الملاّ منصور والضحك على الذقون
نهلة الشهال
كان يا ما كان، في حاضر العصر والأوان، رجل من كويتا محتال، ضحك على الأميركيين، وأخذ منهم الكثير من الأموال…وهم، أي المخابرات الأميريكية، لا يفرقون بين هذا وذاك «طالما أن أمامهم لحية وعمامة»، على ما تقول الكاتبة مورين داود في نيويورك تايمز، الصحيفة التي كشفت عن الطرفة/الفضيحة.
خلاصة القصة أن رجلاً، صاحب محل متواضع في مدينة كويتا الباكستانية الواقعة على الحدود مع أفغانستان، تنكّر كالملاّ أختر محمد منصور، أحد أقدم وأبرز قادة طالبان، ووزير الطيران المدني في عهد حكمها للبلاد.
وبهذه الصفة المنتحلة، قاد الرجل ما أشير له – بتكتم بات مضحكاً اليوم – على أنه «فريق طالبان» للتفاوض مع حلف الأطلسي والحكومة الأفغانية بغية التوصل إلى تسويات تسمح بترتيب الأمور تمهيداً لانسحاب الأميركيين من البلاد. ثم تبين أنه «ليس هو»! وانه صاحب محل متواضع في مدينة إلخ … وقد أُعطي الرجل الكثير من المال تشجيعاً له على الاستمرار في التفاوض، ونُقل بطائرات هيلكوبتر تابعة للأطلسي، بل أحيطت تلك المفاوضات بالسرية تأميناً لنجاحها، وطُلب من الصحف الأميركية إغفال اسم الملا منصور من تقاريرها عن تلك المفاوضات، «حفاظاً على أمنه»، ما وافقت عليه الصــحف باندفاع وطني يثير الإعجاب.
ويقال أن الملا المزور التقى السيد قرضاي شخصياً (وهذا كثير: تضحك يا رجل على الأمريكان وهم في أفغانستان كالعميان في واد، وإنما تضحك على قرضاي وهو في نهاية المطاف أفغاني. صحيح أنه صنيعة مفبركة ولكن … لذا اصدق شخصياً نفي الرئيس الأفغاني لوقوع اللقاء … وها المراهنات مفتوحة!).
تكلف المخابرات الأميركية في أفغانستان 80 بليون دولار في السنة! فقِسْ على أنها أكثر من تسع سنوات الآن. والطرفة/الفضيحة تطال أول من تطال الجنرال بترايوس، وهو من نُقل إلى قيادة العمليات في أفغانستان بعد نجاحه الباهر في العراق، حيث تمكن من احتواء ما يسميه الأميركيين «التمرد السني» عبر إنشاء «الصحوات»، واستيعاب آلاف العاطلين عن العمل من الشبان فيها، وترسيخ نفوذ زعماء عشائرهم، الفعليين منهم، أو من رُكِّبت له «أرجل من قصب» على ما يقول المثل. واعتبر لذلك عبقرياً (اقصد بترايوس!).
هنـــاك أيضاً، في العراق، صرفت ملايين الدولارات لتركيب بنية، وكأنما الأمر لعبة مكعبات «ليغو» لا يوجد شك في أن الجنرال تلهّى بها كثيراً في طفولته ومطلع شبابه، وكـــان بارعاً. وهــو أنشأ في أفغانستان نظاماً يحتوي فيما يحتوي على بنك معلومات بيومترية اسماه «هايد»، – أي التواري- كمختصر مركَّب من الأحرف الأولى لعبارة : Handheld Interagency Detection Equipment واختيـــار الاسم يثبت مرة أخرى كم أن الأميركييـــن مولعون بما يلفت الأنظار ويجـــذب الخيال، وإلا لما كانت هوليوود إحدى أهم مرتكزات بنيتهم العامة، بما فيها تلك الرسمية المتعلقة بمواكبة الاستراتيجيات السلطويـــة، ولما كانوا هم من اخترع «حياكة الروايات»، التي باتت منذ عقود قليلة ضرورة لازمة ترافق السياسة والسياسيين كظلهم، واستخدمت من قبل المحافظين الجدد بنهم لتبليع الناس أي شـــيء، وحرف انتباههم نحو قصص ينسجها خبراء اختصاصيون. بل بات الأمر علماً يدرَّس في الجامعات. وأما «المتواري» حتى الآن في قصتنا هذه عن مشاركة الملا منصور المزعوم في محادثات استمرت أشهراً مع حلف الناتو وحكومة السيد قرضاي، فأسامة بن لادن، الذي تقول عنه كاتبة النيويورك تايمز تعليقاً على الحادثة: «ربما كنا نتعامل مع بن لادن طوال هذا الوقت»!
وفي الحقيقة، نفت طالبان طوال الوقت وجود تلك المحادثات التي علقت عليها الآمال. ولكن من يكترث لكلام هؤلاء طالما أن الأميركيين يؤكدون العكس. من هو جدير بالتصديق؟!
وبترايــوس اليوم محرج. ويقول، حفاظاً علـــى صيت العبقريـــة الذي ألصق بـــه، أنـــــه شكَّ بالرجل لشدة تهاونه، وتقديمه مطالــــب للتسويـــة لا تشبه من يمثل، ولا تشمل مثلاً مشاركة طالبان في السلطة المقبلة، وإنما فحسب السماح لهم بالعودة إلى البلاد بأمــــان. هذا اليوم، أما ساعتها، وعند سماع هذا الكلام خلال ثلاث جلسات للتفاوض (وليس واحدة، للقول كم أن المحتال ذاك جريء!)، طرب الأميركيون وظنوا أن طالبان وصلـــت إلى الإنهاك، وأن مخططاتهم نجحت، رغم أن الوقائع على الأرض كانت كلها تشير إلى نقيض هذه الاستنتاجات.
وانطلقت بالطبع ماكينة الأوهام في واشنطــــن، وبنيت مخططات. وانطلقت بشكـــل مواز ماكينة التحليلات، ومنها صحفية ومنها أكاديمية جادة، تنظِّر لوجود تيارات في طالبان، وتوفد الباحثين إلى الميدان، فيلتقون بعشرات الناس …الذين يضحكـــون عليهم كما ضحك تاجر كويتا على بترايوس. والتقارير الأميركية تعترف اليوم أن ما يقرب من نصف من يقدمون أنفسهم لهم على أنهم من طالبان هم في الحقيقة مجرد أناس يسعون إلى بعض الكسب المالي!
ولكن بترايوس سيفلت من المحاسبة كما أفلت قبله الجنرال باول الذي لوح بنفسه بكيس الطحين أمام الأمم المتحدة مدعياً أنه عينة من أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها العراق. ثم قال Sorry، وانتهى الأمر، وهو اليوم بين لعبة الغولف وسقاية حديقة منزله، يحاضر متلقياً عشرات ألوف الدولارات لقاء نصف ساعة من كلامه الثمين. وقبله قالت السيدة أولبرايت Sorry أيضاً، وهي التي اعتبرت في مقابلة صحفية موثقة أن موت ملايين الأطفال العراقيين أثناء حصار العراق «ثمناً» لا بد من دفعه لنجاح «الخطة». وهي لم تتوار بعد كل ذلك، إذ حضرت قمة الأطلسي الأخيرة في لشبونة، وكانت هي من كُلِّف بوضع إستراتيجية العقد المقبل التي أعلنت في القمة، والله يستر. ولم تقل بعدُ كوندوليسا رايس Sorry عن دور بلادها في العدوان على لبنان صيف 2006 (إن اكتفينا بهذا)، لأن «الخطة» هنا ما زالت جارية لم تنته.
وتسرِّب أوساط بترايوس، رفعاً لبعض الحرج، وحتى يكون المحتال من مقامه، أن الرجل قد لا يكون مجرد صاحب محل صغير في كويتا، بل ربما هو مبعوث من طالبان لجس النبض والإرباك، وربما كان من المخابرات الباكستانية وأرسل للتجسس على الأميركيين!
ضعنا؟ كيف هي إذاً حال الرئيس أوباما الذي يفترض أنه بصدد بلورة «الخطة الإستراتيجية حول أفغانستان» وإعلانها خلال الأشهر القليلة المقبلة.
ثم وفي نهاية المطاف، فمن هو محتال أكثر، ذلك الرجل من كويتا أم الأميركيين الذين ينسجون القصص، فتنشرها وسائل الإعلام فتصبح حقائق يتقاتل على تحليلها وتأويلها الخبراء والباحثون، ويقيمون حـــولها محاضرات ويصدرون كتباً تعود وسائـــل الإعـــلام إلى الاستناد إليها كمراجع، ويعتدّ بها رجال الإدارة تدليلاً على عمق رؤيتهم … سلام ملا منصور، كائناً من كنت!
الحياة