حرب أوباما في أفغانستان والبحث عن الهدف المقنع
حسن منيمنة
هل من سبيل إلى التوفيق بين تعهد الرئيس الأميركي باراك أوباما المباشرة بسحب القوات الأميركية من أفغانستان ابتداء من شهر تموز (يوليو) من العام المقبل، بعد أن وافق العام الماضي على زيادة عديدها وعتادها، وبين القرار الذي اتخذه أخيراً لقاء حلف شمال الأطلسي في العاصمة البرتغالية والذي يحدد تاريخ انتقال المسؤولية الأولى أمنياً وعسكرياً إلى القوات المحلية في أفغانستان في العام ٢٠١٤؟ واقع الأمر أن الحرب في أفغانستان، والتي جعل منها الرئيس أوباما أولوية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، تفتقد اليوم الوضوح في الرؤية والأهداف والخطط العملية، وتدفع الولايات المتحدة باتجاه ما يخشى البعض أن يكون حرباً دائمة جديدة.
يكاد أن يكون من السهل خلال التقييم السياسي، داخلياً وخارجياً، للخطوات التصعيدية التي أقدمت عليها الولايات المتحدة في حرب أفغانية أقل ما يقال عنها أنها ضبابية. اللجوء إلى إلقاء المسؤولية على اعتبارات عليا وتشابكات إلزامية، كالعودة المكررة إلى الحديث عن المجمّع العسكري الاقتصادي، والذي كان الرئيس دوايت آيزنهاور قد أشار إليه في كلمته الوداعية عام ١٩٦١، أو عن الدور المبالغ لوزراة الدفاع في التأثير على القرار، أو عن استمرار نفوذ التوجه التدخلي للحزب الجمهوري في إرغام الحكومة الأميركية على متابعة نهج الحروب الذي باشر به الرئيس السابق جورج دبليو بوش. غير أنه في هذا التركيز إبراء لا مبرر له للرئيس أوباما من مسؤوليته في التخلف عن تحقيق الإنجـــــاز في ملف أساسي من الملفات التي شكلت جوهر خطابه السياسي الانتخابي، أي الدور العسكري للولايات المتحدة في العالم.
والحرب في أفغانستان، والتي ابتـــدأت نتيجة رفض حكومة «طالبـــان» تسليم قادة تنظيم القاعـــــدة للمحاكمـــة لمسؤوليتهم عـــــن اعتداءات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ٢٠٠١، والتي تضمنت في التصــــور المطروح عنـــــد بدايتها ضــرورة إنهاء حالة أفغانستـــان كمـــلاذ آمن ومركز انطلاق للمجموعات المسلحـــة المعاديـــة للولايات المتحدة وحلفائـــها، قد تحولت في قرابة العقد من النزيف والاستنزاف إلى حرب لا يفـــهم المواطن الأميركـــي، ولا نظيــــره الأفغاني، فحواها وجدواها. فتنظيم القاعدة قد غادر البلاد منذ زمن طويل، ومعسكرات التدريب للمقاتلين الوافدين لم يعد لها وجود، وحــركة طالبان، اليوم كما الأمس، هي ناتج محلــــي لتاريخ مزمن من غياب الأمن والمرجعية السياسية، والنظام السياسي الذي أقامته القوات الأجنبية بمعاضدة المنظمات الدولية في كابول لم يكتسب المشروعية والتأييد من عموم الأفغانيين كي يتمكن من تصوير طالبان والحركات المشابهة لها على أنها ظواهر قابلة للاحتواء والزوال.
بل إن القراءة الموضوعية للمواجهة في أفغانستان تكشف عن أنها استحالت حرباً أهلية بين طرفين محليين، أي حكومة كابول وطالبان، لا يحظى أي منهما بالتأييد المقنع لدى الجمهور الأفغاني، فيما يستفيد الطرف الأول من دعم خارجي عسكري ومــــالي مرتفع، من دون أن يتمكن، على رغم هذا الدعم، مـــن تحــــقيق التفوق على خصمه. أي، وفقـــ التقييـــم المحلي الاستقرائي للوقائـــع، مع انتهاء هذا الدعم، وهو حقيقة لا بد أن تتحقق عاجلاً أم آجـــلاً، فإن الكفــــة والتي لم تترجـــح لمصلحة حكومة كابول إلى اليوم، سترسي حتماً لصالح طالبان. وعليه، فإن التأييد العلني من المواطن لحكومة كابل، والتي هي لتوّها مفعمــة بالفساد، يتضمن إشكالية محرجة. والسبيل الوحيد لمنـــع الإســـراع في تحقيق فوز طالبان، وفـــي التعويل على نجاح ما قد يبـــدّل هــذه المعادلة، هو في استمرار الدعم الدولي لحكومة كابول، بل في رفــــع مستواه، بما يعــزز من احتمالات ترجيح الدفة في الاتجاه المطلوب.
ومن وجهة نظر مبدئية، فإن استقرار الحكم لمصلحة حكومة كابـــول هو مصلحة وطنية أميركية، ليس حصراً لمنع عودة المنظمات المعادية إلى أفغانستان إذ أن المعطيات تشير إلى رغبة حتى لدى طالبان بمنع ذلك، وإن كانت هذه المعطيات تبقى موضع شك لدى جهات عدة في الولايات المتحدة، ولكــن، بالدرجة الأولى، للتأكيد على قدرة الولايات المتحدة على فرض قرارها. فإسقاط نظام طالبان كان هدفاً معلناً للحرب في أفغانستان، وخــــروج الولايـــات المتحدة بعد عقــــد أو أكثر من المعارك المتواصلة فـــي أفغانستان مع عودة لنظام طالبان يشكل هزيمة فعلية ومعنوية للقــوة العظمـــى الوحيـدة في العالم.
ولا شك في أن الرئيس أوباما، والذي تبنّى هذه الحرب انطلاقاً على ما يبدو من قراءة تبدو اليوم خاطئة، سواء من جهة طبيعتها، إذ افترض ضمناً أنها في صلبها مواجهة مع تنظيم القاعدة والجماعات المتآخية معه، أو من جهة احتمال تحقيق الانتصار فيها، إذ رأى أن التأخير في تحقيق هذا الانتصار عائد إلى ضعف المخصصات لهذه الحرب، يتضرر، كما الولايات المتحدة، من نهاية لهذه الحرب تشهد عودة طالبان. غير أن السؤال الذي لا يبدو طاقم الرئيس قادراً على الإجابة عنه هو هل يمكن فعلاً التوصل إلى نتيجة مغايرة لهذا التوقع السيئ؟ وبأي ثمن، وبأي تبرير؟
فعلى رغم الطاقات الأميركية المتوفقة بدرجات مرتفعة، وعلى رغم الخطط المتتابعة والتأكيد على اعتماد نهج يستفيد منه المواطن الأفغاني على مستوى الأمن والخدمات وحفظ النفس والكرامة، فإن الحصيلة الفعلية المتواصلة للجهود الأميركية لا تقترب من تحقيق الوعود، بل إن حوادث مقتل غير المقاتلين تتوالى، والأمن يثابر على غيابه، والخدمات مستنزفة بالفساد، فيما الأخبار تتوالى عن إساءات مستهجنة يقدم عليها جنود أميركيون لم يعودوا على وضوح في شأن مهمتهم في هذه البلاد الغريبة البعيدة.
فالرئيس أوباما اليوم أمام مفترق فعلي، فإما أن يسعى إلى تعمية مسؤولياته في هذه الحرب التي لم يتمكن إلى اليوم من تبديل مسارها، من خلال التقويمات المجتزأة ومن خلال التستر بقرارات حلف شمال الأطلسي وغيره، أو يعمد إلى اتخاذ القرارات الصعبة المطلوبة التي من شأنها إنهاء التورط الأميركي بحرب تكاد أن تتحول إلى حالة دائمة عبثية وعقيمة.
الحياة