«الحرب» على المسيحيين في العراق: من عساه يعيد الحضارة؟
فالح عبدالجبار
تبدو بغداد، كعراق مصغر، مسربلة بالأسمال، في الجسد، كما في الروح، غارقة، بإصرار، في لوثة من الهمجية الجديدة التي تنخر الحياة المدنية.
اينما نجيل النظر نرى خرائب سوداء، في المجتمع، في الدولة، في العلائق بين الاثنين، سراً وعلانية، في اصغر الاشياء، او اكبرها.
الاقذار المكدسة تُرمى بين البيوت وفوقها بانتظام رمي الجثث في العراء. ثمة استباحة شاملة مبثوثة في مسامات المجتمع بأسره، في انتهاك العقل، والضمير، وانتهاك الجسد، والأشياء. لا فرق في ذلك بـــين حاكم ومحكوم. تحول العراق الى ما سمّاه الشاعر فوزي كريم «قارة الاوبئة». آخر اعراض الوباء انتهاك كنيسة سيدة النجاة» في الكرادة، والــفتك بعشرات المتعبدين، واذا كنا بحاجة الى هيئة تعنى بالمــدينة كفــضاء اجتماعي مشترك لتجلو عن جسدها الاقذار المهددة، فثمة حاجة موازية، إن لم تكن اكبر، الى هيــئة تعنى بالمدينة كفضاء لقيم الحضارة وقـــواعدها، احتــرام حـق الحـــياة، وما يقترن به من لواحق: حق الملكية، حق العبادة، حق الضمير.
انتهاك كنيسة سيدة النجاة، استثار شعوراً بالخجل، بل بالعار من هذه البربرية، لدى ثلة من المثقفين الشجعان. شباب «بيت الشعر» مثلا، اعلنوا عن العزم على التضامن مع الكنيسة المدماة، فيما عمد مثقفون آخرون الى اعلان الانحياز الى دين الضحية. هناك ايضاً بيانات احتجاج من مقامات دينية، ومبادرات مدنية لتشكيل فرق حماية للمسيحيين، اعترافاً ببشاعة ما حصل. لا اتذكر من قال ان الاحساس بالعار شعور عميق بالعدالة، شبه الضائعة والمضيعة. حين أُبيد الكورد بغاز الخردل، ساد شعور بالخجل من كون المرء عربياً. وحين يباد مسيحيون، يسود شعور بالخجل من كون المرء مسلماً. وحين تعم الإبادة يطغى الشعور بالخجل من كون المرء انساناً. نحن محاصرون بالعار.
ما حصل في كنيسة سيدة النجاة لم يكن فعلاً منفرداً، عابراً، ولن يكون. فالأصولي الممتلئ بأحقاده، والمتضامن معها، يتجول من حقل ابادة الى آخر: من نسف دكان حلاق، الى حرق محال الزينة، الى اطلاق النار على الأنثى السافرة، الى تفجير سوق، ومهاجمة جامع او حسينية، الى استهداف مواكب دينية، الى اغتيال قساوسة، وأخيراً، استقر على تحويل المجتمع المسيحي، أفراداً وجماعات، أحياء سكنية ومؤسسات، الى حقل رماية مفتوح. ثمة مسؤولية جسيمة تقع على كاهل الجميع في وقف الوباء.
من باب تكرار البديهيات القول ان ارض العراق، او بالاحرى بلاد ما بين النهرين، كانت، ذات غالبية مسيحية قبل الفتح الاسلامي وأنها موئل اقدم الكنائس، وأقدم المذاهب المسيحية. ترى، ما عسانا كنا نقول لو ان العراق، في لحظـــة تخيل لا اكثر، كان في غالبيته مسلماً قبــــل «فتح مسيحي». اليوم لم يعد مسيحيو العراق، ولربما المشرق بعامة، سوى اقلية ضئيلة: ثلاثة في المئة.
في العهد العثماني، الذي نطلق عليه في الادبيات التاريخية «عصر انحــطاط»، كان نظـــام الملل يكفل لأصحاب الديانات الابراهـــيمـــية بنـــــظام تمــــثيل سياسي معقول، واحترام اجتماعي، ومشاركة مفتـــوحة. وحافظ العهد الملكي على هذه السمات، فأفرد في برلمانه كما في مؤسساته حصة تمثيل لـ «النصارى» و«الموسويين»، مقروناً باحترام دستوري، للأديان ومؤسساتها.
لا يكفي إزاء العنف الراهن بث دوريات ونقاط تفتيش لحماية دور العبادة غير المسلمة، على فائدة من ذلك. فالعنف الآن ايديولوجي، منظم، يتغذى على حركات اصولية، محددة، وينمو على قاعدة تحريض مستديمة في خطب جوامع، ويترسخ بفضل برامج تربوية تشحذ أنياب التعصب الديني، ويمضي بلا حسيب في ظل بناء دستوري – قانوني مصاب بعمى كامل إزاء أشكال التعصب الديني.
ثمة حاجة لتحويل الشعور بالعار الى فعل دستوري – مؤسساتي. فينبغي اولاً أن ينص الدستور على معاقبة التأليب على الأديان والمذاهب، باعتباره جريمة قانوناً. صحيح ان القانون لا يعاقب على الآراء، بل على الأفعال، إلا ان ترويج التعصب، او، إن اردنا مفهوماً ألطف: اللاتسامح، يفتح الباب لانتهاك حق الحياة، وحق الملكية، وحق حرية الضمير.
وينبغي ثانياً ان تلزم دوائر الاوقاف، على اختلافها، بفرض رقابة قانونية على الاستغلال المنفلت لمنابر العبادة وتحولها الى منابر دعوة للتكفير وسفك الدماء، فضلاً عن تحولها الى ترسانات عسكرية.
وثالثاً، ينبغي الالتفات الى دور النظام التربوي الرسمي الذي يزدري بحقائق وجود عدد كبير من الاديان الى جانب الاسلام، ووجود مذاهب متعددة في اي دين، ووجود مدارس متنوعة في المذهب الواحد. وبدل التعريف بها جميعاً، للتعرف على الواقع الفعلي، على اساس القاعدة القرآنية «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا»، فثمة إهمال وتجاهل للآخر. فالجهل بالأديان الأخرى يورث الريبة، والازدراء، والضغائن، ما يجعل اصلاح النظام التربوي ضرورة لازمة كيما يعكس التنوع ويسهل التعارف.
ورابعاً، ثمة حاجة لتطوير الثقافة النابذة للمساواة وهي معايير لا يمكن القبول بها في الحياة المعاصرة، التي ترتكز على فكرة المواطن، اي المساواة المطلقة بين كائن بشري وآخر. ففكرة «الذمي» كمواطن درجة ثانية، وفكرة الآخر «النجس»، الذي يوجب الوضوء عند اي تماس به او بطعامه، باتت تبلغ من الرثاثة مبلغاً يوجب تفاديها.
وخامساً، ينبغي ان يسارع البرلمان، او تسارع المحكمة الدستورية وتسارع الأوقاف، الى تشكيل هيئة رقابة برلمانية – دستورية لرصد ومواجهة أية حالة للتأليب الديني، بالقول او بالفعل، اياً يكن مصدرها، باعتبارها جريمة يعاقب عليها القانون.
لعل هذا كله، او في بعضه، او في المزيد، ما يسعف في اعادة شيء من مظاهر الحضارة ويوقف نزف مسيحيي المشرق والعراق بخاصة.
الحياة