للأحزاب والثورات والدول، إلخ. فإذا كانت معطيات الواقع تسير في هذا المنحى من المسارات التاريخية والزمنية، وهي من جوهر واحد وأشكال متعددة، وتأخذ أشكالا مختلفة وذات خصوصية حسب الأزمنة وما تحمله معها من مراحل انتقالية وثورات، وحسب نظام من الصراع والتطور والتحوُّل، وإن كان متجدِّدا من حيث الشكل ومقولاته الدالة والمرجعية، فإنه نظام شمولي من حيث الجوهر العالمي المجبول بلبنة مجتمعية واقتصادية وإيديولوجية من الإنتاج والصراع وما يَنْتُج عن مكوِّنات هذه اللبنة من أشكال جديدة للصراع والإنتاج والأفكار. فإذا كانت معطيات الواقع أو التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية تشير إلى أن الثورة الوطنية الديمقراطية مؤجَّلة باستمرار ما لم يبنِ الشيوعيون وحدتهم، ويؤسِّس اليسار القومي والديمقراطي جبهته الموحَّدة، ليبدءوا معا مسيرتهم على هذه الحالات من السياق التاريخي ذي الخصوصية الوطنية، وكانت البورجوازية تتوعد شعبا قوامه قوى العمل، ومتعطِّش إلى الديمقراطية الواسعة تعطُّشه إلى المشاركة الفعالة في البناء السياسي، بشتى التهم وأنواع جديدة من القمع والعنف، فإن رفع شعاري “الانتقال السلمي التدريجي”، و”العمل السياسي العلني”، يسيران في الاتجاه المعاكس للثورة الوطنية الديمقراطية على المدى القريب، وللانتقال الاشتراكي على المستوى البعيد، ويفتقد إلى الواقعية، طالما أن حالات من القمع والعنف متعدِّد الأشكال، بما في ذلك الإيديولوجية، ومنها القانوني والدستوري، هو الذي ينتظر، اليوم وغدا، الحزب الشيوعي الموحَّد والجبهة القومية اليسارية، في ظروف العولمة، والإمبريالية الجديدة. الأمر الذي يملي على الشيوعيين أن يتخلوا عن هذين الشعارين، ليسيروا على خطى من الصراع الطبقي والجبهة اليسارية الواسعة، في حرب قوامها مواجهة الإمبريالية الجديدة أو العولمة النيوليبرالية، والتنمية في خدمة الشعب وقوى العمل وأصحاب الأجر المحدود، وتحرير الجولان وفلسطين، والعمل السري، من موقع الصراع الطبقي ذي المسار السياسي، من أجل إنجاز الثورة الوطنية الديمقراطية، وضد سلطة آيلة إلى التحول من بورجوازية بيروقراطية إلى بورجوازية ديمقراطية ليست أفضل، بقياس المهام الطبقية والقومية والاقتصادية والاجتماعية، . من سابقتها ولاحقتها.
ثورة ديمقراطية وطنية أم ثورة بورجوازية ديمقراطية؟ ديمقراطية صناديق الاقتراع وقوامها الترقيم لعدد الأصوات في الانتخابات حسب مقولة الأكثرية والأقلية، أم ديمقراطية واسعة ومجتمعية تراعي التقسيم الطبقي؟! (؟) ثورة ديمقراطية وطنية قوامها التحرير، والوحدة القومية بما في ذلك الاعتراف بقومية الآخر، وإعادة توزيع الثروة على أسس من التخطيط الاقتصادي والمجتمعي الذي يلبي حاجات أصحاب الأجر المحدود وتطلعاتهم المعيشية والقومية والتحررية، وإعادة النظر في نمط الإنتاج الرأسمالي بما يتلاءم والتنمية والتحرير والاحتياجات المعيشية لقوى العمل، وديمقراطية واسعة تكفل المشاركة الأفضل للقوى العاملة وحلفائها، من حيث هم الأكثرية وفق التقسيم الطبقي، في رسم سياسة الدولة، وترفع الحظر المفروض على تشخيص الواقع – والشيوعيون في ما بينهم هم دوما وفي جميع مراحل التطور السياسي أو التاريخي أكثر احتياجا من البورجوازية إلى الديمقراطية الواسعة – ديمقراطية واسعة لا تترك القرار السياسي بين أيدي مجلس تشريعي واحد ومُكوَّن من بضعة مئات من المُنْتَخَبين الذين يُكرِّسون لنمط الإنتاج الرأسمالي بالرغم من أن خلافاتهم واضحة حيال توزيع الثروة وتقاسم الحكم في ما بينهم. ديمقراطية المجالس التي تترك لقوى العمل وحلفائها من الطبقة الوسطى والمثقفين سلطات تتيح لأكثرية الشعب الطبقية أن تشارك في التخطيط ومراقبة الدولة وسلطاتها التشريعية والتنفيذية والتشريعية، أم الديمقراطية البورجوازية الموهومة، لاسيما في سورية وخصوصيتها؟؟
الثورة الوطنية الديمقراطية، أم ثورة بورجوازية ديمقراطية، تَنْتَزِع فيها أكثرية مفترَضة من أصوات الناخبين حقوق الأكثرية العاملة من أصحاب الأجر المحدود؟ بورجوازية ديمقراطية ما هي سوى ديمقراطية السوق، وقوامها العرض والطلب في حيِّز المال والبضائع والعقارات، وما يرافق السوق من تنافس وسباق بين البورجوازيين لانتزاع السلطة التنفيذية من أجل توظيف الدولة والمجتمع لمضاعفة ثروة هذا المنافس على حساب ذاك؟ ديمقراطية بورجوازية من النمط السوري لن تكون أفضل حالا من نظيراتها في لبنان ومصر والأردن والمغرب، بل وأن الديمقراطية البورجوازية حسب ما يأتي المديح عنها في مطوَّلات علم السياسة، ليست في الواقع سوى تكريس لتوزيع الثروة الرأسمالي عن طريق السيطرة على السلطة السياسية ومؤسَّساتها الإيديولوجية، حتى أن هذه الديمقراطيات في البلدان الرأسمالية العظمى، هي أنماط من الديمقراطية تُكَرِّس في فرنسا- ساركوزي، وألمانيا- ميركل، وأسبانيا- زاباتيرو، وإيطاليا برلسكوني، واليونان “الاشتراكية” على غرار نظيرتها في أسبانيا، رأس المال ومصالحه؟ (!) ديمقراطية بورجوازية ووطنية (!) من النمط السوري (!) في عهد من العولمة النيوليبرالية التي ألغت الحدود السياسية ما بين الأوطان لاستباحة قوى العمل على اختلاف ألوانها وثقافاتها القومية لاستغلال هذه الأخيرة في العالم كله وبلا حدود قومية؟!!
ديمقراطية السوق من النمط السوري (!) في عهد إمبريالية جديدة أعلنت الحرب ضد الشعوب بما في ذلك شعوبها باسم محاربة الإرهاب؟! ديمقراطية منير العجلاني وفارس الخوري وخالد بك العظم ومأمون الكزبري وناظم القدسي وأكرم الحوراني؟ تلكم الديمقراطية التي حوَّلت “البرلمان” إلى ساحة للسباق والتنافس ما بين شركات التأمين ووكالات السيارات والصراع الدولي على سورية ما بين فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، ولاتحاد السوفييتي، والتي لم تضع دبُّوسا واحدا من الصناعة السورية في محطة إنتاج النفط التشيكية بحمص عندما كان “الأستاذ الحوراني” زعيما للبرلمان في حكومات يشغَل حقائبها الوزارية “دكاترة” الحقوق في الجامعة؟ وهم وإن كانوا محامون بارزون وأساتذة في كلية الحقوق مجتهدين، إلا أنهم كانوا في البرلمان يمثِّلون القضايا المالية والجزائية للشركات الكبرى في سورية والعالم، ويُدافعون قضائيا عن نزاعاتها وقضاياها أمام القضاء السوري؟ ديمقراطية البابْلاين التي كانت تقيم وزارة وتُقعد أخرى بفضل “النواب في البرلمان”،؟ ديمقراطية شركات النفط الفرنسية التي كانت تتنافس مع البابلاين عبر النواب ورؤساء الوزارات من أمثال البكري والعمري والغَزِّي والأتاسي من أجل ترجيح المصالح الفرنسية على البريطانيةّ!
أليست تلكم الديمقراطية المزعومة التي كان العسكر يتلاعبون بها ويقطَّعون جسدها انقلابا وراء الأخر من مطلع الخمسينات وحتى غاية جريمة الانفصال، هي نفسها التي تعود إلينا من جديد بعدما بَلَغَت البورجوازية البيروقراطية أعلى مستوى لها من التراكم الرأسمالي، وبات من المستحيل الاستمرار على النمط نفسه في ظل نظام “دستوري” عتيق وإيديولوجية العصابات المتقاتلة في ما بينها على تراكم رأس المال! لقد أصبحت هذه البورجوازية التي عادت ورسَّخت أقدامها السياسية عبر الحركة التصحيحية وخطاب العرش أو ما يسمَّى بخطاب القسم، وبعدما اكتمل العهد البيروقراطي للبورجوازية التي كانت وما تزال عاجزة عن الإمساك بدفة السياسة والحكم إلى ما لانهاية، شأنها في ذلك شأن بورجوازية الاستقلال وما بين الحربين العالميتين، هاهي تتطلع الآن، ومنذ انتشار العولمة، وبعدما أصبح كوكبنا ساحة للحروب الإمبريالية لا تتوقف أمام أي رادع، قانوني دولي، أم قوة إمبريالية منافسة لها، إلى دستور جديد، ونظام إيديولوجي جديد لممارسة القمع بصورة لعينة وبما يتماشى مع “الحداثة”.
هكذا وُلِد إعلان دمشق بانتظار مهمة تأتي في مرحلة قريبة لاحقة، أو قديمة مؤجَّلة. أليست البورجوازية “المتطورة” في سورية، هي نفسها التي تُعلِن عن شكل جديد لها، وتبشِّر بظهورها السياسي القريب عبر وجوه ومنظَّمات مستحدثة، من أمثال رياض سيف ومأمون الحمصي وعبد الحليم خدَّام وكمال اللبواني وقناة بردى وإعلان دمشق، وهؤلاء وأولئك من رفاقنا وأصدقائنا، ممن قضوا عقدا وأكثر من حياتهم في سجون البورجوازية البيروقراطية الحاكمة دفاعا عن الشيوعية والديمقراطية والاشتراكية والمقاومة الفلسطينية، ثم خرجوا منها بأجسادهم وقد فقدوا عقولهم من هول المفاجأة أمام ما يحدث وليس تحت تأثير السجن والتعذيب. المفاجأة المروعة وهم يرون لدى عودتهم إلى الحياة ما بعد عقد وأكثر من السجن والتعذيب أن العالم الذي ضحوا من أجله بحياتهم لم يعد هو نفسه الذي ضحوا واستماتوا من أجله. عالم طوى بلدان الاشتراكية الواقعية، وحطَّم جدار برلين، في ما خلت سورية من الثوريين. فتاه بعض منهم مع اليمين الجديد يستجدون الحرية على أبواب بلدان تنتهك العالم بلا رادع وحساب. أمام أبواب السفارات والمؤسسات الأمريكية، بانتظار انقلاب عسكري يَعْهَد إليهم بقيادة البلاد. أليست هذه البورجوازية التي تدَّعي أنها تُمثل “المجتمع المدني”، وهي تمثِّله أفضل تمثيل طالما أن إيديولوجية المجتمع المدني تستعيض بالفرد عن الطبقة، والحقوق العامة عن الصراع الطبقي، والملكية الفردية محل الملكية الجماعية، هي التي تَراها السائدة، وقد شَقَّت طريقها اليوم في أجواء المثقفين وأنديتهم السياسية وجمعياتهم الإنسانية والحقوقية المتناثرة هنا وهناك.
لقد حظي وما يزال هؤلاء وأولئك بالتشجيع من الرأسمالية الغربية والعربية التي كانت تعد العدة لانقلاب عسكري بقيادة فلان وعلتان من قادة الأجهزة والأسلحة من أجل تسجيل الانتقال الطبيعي للبورجوازية من العهد البيروقراطي إلى العهد الديمقراطي، الانتقال من سرقة القطاع العام وعماله إلى نهب ثروات العالم. ففي مثل هذه المرحلة التي تنتقل عبرها البورجوازية من مرحلة سابقة بيروقراطية، إلى مرحلة لاحقة “ديمقراطية”، بعدما كانت البيروقراطية فَرَّغت قوى العمل وشرائح واسعة من الطبقة الوسطى من قواها السياسية، يسودُ في هذا الفراغ السياسي الشاسع حكمٌ يتِّسع حيَّزه العريض إلى الأوهام والمافيات والعصابات وحالات متنوعة من الضلال والتخبًّط حيال القضايا السياسية الكبرى، حتى أن الأفندي أردوقان، الحليف الأطلسي للإمبريالية، والذي يستجدي على باب المنظمة الرأسمالية الأوروبية (الاتحاد الأوروبي) عضوية انضمام تركيا إلى العولمة في حيِّزها الأوروبي، يبدو، منذ الآن، كأحد البشائر التي تنبئ بما هو قادم. الأفندي أردوقان “منقذ “القومية العربية وحركاتها التحررية، في ما يغيب عن الأنظار في مثل هكذا عهد من الخلط والبلبلة الفكرية، أن تركيا الأطلسية بقيادة الأخوان المسلمين المُحدَثين، والتي تُعتبر اليوم مفتاحا للمنطقة، وبالاعتماد على الأفندية في الآستانة، والاتفاق مع نيكولا ساركوزي وباراك أوباما والمدافعين عن الإسلام وحماته، أن تركيا هذه هي أفضل أداة لعزل إيران عن سورية ولبنان، وللإعلاء من الشأن السعودي والمصري، ناهيكم وأن العودة بشرائح واسعة من المجتمع العربي إلى مسألة النزاع حول الخلافة الأموية أصبحت مهيأة للانفجار بفضل الأموال التي توزَّع من خزائن أمراء الحجاز، وتغذِّيها.
الثورة الديمقراطية الوطنية، أم السير، في وقت واحد وفي جميع الاتجاهات، كما يفعل تجمع اليسار الماركسي، وراء البورجوازية الوطنية الموهومة، واليسار المعارض ضمن السلطة، والإصلاح الذي لن يجد منفذا له إلا عبر انقلاب يسجِّل لانتقال البورجوازية من البيروقراطية إلى “الديمقراطية” المافيوية؟! الجواب، وليس ثمة جواب حتمي على السؤال في ما يتعلق بالمستقبل: إن “تيم” يُرسِّخ للبورجوازية الديمقراطية الموهومة بانتظار أن تسقط التفاحة من تلقاء نفسها في ظل نظام رأسمالي متقدَّم ديمقراطيا وسياسيا !! ما يؤكِّد أن الستالينية، والمادية الميكانيكية، والأخرى التطورية الداروينية، والماركسية الفلسفية بانحرافاتها المنطقية والمنهجية، والماركسية اللينينية من حيث هي الفلسفة التي شيَّدت الدولة البلشفية ما بعد وفاة لينين والتي بناها ستالين من أجل تشييد دولته وتبريرها، مستعينا تحت تأثير التيار الدياليكتيكي المادي والمثالي في روسيا ما قبل وما بعد ثورة أكتوبر بما يسميه هو نفسه المادية الدياليكتيكية، هي التي ما تزال تسيِّر الشيوعيين في سورية، والتي استمرت دونما تغيير جوهري ما بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي وحتى غاية انقلاب هذه الدولة المشوَّهة منذ وفاة لينين على نفسها مع بروز غورباتشيف.
ثمة دياليكتيك أحادي وشامل هو التاريخ المادي الجدلي. وهو ملموس وحي عبر الصراع الطبقي ونمط الإنتاج الاقتصادي. وإذا كان يستعصي على أي منطق جدلي أن يطابق بالصورة والجوهر المادية التاريخية، فلأن للتاريخ المادي منطق، لا هو بنظام ومنطق العلوم الرياضية والتجريبية والوضعية، ولا هو أيضا بدياليكتيكية العلوم الجامدة. إن منطق المادية التاريخية سياسي وعلمي بمعنى أنه معرفي، ليس بالمعنى الإبستمولوجي والأكاديمي، وإنما من حيث أن المعرفة موضوع للتاريخ وذاتيته في وقت واحد، وهذه المعرفة هي نفسها الطبقة العاملة وحزبها الشيوعي. فالشيوعيون المتنازعون في ما بينهم حول القضايا النظرية لم يكفوا عبر تاريخهم عن البحث عن لأشكاله المتجدِّدة للمادية التاريخية. وغالبا ما تخفى عن النظر، فلا تظهر إلا بعد ما تهب النار وينهار البناء القديم، وذلك في ما الشيوعيين في خلاف من أمرهم حيال المسار السياسي والتاريخي للضرورة والصيرورة والتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية، ونظام تكوَّنها في واقع بعينه وزمان محدَّد، هنا وهنا من كوكبنا. وبتعبير آخر، فان السياسة المادية تشير إلى أن تيم يقف أمام منعطف حاسم. فإذا ما هو تمخَّض عن توحيد الشيوعيين، أو أن نجاحه في ما هو يصبو إليه من توحيد متين للشيوعيين، وإن اقتصر في نهاية المطاف على تشييد حلقة أولى قوية تجمع ما بينهم، فإن الأسباب التي توفِّر أمامه أسباب الاستمرار، من حيث هو منتدى سياسي – ليس غير – للشيوعيين السوريين، سوف تكفل له أن يمارس باستمرار دور النادي السياسي الذي يسعى إلى بلورة الحداثة الشيوعية، إن من حيث التنظيم الحزبي، أو من حيث البرنامج السياسي. أما إذا ما فشل “تيم” في إنجاز أول خطوة على هذا المسار، ألا وهي تشكيل الحلقة الأولى والنواة التي تنطلق منها عملية التوحيد، فإنه لن يكون أيضا سوى ما كان عليه منذ نشوئه وحتى اليوم: ناد للمثقفين الماركسيين من أبناء الطبقات الوسطى والبروليتاريا الرثة، يتناقشون حول الفلسفة المادية دون أن يبلغوا في حوارهم إلى المادية التاريخية والشيوعية. فتيم اكتفى حتى الآن بالنشاط الثقافي، وهو أقرب ما يكون إلى النادي السياسي منه إلى التجمع السياسي. إلى أن ظهرت عنه مبادرات تدعو إلى التوحيد ما بين أحزابه. وهو الأمر الذي يدلل بأنه قادر على ممارسة دور سياسي إلى جانب دوره الثقافي. لكن الأوراق التي صدرت باسم الزمر الحزبية المنضوية تحت اسمه تشير إلى أن أصحابها ليسوا مؤهلين حتى اليوم لانجاز مثل هذا التوحيد ما بين الشيوعيين ،وإن كانوا يتوقون إليه بصدق. إلا أن نجاح “تيم” في المستقبل بإنجاز أقل درجة من التوحيد من شأنه بالمقابل أن يعزِّز من دورها كحيز ثقافي وسياسي، ومنتدى للماديين يعمل على التوحيد ما بين الشيوعيين.
من المرجَّح، وهذا الترجيح يفتقر إلى المصداقية ما لم ينفه الواقع، وهو لا يتنبأ إلا بما هو ظاهر، وقد يتسلل إليه الشك والخطأ ما دام التاريخ وأحداث الحاضر أوسع من الوعي.. من المرجَّح في ضوء الخلافات ما بين زمره حيال توصيف الوضع الراهن كما مستقبل سورية، أن توحيد الشيوعيين مسار يأتي من خارج تيم وليس من داخله. وحري بالزمر الشيوعية المنضوية تحت اسمه، حري بتيم أن يستمر بالمناداة إلى وحدة الشيوعيين، وأن يكتفي، في حال ما إذا كان مسعاه ينتهي إلى الفشل، بممارسة دوره كنادٍ ثقافي للماديين. بل وأن الحري بتيم، علاوة على ذلك، أن يبقى على قيد الحياة كنادٍ ثقافي وسياسي يعيش على هامش الحزب الشيوعي الموحَّد، كي يكون رئة يَسْتَنْشِق منها الماديون حريةً حيَّة وحركة متجددة بصورة مستديمة لبلورة التجليات الجديدة للصراع الطبقي ونمط الإنتاج. وإن مثل هذه المحصِّلة من الأوراق التي تدعو إلى توحيد الشيوعيين، والتي يعود الفضل فيها إلى تيم، ليست بالآمر الهين والضئيل. ما يضع تيم في قلب الحركة الشيوعية واليسارية، وينيط بشيوعييها الاستمرار ضمن تجمعهم في مساعيهم الرامية إلى توحيد الشيوعيين، من جهة، والسعي إلى التأسيس للجبهة اليسارية والقومية، من جهة ثانية. وسواء نجح تيم في مسعاه أم أخفق ، فإن الحري بحيِّزه أن يبقى حيزا سياسيا وثقافيا على هامش الحزب الشيوعي، وذا منافذ مشرَّعة نحو مستقبل الشيوعية، ومن أجل ترجيح موازين القوى لصالح الاشتراكيين الثوريين.
ترجيح موازين القوى مهمة مركزية يتحمَّل اليوم تيم واليسار القومي والاشتراكي ثقل العمل وما يترتب عليه من تضحيات. فإذا كانت موازين القوى راجحة اليوم لصالح البورجوازية، وكان مستقبل سورية في ضوء هذا الاختلال بورجوازيا على الأرجح، فإن الزمر الشيوعية المنضوية تحت اسم تيم، شأنها شأن الشيوعيين المتحالفين مع البورجوازية الحاكمة، وإن كانوا مجتمعين عاجزون في الظروف الراهنة عن الحيلولة دون انتقال سورية من سلطة البورجوازية البيروقراطية إلى عهد البورجوازية “الديمقراطية” المندمجة بالعولمة النيوليبرالية أو الإمبريالية الجديدة، فإن تشييد الحزب الشيوعي الموحَّد والجبهة اليسارية القومية هو الذي يوفر أمامهم الظروف الذاتية لمعاصرة المرحلة المقبلة.
ويبدأ هذا المسار المركزي لترجيح كفة اليسار على مسار الثورة الوطنية الديمقراطية من نقطة البداية. ألا وهي أن يعترف تيم أن ميثاقه التأسيسي الذي يتخلَّى عن الحيازة على السلطة من أجل تنفيذ برنامجه السياسي الوطني الديمقراطي،لاغٍ، وغير صالح، ويجعل منه مجرد نادِ مجتمعي يسدي النصائح والمواعظ. وأن يتراجع أيضا تيم عن السير وراء البورجوازية أيا كانت المرحلة الانتقالية التي تجتازها هذه الأخيرة، بيروقراطية أم “ديمقراطية”، تحدوه في ذلك حتى هذه الساعة أوهامه التي تعول الآمل على الصراع ما بين اليمين واليسار في حزب البعث الذي كان دُفِن حيا ما قبل خطاب العرش في العام ألفين.
ترجيح موازين القوى مهمة مركزية في هذه المرحلة طالما تجتاز سورية وضعا ثوريا. فالبورجوازية البيروقراطية تجتاز حالة النزع التي تسبق الموت، وسلطة الأجهزة مفكَّكة ومتصدِّعة من جراء الانتقال البورجوازي من البيروقراطية إلى الديمقراطية، وذلك في ما يشتد السباق ما بين عصبياتها للفوز بأكبر الفوائد من الفساد ما قبل الإعلان عما قريب عن دستور جديد خلفا لدستور الحركة التصحيحية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن السلطة تستمد قوتها من العنف والقمع فلم يعد لشعار “الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة”، والثالوث المقدس: وحدة، حرية، اشتراكية، لم يعد ذلك كله مؤسَّسة إيديولوجية تمارس القمع والعنف، بعدما استغنت البورجوازية البيروقراطية عن إيديولوجية حزب البعث، ونشرت الفساد بمختلف أنواعه وفي جميع المجالات. ويبدو الوضع الثوري أكثر وضوحا إذا ما سُلِّطت الأضواء على جدار من العزلة القاتمة يَعزِل ما بين الشعب الذي يعاني الأمرَّين والسلطة التي تروِّج للفساد الذي أصبح بدوره نظاما. هذا في ما انشطرت الطبقات الوسطى إلى شطر مندمج بالبورجوازية، وشطر آخر يعيش على هامش الطبقة العاملة. ولم يبق من شرائح الطبقة الوسطى التي كانت تمارس حتى غاية الستينات من القرن الماضي دورا تحرريا إلى قلة نادرة منها، وهي مبعثرة هنا وهناك ما بين اليمين واليسار.
لكن الحلقة السوداء في الوضع الثوري هو اختلال موازين القوى لصالح البورجوازية “الديمقراطية” التي تُوْلَد في المرحلة الحالية عن بورجوازية السلطة التي تستمد بدورها قوتها من احتكارها للسياسة خلال العقود الماضية، وبفضل حظر السياسة عن اليسار الذي كان يزن بثقله في موازين القوى حتى نهاية السبعينات التي كانت شهدت قمع المقاومة الفلسطينية في الأردن ولبنان ومكافحة الشيوعيين واليسار القومي المعارضين لسلطة البورجوازية البيروقراطية. ولما كان من المتعذر على الشيوعيين والقوميين اليساريين أن يزنوا في ما حضر بثقلهم في موازين القوى لترجيح الكفة لصالح الثورة الوطنية الديمقراطية، وكانت الأوضاع تمهد الطريق أمام البورجوازية لاستلام السلطة، فإن الشيوعيين وحلفاءهم القوميين باتوا غير مؤهلين للاستفادة من هذا الوضع الثوري. وهو الأمر الذي يتيح أمام البيروقراطية إنجاز الانقلاب العسكري لتشييد سلطة تُعرف عما قريب بتسمية هي: الإصلاح الموعود منذ خطاب القسم، أو خطاب العرش، وإرساء ديمقراطيتها الموعودة.
لم يبق إذن أمام تيم والشيوعيين والجبهة اليسارية القومية والتحررية سوى أمرين اثنين: إما التصفيق لما يأتي باعتبار أن الرأسمالية تحمل معها بذور الثورة الاشتراكية، وإما الاستعداد منذ اليوم للتصدي للسلطة “الديمقراطية” القادمة، والتي تمارس عليهم أنواعا من العنف والإرهاب والقمع لم يَعرفوا لها مثيلا في الماضي، والتي ستحل بهم تحت أنظار الرأسمالية في الغرب وفي الولايات المتحدة، وفي ظل ما يلقاه “التصحيح الديمقراطي” من تأييد رسمي من جهة العولمة والإمبريالية باعتبار أن ما يجري في سورية في عهدها “الديمقراطي” الجديد هو مكافحة للإرهابيين الموالين لمنظمات إرهابية من أمثال حزب الله وحماس والمقاومة العراقية والفلسطينية. وعلى هذا المقياس المادي السياسي من موازين القوى، وهو يَكشف عن أحوال الصراع الطبقي وتوزيع الثروات في العالم والدولة ونمط الإنتاج والأحزاب والنقابات، إلخ، أي التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية، يتوقف مستقبل تيم والشيوعيين والجبهة القومية اليسارية. فإما أن يتحدوا في حزب واحد وجبهة واحدة كي يزنوا بثقلهم بمجريات الأحداث، وإما أن يبَقوا على تناثرهم وتشتتهم تُوجِّهم العصبية نحو المزيد من الفرقة والانقسام إلى أن تتحول زمرهم إلى شتات وفتات.
إذن، لو كانت الضرورة التاريخية التي تملي التوحيد هي الضرورة بمنطق المادية الدياليكتيكية من حيث هي النظام المنطقي والعقلاني الذي يحرك التاريخ أو يحرك المادية التاريخية، وما هذه الأخيرة حسب القائلين بثنائية المادية الديالكيتكية والمادية التاريخية سوى صورة مادية تاريخية للمادية الدياليكتيكية، لكانت تيم والشيوعيون اتحدوا في ما بينهم باسم المادية الدياليكتيكية وما تمليه من ضرورة يمليها الواقع بأمر من المنطق الجدلي، وذلك على مسار من الثورة الوطنية الديمقراطية أو الثورة البورجوازية الديمقراطية. وفي مثل هذه الحالة الثنائية فإن التوحيد يأتي بفعل البطش والعنف الذي ينشأ عن منطق وفلسفة هذه الثنئاية ويبرِّرها. إلا أن الضرورة ليست منطقا أعمى، ولا هي منطقا مُبْصِرا، وليست صورة مادية لمقولة دياليكيتية منطقية ونظام من العقلانية. إن الضرورة التي جاء تبيانها في ورقة فاتح جاموس (المشار إليها أدناه)، وفي الورقة الماثلة بين أيدي القارئ، هي الضرورة الزمنية، وليست الضرورة المنطقية الجدلية. ذلك أن الزمان الذي يقع تحت أضواء هاتين الورقتين جدل هو غير الجدل المنطقي.
إذا كانت التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية تملي التوحيد كما ورد أعلاه، فإن انتقالها إلى حيِّز التاريخ أو الواقع المادي يجتاز الزمان الممتد ما بين التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية، من جهة، ووعي الشيوعيين لها، من جهة ثانية. وهو نفسه الزمان الممتد ما بين الانتقال من الوعي العفوي للصراع الطبقي ونمط الإنتاج والإمبريالية والثورة، إلخ، من جهة، والوعي المعرفي أو ما يُسمَّى بالعلمي، من جهة ثانية. وهذا الأخير أوسع من منطق العلوم طالما يتكوَّن من علم الحياة، والمجتمع، والإنسان الاجتماعي. وعلى هذا المسار الزماني الممتد ما بين هذه التكوينيين، الضرورة والحزب، ينشأ الجدل المادي والتاريخي للتشكيلة الاقتصادية والاجتماعية التي تتكون في الوقت نفسه من تكوينات من عجينة ولبنه واحدة، وهي الصراع الطبقي ونمط الإنتاج والثورة والدولة والحزب وموازين القوى والإمبريالية، إلخ. ولكل من هذه التكوينات مساره، زمنه وصيرورته، ويجري كل منها حسب أزمنة متباينة السرعة. والتقارب أو التباعد ما بين الضرورة التي تمليها مكونات التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية،من جهة، والوعي الشيوعي الحزبي، من جهة ثانية، هو نفسه معجون بلبنةٍ من حالات الصيرورة على مسار كل من هذه التكوينات. وعلى هذا المسار الزماني لحالات الصيرورة، وهذه الأخيرة هي نفسها صيرورة التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية، تنشأ أيضا صيرورة التقارب أو التباعد ما بين الضرورة وتوحيد الحزب الشيوعي.
غير أن هذه التشكيلة تتسع أيضا وايضا إلى المكونات العشائرية والقبلية والعصبية بمختلف أشكالها، البدوية والحضرية، الشامية والحلبية أو المدنية والريفية، أهل الساحل وأهل الداخل، الأرثوذوكسية والكاثوليكية، الطرف والمركز، وهكذا دواليك وهلم جرا، وذلك ما بقيت الحركة الاجتماعية، ومنها النقابية والسياسية واهنة أو عاجزة عن صهر العصبيات في قومية واحدة، وطبقات متصارعة.
يأتي إذن هذا الانتقال من العفوية الثورية للجماهير، إلى المعرفة الحزبية المنظَّمة، عبر الصيرورة الزمنية لمكونات هذه التشكيلة. شأنه شأن المسافة التي تضيق أو تتسع ما بين الضرورة والحزب وفق هذه التشكيلة وصيرورتها. ما يؤكِّد أن مبادرة أوراق تيم ما تزال تقف على عتبة العفوية، ولن نتقل إلى المعرفة الحزبية المنظَّمة ما لم تنجح رفق حلفائها وشركائها بالإرساء لبرنامج سياسي قوامه الثورة الوطنية الديمقراطية. هذه الثورة هي جسر يمتد ما بين الشيوعيين ووحدتهم، ويغور عبر مسافات عميقة في المجتمع السوري. وهي أيضا الممر الوحيد الذي يتيح للشيوعيين اليوم أن ينتقلوا من العفوية إلى المعرفة الحزبية. فالثورة الوطنية الديمقراطية هي التي تذوِّب التكوينات الطرفية للمجتمع في سورية في حركة طبقية وقومية تحررية. وهي أيضا التي تضيِّق المسافة ما بين الضرورة والحزب.
لهذا وذاك من الأسباب، فإن استغناء تيم وسواه من اليسار القومي والشيوعي عن رفع برنامج الثورة الوطنية الديمقراطية، كان وما يزال عاجزا عن توحيد الشيوعيين وتوحيد اليسار القومي التحرري في جبهة واحدة. إنه ما يزال بعيدا عن الضرورة بعد العفوية عن المعرفة الحزبية. فإذا كانت هذه المسافة صيرورة زمنية مجبولة بلبنة التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية، فإن اقصر طريق زمني للتوحيد بين هذين التكوينين، الضرورة والحزب، هو السير على الطريق الذي يختصرها زمنيا. هذا الطريق المختصر هو البرنامج السياسي للثورة الوطنية الديمقراطية. هذا الطريق هو الكفيل بإنجاز الانتقال من الضرورة إلى الحزب الموحَّد، والمؤهَّل لإلغاء المسافة التي تفصل ما بين الضرورة أو التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية، من جهة، والحزب الموحَّد، من جهة ثانية. وهي علاوة على ذلك التي تباعد ما بين الشيوعيين وحلفائهم من جهة، وضرورة توحيدهم في حزب شيوعي واحد وجبهة يسارية قومية تحررية وواحدة، من جهة ثانية. إن الثورة الوطنية الديمقراطية هي التي تجعل من الحزب الشيوعي وحلفائه الثوريين ضرورة وصيرورة تاريخية.
تشرين الأول/ أكتوبر 2010
* نشر فاتح جاموس في العام 2008 دراسة حول توحيد الأحزاب الشيوعية في سورية تحت عنوان: وحدة “الشيوعيين السوريين”، وحدة عمل ” اليسار السوري”، فانتازيا أم ضرورة. وكنت أرى في حينه أن من المفيد تسليط الأضواء على هذا العمل للتوكيد على بنيته التي تكشف أحياناً، بأسلوب التحليل النقدي لمسألة التوحيد، عن الظروف الموضوعية والتاريخية التي تشكِّل في ما بينها مسارات نحو توحيد هذه الأحزاب، وتبيِّن، من جهة أخرى، أن المسارات الموضوعية للتوحيد مسارات زمنية، وليست مسارا واحدا. إلا أن التوحيد كما توضِّح الدراسة المشار إليها لفاتح جاموس، إذ هو ذو صلة بمسألة الأزمنة التي تقطعها هذه المسارات على طريق الحزب الشيوعي العربي والأممي في سورية، فإن مساراتها مسافات يقطعها تاريخ هذه المسألة في حالات من الانتقال والتوحيد والانقسام والصراع والتحوُّل والتغيير. شأنه شأن الجدل المادي للتاريخ. إنه جدل حي، وليس جدل المنطق أوالمنهج الذي يَنْصُب فخا للشيوعيين السوريين، ويرتفع عقبة أمام توحيدهم. هذا الجدل الحي، حسب ما يتبيَّن من هذا العمل لفاتح جاموس، هو نفسه الزمان، ليس بالمعنى القياسي للتوقيت والساعة والأيام والأِشهر والسنون، إلخ، وإنما من حيث أن الزمان صراع وانتقال وتغيير وتطور وتحوِّل، وأن الجدل هو الجدل الزمني الحي للمادة التاريخية.
والورقة الماثلة الآن بين أيدي القارئ، إذ هي تحيل إلى هذا العمل لفاتح جاموس، فإنها تلبي الوعد الذي كان كاتبها قطعه على نفسه وتعهد فيه بالتعليق عليه لإبراز ما يحمله بصورة ضمنية أحيانا، وصريحة أحيانا أخرى، من تحليل نقدي لمسألة توحيد الشيوعيين من حيث هو الجدل الحي للزمان والممارسة السياسية، طالما أن التاريخ ليس زمانا ومسارا واحدا، وإنما هو أزمنة ومسارات متعددة تجمع ما بين الشمولية والخصوصية التاريخية، وما دام العمل والممارسة مجبولين بلبنة واحدة هي التاريخ. فبناء الحزب الموحَّد مسار زماني أو تاريخي، وتطور نظام الحكم في سورية مسار آخر، وللصراع ضد الإمبريالية والصهيونية ومن أجل التحرر الوطني والسياسي والاجتماعي مساره الزمني. وهذه المسارات ليست منفصلة في ما بينها، أو متفاعلة ومتكاملة، ومرسومة بصورة قبلية ومسبقة، وإنما يُولد أحدها الآخر من لبنة واحدة ومسار واحد وهو التاريخ، وذلك حسب أنماط من الجدل المادي الحي، الواقعي والملموس. وبمعنى آخر، فإن قوى العمل في سورية، لن تكون مؤهّلة لمواجهة النظام الحاكم في المستقبل، والذي يسير نحو سيطرة البورجوازية والعولمة النيوليبرالية والإمبريالية الجديدة، وهذا مسار تاريخي، ما لم يتوحّد الشيوعيون اليوم. وفاتح جاموس متنبِّه إلى أن التوحيد إذ هو مسالة الزمان، فإن الظروف المتطورة عبر الزمان، وما الزمان نفسه سوى هذا التطور، هي مسار زمني من نتاج الظروف الحالية التي تفرض على الشيوعيين أن يتوحدوا، طالما أن هذه الظروف تُنبئ منذ الآن أن مستقبل سورية بورجوازي ومندمج بالعولمة والإمبريالية الجديدة، ليس على النمط التركي شبه الأوروبي منذ عهد آتا تورك، وإنما حسب الخصوصية التاريخية لسورية، خصوصية الدولة القمعية، ورواسب الاستبداد الشرقي ونمط الإنتاج الآسيوي، وهشاشة التشكيلات السياسية والحركات الاجتماعية، وتبعية البورجوازية الطرفية للرأسمالية العالمية.
خاص – صفحات سورية –