صفحات الحوار

الكاتب البرازيلي الذي تُرجم إلى 50 لغة, وبلغت مبيعاته 27 مليون نسخة باولو كويلو: الثقافة العربية منحتني رؤية أخرى إلى العالم

null
أجرى الحوار نجوى بركات
حين كنت متّجهة للقائه في فندق البريستول خلال زيارته الخاطفة لباريس، خطر لي أن الصورة التي علقت في ذهني عن الكاتب البرازيلي الشهير باولو كويلو لا ترتبط كثيراً بما قرأت له من أعمال، بقدر ما هي متصلة بفصل من سيرته الذاتية أوردته الصحف ووسائل الإعلام نقلاً عن لسانه، بمناسبة صدور عمله الروائي الذي حمل عنوان “فيرونيكا تقرر أن تموت” (1998) والذي تدور أحداثه في مصح للمجانين.
يروي باولو كويلو أن أهله أدخلوه مصحّاً للأمراض العقلية لثلاث مرات متتالية, حين كان في السابعة عشرة من عمره. وأنهم إنما فعلوا ذلك بعدما توقّف عن الدراسة وبدأ يميل إلى العزلة, رافضاً ممارسة أي نشاط ما عدا المطالعة. الطريف في الأمر أن كويلو علّق على تلك الواقعة بقوله: “أبداً لم أنظر إلى نفسي كضحية. وضعني أهلي في المصح بدافع حبهم لي. لم يتمكّنوا من فهم اختلافي، فنعتوني بالجنون. جنوني هذا كان مطيّتي إلى الحرية”.
طبعاً لا يحتاج باولو كويلو, الذي نشرت أعماله في ما يزيد على 150 بلداً وترجمت إلى 51 لغة وبيع منها ما يزيد على 37 مليون نسخة، إلى مقالة إضافية تكتبها صحافية تدّعي أنها روائية تعمل في صحيفة تنتمي إلى الجزء المهمَل من العالم. غير أن الحماسة والحرارة اللتين أبداهما إثر اتصالي به، جعلتاني على شيء من الحيرة: أيجيء اندفاعه المحبّب من ذاك الجنون الجميل الذي يرى في كل اختلاف غنى, وفي كل جدار نافذة تطل على البعيد، أم أنه سلوك كاتب تحوّل بفعل الشهرة الهائلة إلى مؤسسة تتقن أصول الترويج؟
في بهو الفندق كان جالساً في انتظاري. تعارفنا بسرعة وببساطة. سألته إن كان يملك متّسعاً من الوقت, فأجاب: ما شئت. ضغطت زرّ المسجلة الصغيرة وباشرت سؤالي الأول. قاطعني, ثم تناول المسجلّة وقال: سأقوم بتجربة لأتأكّد من أنها تسجّل. ابتسمت وتركته يفعل. حسناً، نباشر الحديث؟
تدور أحداث بعض من رواياتك في الأندلس، مصر، فينيقيا. من أين يجيئك هذا الانجذاب إلى حضاراتنا القديمة، أنت الأميركي الجنوبي؟
ـ بسبب سحر الحكاية. أثناء طفولتي، كنت مولعاً بقصص ألف ليلة وليلة. لم أكن أفهمها كلّية, ولكني كنت مسحوراً بما تتضمّنه من رؤية إلى الواقع وإلى الحياة. أيضاً كان هناك أستاذ برازيلي أطلق على نفسه اسماً عربياً: مالبا طحان، كان ينشر كتباً تعبّر عن ولعه بالثقافة العربية. قراءتي هذه الكتب، شكّلت لحظة مهمّة جداً في حياتي كمراهق، لأنها جعلتني أكتشف أن الخيار مفتوح أمامي لاكتساب معارف أخرى موجودة خارج ثقافتي البرازيلية. هكذا وقعت في حب الثقافة العربية. بالنسبة لي، “الخيميائي” كتاب عن الإسلام. أنا لا أدّعي بأني أعرف الإسلام بعمق، لكني أعرف أن الثقافة العربية جلبت الكثير إلى العالم في ميادين الفن والعلم والفلسفة والطب.
ما الذي منحتك إياه أنت شخصياً ككاتب ينتمي إلى ثقافة أخرى؟
ـ منحتني نظرة أخرى إلى الحياة، مزيداً من الانفتاح. ربما لأنها ثقافة قريبة من الصحراء، فهي تساعد على تبسيط الأمور من دون الوقوع في فخّ التسطيح. منذ أن بدأت احتكاكي بالثقافة العربية، بدأ الإلهام يأتيني بسهولة. الثقافة العربية تقيم اعتباراً كبيراً للأمور الخفية، لما هو غامض وسرّي. أنا ككاتب أحتاج إلى مثل هذه الرؤية المخالفة، إلى مثل هذا الفضاء.
هل يكتسب الغامض أو السريّ معنى صوفياً بالنسبة إليك؟
ـ أكثر من ذلك، إنه يحمل نظرة أخرى يصعب ترجمتها في كلمة وحيدة. لكنه شيء يشبه الثقافة اليابانية والثقافة اللاتينية ـ الأميركية مثلاً. بعيداً من الحواجز الثقافية، أنا أؤمن بوجود لغة رمزية تتيح لثقافات مختلفة أن تخلق جسوراً تجعلها تتواصل فيما بينها. في كل مرة ألتقي الثقافة العربية، سواء كان ذلك عبر كتاب، شخص, أو حدث، يزداد ولعي بها.
ألا تعتقد أن الولع هذا ناتج عن ميلك إلى شكل سردي معيّن يوفّره التراث الثقافي العربي ويتناسب مع أسلوبك الروائي الذي هو أقرب إلى الحكاية، منه إلى الرواية بمعناها الحديث، أعني أنك لا تنتمي ربما إلى تقليد يرى في الرواية بناءً هندسياً عقلانياً، بقدر ما تندرج ضمن تقليد يرى فيها فضاء مفتوحاً يتيح لمخيلة القارئ حرية المساهمة في تشكيله؟
ـ أجل، هذا هو بالضبط ما يشدّني, وما لم أتمكّن من تحديده. تترك الحكاية مساحات فارغة يتمكّن القارئ من ملئها في خياله. الأسلوب السردي العربي لا يملأ أماكن الفراغ هذه، لأن الحكاية العربية تثق بمخيلة قارئها. إنها تتوجه إلى الطفل الذي في داخله لتقول أشياء ملموسة طبعاً، ولكن من خلال استخدام أداة مهمّة جداً هي المخيلة. على العكس من ذلك، تحتل “أنا” الكاتب فضاء الرواية الغربية من دون أن تقيم اعتباراً للآخر. إنها التعبير عن صراعات برجوازية صغيرة أجدها, شخصياً, مضجرة جداً.
بعدما ترجمت معظم أعمالك إلى العربية, هل تعتقد أنها ستلتقي الآن قارئها الحقيقي؟
ـ هذا نوع من التحدّي المطروح عليَّ كروائي, والذي لا أدرك نتائجه بعد. يؤلّف الكاتب أعماله من دون أن يعرف سلفاً ما سيكون رد فعل القارئ. أنا أكيد من أمر وحيد هو عدد القراء في العالم العربي, حيث بلغت مبيعات كتبي, بحسب إحصاء أخير، ما يتجاوز الأربعمئة ألف نسخة. وهذا ما يسعدني جداً ويؤثّر فيّ, لأنه يشعرني بالتواصل مع ثقافة أدين لها بعمق, بعدما أعطتني الكثير, وهو برهان على أن كاتباً أميركياً جنوبيا, مثلي, قادر على ابتكار لغة روائية أخرى تقيم جسراً بين ثقافتين مختلفين.
بالمناسبة، يهمّني أن أشير هنا إلى أنها المرة الأولى التي تظهر فيها ترجمات رسمية لأعمالي، رسمية بمعنى أن دار النشر (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ـ بيروت) اتّصلت بي لنيل موافقتي ككاتب. أنا أذكر ذلك لمعرفتي بوجود ترجمات قرصنة في بلدان عدّة من العالم العربي. الإيجابي في الأمر، هو وجود طرف رسمي يمكنني الحوار معه. لذا أمكنني مثلاً أن أطلب من الناشر أن ينظّم جولة أزور خلالها مصر، لبنان، سورية وربما الإمارات، بين 6 و16 شباط (فبراير) من العام المقبل. الزيارة هذه مهمّة جداًَ بالنسبة إليّ: أولاً, لأنها ستتيح لي التعرّف إلى القرّاء العرب؛ وثانياً, كي تقول للكتّاب الغربيين الذي ينظرون إلى البلدان العربية بشيء من التعالي، أنتم مخطئون.
ماذا عن الثقافة اللاتينية ـ الأميركية أهي غائبة تماماً عن أعمالك الروائية؟
ـ الثقافة البرازيلية مختلفة عن الثقافة اللاتينية ـ الأميركية، لأنها مكوّنة من مزيج تلتقي فيه أوروبا وآسيا وأفريقيا. لا أدري إذا كنت تعرفين مثلاً بأن عدد اللبنانيين في البرازيل يفوق عددهم في لبنان نفسه، وأنهم شعب ساهم في شكل فاعل, في هذا المزيج الثقافي الذي أكسبني ميزة أساسية هي حسّ التسامح والانفتاح على الآخرين. البرازيل, بالنسبة إليّ, رمز يكسر الحواجز القائمة بين الناس، وخاصة تلك التي تشكل فاصلاً بين عالم واقعي ملموس وواقع غير ملموس متشكّل من الانفعالات. وهذا ما أسعى إلى تحقيقه في رواياتي.
أنت منفتح على الثقافة العربية والإسلامية كما ذكرت؛ لكنّك, في الآن نفسه, متأثّر إلى حد بعيد بالثقافة المسيحية…؟
ـ أجل، أنا كاثوليكي. غير أن هذا لا يمنعني من احترام الأديان الأخرى…
عفواً, لكنّ سؤالي يتعلّق بالمكانة التي يحتّلها “المقدّس” في كتاباتك وحياتك, وبالمعنى الذي يحمله بالنسبة إليك؟
ـ المقدّس موجود في حياتي كلّها بمعنى السعي الدائم إلى النظر إلى اليومي كما لو كان أعجوبة. المقدّس هو كل الأمور الغامضة التي تحدث لي, كاللقاءات والمغامرات, وهو أيضاً الجانب الطفولي الذي بقي حياً في داخلي, والذي أجده قريباً جدّاً من معجزة الخلق. رحلة الحج, التي قمت بها إلى مزار القديس جاك دو كومبوستيل, شكّلت لحظة مهمّة جداً في حياتي، لأنها جعلتني أكتشف وجود الله في كل الأشياء البسيطة اليومية التي تتألف منها الحياة. هذه الأشياء البسيطة هي معجزات بحد ذاتها, أسعى إلى عيشها, مع الإبقاء على الجانب الغامض فيها, ومن دون البحث عن تفسيرٍ لها. باستطاعة كل يوم أن يغيّر حياتنا بشكل كلّي، أن يقلبها رأساً على عقب، لأنه يحوي كل ماضينا وكل مستقبلنا.
تناول كتابك الأول زيارة الحج التي قمت بها إلى مزار القديس جاك دو كومبوستيل. فهل يمكنك التحدّث عن هذه الرحلة وما حملته من معانٍ روحية باختصار؟
ـ ككل أبناء جيلي, كنت هيبيّاً في شبابي، لكني كنت في بحث دائم عن الحقيقة, وعن معنى آخر للحياة. أنا ولدت في عائلة كاثوليكية؛ لكنّي, في مرحلة ما, اعتنقت البوذية. فيما بعد, جرّبت الكثير من المذاهب الأخرى, لأني لم أكن أجد الجواب عن الأسئلة الوجودية التي كانت تؤرّقني. في الوقت نفسه, كنت أحلم بأن أصبح كاتباً, لكنّي كنت أؤجّل موعد تحقيق حلمي ذاك, لإيماني الراسخ باستحالة تحقيقه. أنا إنما أحكي عن ذلك لأن الأمرين متّصلان فيما بينهما. إذاً كنت في وضع عاطفي ومعيشي جيد في تلك الأيام, لكنّي كنت تعيساً في شكل كبير. ذات يوم، قرّرت ترك كل شيء, بيتي وعملي وبلادي. وقمت مع زوجتي برحلة حول العالم. لدى عودتي, أسّست داراً صغيرة للنشر. لكن القلق استمرّ في داخلي، إلى أن قرّرت القيام برحلة الحجّ إلى مزار القديس جاك دو كومبوستيل، وهي رحلة تاريخية تنطلق من جنوب فرنسا وصولاً إلى إسبانيا. لا أدري من أين جاءتني هذه الفكرة، لكنها كانت أشبه بحاجة لم أتمكّن من مقاومتها, حاجة ملامسة البساطة التي تقوم في قلب الحياة. مشيت 46 يوماً, استرجعت خلالها إيماني الأصلي ككاثوليكي, وعدت إلى جذوري. في نهاية الرحلة, قلت: يجب أن أتّخذ قراري. عمري اليوم 39 عاماً. حلمي هو أن أصبح كاتباً. ربما فاتني الوقت لتغيير حياتي, ولكن عليّ أن أحاول، هكذا كتبت عملي الأول وكان عن رحلة الحجّ تلك.
“الخيميائي” هو كتابك الثاني, فهل تحدّثنا كيف جاءتك فكرة الرواية؟ وهل كنت تتوقّع لها كل هذا النجاح؟
ـ أنا أعشق الصحراء التي تعرّفت إليها للمرة الأولى خلال سفري إلى المغرب. غير أن زيارة مصر أثّرت فيّ كثيراً. ذهبت ذات ليلة لرؤية الأهرامات برفقة صديق مصري. كان المشهد ساحراً. هناك, طلبت منه أن يتلو شيئاً من الصلاة, فأنشد آية رائعة تقول ما معناه: يا ربّ إذا حدت عن الدرب المستقيمة، فأعدني إليها. كانت زيارة الأهرامات تجربة روحية شبيهة برحلة الحجّ التي قمت بها سابقاً. وحاولت نقل الشعور الذي انتابني هناك, في نهاية رواية “الخيميائي”. في البداية, لم تبع الرواية أكثر من 900 نسخة, فأعاد إليّ الناشر حقوق التأليف, لأنه اعتبرها عملاً فاشلاً. يومذاك تذكّرت تلك الصلاة: يا ربّ إذا حدت عن الدرب المستقيم, فأعدني إليه. وتذكّرت ما كتبته في “الخيميائي”: إذا أردنا شيئاً ما, فسيتآمر كل الكون ليساعدنا على نيله. طرقت أبواب الناشرين, إلى أن وقعت على ناشر برازيلي كبير قبل إعادة طبع الرواية. إصراري على نشر الرواية مجدّداً هو عودتي إلى الدرب المستقيم, هو طريقي التي وجدت والتي سمحت لي بتحقيق حلمي، أي أن أصبح كاتباً. واليوم, “الخيميائي” هو الكتاب الأكثر مبيعاً في الأدب البرازيلي خلال القرن العشرين.
لو لم تعرف الرواية كل هذه الشهرة, ما كان حصل؟
ـ كلمة لو غير موجودة في قاموسي الشخصي. الأمر كله مرتبط باتّخاذ القرار…
ولكن لا علاقة لاتّخاذ القرار بالنتائج. أعني لو لم يعرف كتابك كل هذه الشهرة، هل كنت توقّفت عن الكتابة, معتبراً أنك لم تجد طريقك؟
ـ بالنسبة إليّ, الإنسان هو ما يتّخذه من قرارات. إذا أدّى القرار إلى نجاحه, فمعناه أنه أصاب.
لكن هناك قرارات صائبة نتّخذها, ولا تؤدّي بالضرورة إلى النجاح، إذ ندفع ثمنها غالياً؟
ـ كل القرارات صائبة. وكل إنسان قادر على اتّخاذ قرار هو إنسان منتصر. هذا ما أؤمن به.
تُظهر موضوعات رواياتك, التي يسيطر عليها إيمان واضح وعميق، أنك تحمل نظرة متفائلة إلى الطبيعة البشرية بشكل عام. هناك كتّاب آخرون مؤمنون مثلك يختلفون عنك, ويرون أن الشرّ ملازم للطبيعة البشرية.
ـ مثلاً؟
دوستويفسكي حين يقول: “من دون وجود الله, لا حدّ لهول الطبيعة البشرية”. على العكس، يبدو الإنسان في رواياتك خيّراً في طبيعته، كأنما الشر ليس أكثر من عنصر خارج عنه أو طارئ عليه، كأنه ليس في صلب تكوينه، وكأن الشكّ, الذي يصيبه, مغامرة محدودة في الزمان والمكان. يكفي أن يجد الوصفة, أن يتّخذ القرار, حتى يحلّ عقدته ويستوي له الكون.
ـ أنا كائن بشري مع كل ما أحمله من شكوك وأسئلة ولحظات يأس وسعادة. كوني وجدت طريقي، لا يعني أني لا أعاني أحياناً من الإحباط. لكني أعرف أن المشكلات التي أواجهها تعطي معنى لحياتي. في النهاية, أنا أؤمن بأن الإنسان من خلق الله. وبما أن الله خيّر فالإنسان خيّر وطيّب. ليست الأمور على هذا الوضوح بالنسبة لشخصياتي الروائية. وهذا ما يضعها في حال صراع مع ذواتها, الصراع بين الجانب المنير وبين الجانب المظلم في دواخلها. الصراع هذا إيجابي وجيد, لأنه يدفعنا إلى الأمام ويجبرنا على اتّخاذ قرارات هي أشبه بخطوات تقرّبنا من الله. لماذا تجري الأمور على هذه الشاكلة, لا أدري. هذه مسألة تنتمي إلى مملكة الخفايا المحيطة بنا. الله وحده يعرف سبب وجودنا في وادي الصراع والدموع هذا. إنه يخفيه عنّا كي يعطينا ربما فرصة البحث عنه واللقاء به. شخصياتي الروائية كلّها تعاني من المشكلات التي نعاني منها نحن. أنا لا أرى أن رواياتي مانوية بمعنى أنها تقول هذا خير وهذا شر. بل على العكس، إذ تنتهي كلّها من تحدّ جديد.
في معظم رواياتك, كما في “الخيميائي”, أو “فيرونيكا تقرر أن تموت”, أو “الجبل الخامس”, أو “على نهر بييدرا هناك جلست وبكيت”, تحيا شخصياتك لحظة حاسمة هي لحظة الانتقال من سن المراهقة إلى سن النضج. حتى الشخصيات الأخرى تحيا هذا الانتقال بالمعنى المجازي للكلمة، أي أنها تنتقل من مرحلة الشك والتساؤل إلى مرحلة الوعي والإدراك. غير أن ما يجمع بينها, على اختلاف تجاربها وأعمارها, هو رغبة التمرّد على واقعها أو على شرطها الإنساني. فهل ترى في التمرّد سبيلاً مثالياً لاكتساب الحكمة؟
ـ التمرّد مهمّ جداً لدى الشباب. أعتقد أن على جميع الناس أن يقوموا بإشعال الحرائق حين يكونون في العشرين من العمر, وأن يتحوّلوا إلى رجال إطفاء حين يبلغون الأربعين. التمرد صحّي لأنه يساعدنا على إيجاد مكاننا الخاص, حتى ولو اكتشفنا فيما بعد أن الكبار كانوا على حق. ما هو التمرّد؟ إنه النظر إلى الأمور من زاوية مختلفة, وهذا مهم جداً. وإلا صدّقنا كل ما يقال لنا وخسرنا فرصة معاينة الأمور بأنفسنا والخوض في تجارب خاصة تجعل منا الكائنات الفريدة التي هي نحن. أنا أتحدث عن التمرد في بعده الفلسفي, بمعناه المجازي.
أيعني هذا أن المراهقة تحتضن لحظة لقاء الإنسان بنفسه، وأنها لحظة نادرة لن تتكرّر فيما بعد؟
ـ لا, ليست المراهقة المقصودة هنا, بل الطفولة. الحكاية تتوجه إلى الطفل الذي فينا مهما كانت أعمارنا. علينا أن نحافظ عليه حيّاً في داخلنا, مهما كلّفنا ذلك، لأنه يبقى الوحيد القادر على الدهشة والحماسة والافتتان.
أهو الطفل الذي في داخلك من دفعك إلى الكتابة؟ ومن الذي يكتب, أنت أم هو؟
ـ هو باولو كويلو, الرجل الذي عاش كثيراً, من يكتب. لكني ما زلت قادراً على التواصل مع الطفل الذي في داخلي, على رغم أني أضعته في مرحلة ما كنت أعتقد خلالها أن عليّ الابتعاد عنه ونسيانه. هذا ليس مرتبطاً بالطفولة, بقدر ما هو متمثّل بالقدرة على النظر إلى الحياة كمعجزة يومية. باولو الطفل ينظر, وباولو الرجل يكتب من خلال الغوص في بحره الدفين ليكتشف نفسه. المدهش هو أني في كل مرة أقوم بهذه العملية وأكتب كتاباً, ألتقي برجل هو أنا, يلتقي به ملايين القراء. تصوّري أني بعت 37 مليون نسخة من رواياتي، هذا إذا ما وضعنا جانباً إصدارات القرصنة. أنا صادق مع ذاتي, لذلك أستطيع ربما مقاسمة هذا الجزء من روحي مع ملايين القراء من مختلف الثقافات.
يجد ملاييبن القراء في كتبك جانباً روحياً يفتقدون إليه في زمننا الحديث، ممّا يضفي على كتابتك هالة من الرؤية. فهل تحوّلت الكتابة لديك إلى دعوة؟
ـ الكتابة هي أن أعيش حياتي وأن أتقاسم روحي مع الآخرين. باستطاعة كل منا, أياً كان مجال عمله, أن يقوم بالشيء نفسه. الشرط الإنساني يطالبنا بأن نشرك الآخرين في نظرتنا إلى الحياة, سواء كان ذلك من خلال تصميم حديقة, بناء الأهرامات أو طهو الحلويات, طالما أنها مصنوعة بحب.
هل تشعر بقرابة ما مع جبران خليل جبران, خصوصاً أنك ترجمت الرسائل التي تبادلها مع ماري هاسكل؟
ـ يحتلّ جبران خليل جبران مكانة مهمة جداً في حياتي. بعدما قرأت كتابه النبي, رحت أتساءل من تراه يكون هذا الإنسان, وكيف اكتسب كل هذه الحكمة. هذا ما دفعني إلى قراءة كل ما يتعلّق بحياته, كي أتعرّف إليه بشكل أفضل. هكذا وقعت على الرسائل التي تبادلها مع ماري هاسكل, والتي بعيداً من كلّ ما امتلكه من حكمة, تظهر برأيي كل مكامن ضعفه كإنسان. أحببت فيه هذا الجانب لأنه علّمني أمراً مهماً: صحيح أنني صاحب مؤلفات, ولكن, لكي أكتب كلاًّ منها, ينبغي لي أن أقبل نقاط ضعفي ومكامن قوتي. أعجبتني تلك الرسائل لدرجة أني قمت بترجمتها؛ وأجبرت دار النشر, التي أتعامل معها, على نشرها في بلدان عدة. أنا سعيد خاصة وأني كنت أعتقد أن كل الناس قرأت كتاب “النبي”. غير أن المدهش في الأمر هو أن عدداً كبيراً من الناس لا يعرفونه.
لم تجبني, هل تشعر بنوع من القرابة الأدبية معه؟
ـ جبران خليل جبران وسانت إكزوبيري, من الكتّاب الذين تجاوزوا المحنة الأكثر صعوبة, ألا وهي محنة مضي الزمن, يجب أن أعيش طويلاً كي أعرف إذا ما كانت كتبي, هي أيضاً, ستتغلّب على مرور الزمن وتلاقي الإقبال نفسه في المستقبل البعيد.
من هم الكتّاب الذين تتشكّل منهم عائلتك الأدبية؟
ـ والدي هو الكاتب الأرجنتيني الكبير بورخيس, ووالدتي هي الكاتب الأميركي هنري ميللر الذي كان مجنوناً تقريباً ويملك عفوية كبيرة في الكتابة. هناك أيضاً جورج أمادو, الكاتب البرازيلي المعروف, ووليام بلايك. كما توجد كتب وقصص كألف ليلة وليلة والكوميديا الإلهية لدانتي.
هل حققت, كما ورد في رواية “الخيميائي”, أسطورتك الشخصية بعد أن أصبحت كاتباً, أم أنها ما زالت تهرب منك؟
ـ الناس لا يطرحون عليّ هذا السؤال, لأنهم يعتقدون أني أصبحت كاتباً شهيراً. لكنهم يجهلون أن على الكاتب أن يكتب دوماً, وأن تحقيق الأسطورة الشخصية هو درب طويلة, لا نهاية لها. أنا أصلّي دائماً وأردّد: يا رب أعدني إلى الدرب المستقيم, إذا ما حدت عن الطريق وإذا جعلتني الشهرة أصاب بالشلل. أعطني البراءة, امنحني الحكمة, كي أستمرّ في تحقيق الأمور التي اخترتها. ما قمت به في حياتي لم يكن دوماً من خياري. لذلك أشعر دائماً بالخوف من احتمال الفشل لاحقاً, لأن الفشل مؤلم جداً.
أعذرني, ولكنْ هناك أمر لا أفهمه البتة يتعلّق بمعنى النجاح بالنسبة إليك. يوجد أدباء ومبدعون كبار جداً لم يُقرأوا في حياتهم, ماتوا بائسين ولم يعرفوا المجد والشهرة, إلا بعد مماتهم. ألا ترى معي بأن الشهرة ليست بالضرورة مقياس النجاح؟
ـ من قال أن الشهرة مقياس النجاح؟ لا, أنا لا أعتقد ذلك. السؤال هو: هل نحن سعداء بما نفعله أم لا؟ إذا كان الرد إيجابياً, فهذا معناه أننا وجدنا أسطورتنا الشخصية, وأن علينا الاستمرار. إذا كان الرد نفياً, يجب أن نتوقّف فوراً, من دون البحث عن أعذار واهية من نوع لا أستطيع ذلك لأن عليّ مسؤوليات تجاه الأهل أو الزوجة أو رب العمل أو الأولاد. هذا ما قمت به أنا, وهذا ما أدعو الآخرين إلى فعله. الفرح هو المقياس الأول والأخير لنجاحنا الشخصي، وهو ما يرافق حياتي ككاتب.
ألا تتخلل عملية الكتابة, بالنسبة إليك, لحظات موجعة؟ أعني أليست أيضاً ملئاً لفراغ, تعويضاً عن نقص، اعتراضات وأسئلة لا تجد دائماً طريقها إلى الجواب؟
ـ عملية الكتابة تشبه عملية الإنجاب. هناك الألم من ناحية, وهناك الفرح أيضاً. ولكن, بغض النظر عن كل شيء, عملية الكتابة مؤلمة لأنها أشبه برجل ينظر إلى نفسه, عندما أكون متوتراً ومتعباً من كثرة التنقّلات والمقابلات, أنظر إلى نفسي وأقول: لم يجبرك أحد على ذلك، أنت الذي اخترت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى