صفحات ثقافية

لماذا المثقّف مملّ؟!

null

د.هشام العوضي

منذ أكثر من 18 سنة، طرح المفكر هشام شرابي سؤالا محرجاً وهو: “لماذا إذا طالعت كتاباً لأحد المفكرين، أو المثقففين العرب وجدته في أكثر الأحيان مملا، مليئا بالتصنع والتكلف حتى ولو تناول موضوعا ممتعا ومثيرا؟”. وعندي أن الجواب أكثر إحراجا، وهو أن المثقفين، في أحيان كثيرة، مملون لأنهم يفتقدون ثقافة التسويق في زمن تحول فيه كل شيء إلى منتج وبضاعة، تحتاج لحس دعائي لكي تروج، بصرف النظر عن جودة المنتج. وفيما يتساءل شرابي فيما إذا كانت المشكلة في “اللغة، هذه الفصحى المتحجّرة التي لا تكاد تمت بصلة إلى لغة الحياة التي نتكلمها في البيت والشارع ومع الآخرين، أم في هذا الفكر الجامد المتحجّر الذي تحمله هذه العقول الأبوية الجامدة المتحجرة”، فإني أقول إنها في الفصام النكد بين المثقف كصاحب منتج، وبين قدرته على تسويق منتجه لجمهور مستهلك تغيّر عن جمهور الخمسينيات والستينيات.

فمن جانب، لم يعد الجمهور الحالي، أو شريحة كبيرة منه على الأقل، هو الجمهور القارئ، وإنما الجمهور المتفرج، فالوسيط بين الجمهور والمثقف تغير، وبدلا من أن ينشغل المثقف بأثر الفضائيات على مستقبل الكتاب، ويخاصم ويلعن ثقافة الديجتال، فإنه يواجه تحدي التكيف مع الوسيط الجديد، وتطوير مهارات التعامل معه، كي يصل إلى جمهوره المستهدف، ويعرض بضاعته حسب ذهنية المستهلك، وإلا انقرض. وانقرض هنا ليس بمعنى نهاية حياة المثقف، وإنما غيابه عن ساحة السوق. ففي الوقت الذي تروج فيه البضائع رديئة الجودة، لانها تبدو رائعة في مظهرها الخارجي، وخاضت أكثر من عملية تجميل كي تبدو جذابة لعين المتفرج، وتباع بالملايين، ينزوي المثقف بمنتجه، ويتفاصح بلعن الظلام، والجهل، وتفاهة الجمهور، ويقتنع بما باع من بضعة مئات من منتجه في مواسم الاستهلاك الثقافي، أي معارض الكتاب.

وعلى ذكر لعن الجهل، وسوء الظن بالجمهور، نشرت سلسلة عالم المعرفة كتابا قبل 3 سنوات اسمه: “التاريخ الاجتماعي للوسائط” يروي قصة تطور وسائل الإعلام بدءا من الطباعة التي ابتكرها غوتنبرغ، إلى الإنترنت الذي روّج له بيل غيتس. والطريف أنه كلما ابتُكرت وسيلة تواصل جديدة، جابهتها نخبة الوسيلة القديمة بالرفض، والتشويه، والتشكيك في إمكانية استمراريتها، حتى تضطر في النهاية إلى قبول الأمر الواقع والتواؤم مع متطلبات الوسيط الجديد أو التلاشي. ويصير مفهوما عندئذ لماذا يصر المثقف العربي، الذي لم يتعلم كيف يأكل عيشاً، ويمارس نفوذه على المجتمع، إلا من خلال وسيط الكتابة، أن ينظر بريبة إلى ثقافة الفضائيات وجيل الإنترنت، علماً بأنه لا ادعّاء هنا بأن وسيط الكتاب سينقرض، وإنما حتما سيتجدد في مظهره وأسلوبه. وما عليك إلا أن تطالع أغلفة الكتب الحديثة، لونا ونوعا، حتى تلمح بعضا من مظاهر التجدد، حتى صارت بعض الأغلفة تحمل صورة المؤلف، لعلّك ترضى وتشتري!.

فهل يتوجب على المثقف أن يتحول إلى نجم فضائيات، وهي ظاهرة سادت مؤخرا؟ ليس بالضرورة، وإن كنت لا أرى بأسا، مادام المثقف لن يسطّح أفكاره، علما بأن هناك فرق بين التسطيح والتبسيط الذي تقتضيه طبيعة الوسيط ونوعية الجمهور، وإنما على الأقل يتكيّف مع المتغيرات، ويطور مهارات تسعفه في تسويق أفكاره لجمهور أصبح يرى ويسمع ويقرأ بذهنية جديدة. وإذا نظرنا إلى جمهور اليوم، على أنه مستهلك، شئنا أم أبينا أن نستعمل مفردة السوق، ونحلله كي نعرف كيف نسوّق له منتجنا، فإننا أولا أمام شريحة مستهلكة جديدة، غالبيتها من النساء والشباب. وما عليك إلا أن تشاهد المحطات الفضائية، والمجلات والكتب على أرفف الجميعات، والملابس في المحلات، حتى تعرف من تستهدف. وثانيا هذه الشريحة في غالبيتها غير مسيّسة، إما عن عمد لغياب الثقة بالنخبة السياسية، وإما اعتقادا بأن الحياة فيها ما هو أكثر من السياسية إثارة ومتعة.

واقعيا، لايزال كثير من المثقفين منشغلا لحد الهوس بالنخبة السياسية، شتما أو مغازلة، علما بأن أيا من خطاب الهجاء أو المديح، باعتباره مرتبط بنخبة ذكورية شائخة وسياسية حتى النخاع، لم يعد يستهوي أحدا من المستهلكين، لانه خطاب أو بتعبير السوق بضاعة، لا تقع في دائرة اهتمامهم. جمهور اليوم، وغالبيته شباب، غير مهتم بالسياسة، إذا كانت السياسة معنية بأخبار السلطة، وأجهزة الدولة، وإنما بحياته، وبالمهارات التي يحتاجاها لتنمية ذاته، وتلبية احتياجاته. والفتاة، لا يهمها طبيعة الحكم، وإنما كيف تكون زوجة، أو أم أو موظفة، أو مجرد إنسانة أفضل. ولن يأخذ منك وقتا أن ترى هذه النزعة بتطوافة عاجلة في معرض الكتاب كي تعرف أن أكثر الكتب مبيعا هي التي تتكلم عن التنمية البشرية، والنجاح، ومهارات الإدارة، والتسويق، بصرف النظر عن جودتها كمنتج ثقافي.

وكي لا ننتهي من المقالة بانطباع تشاؤمي، دعني أضرب نموذجا لمثقفين نجحوا في التكيّف مع متطلبات المرحلة والجمهور، وفي تطوير قدراتهم التسويقية من دون أن يقدّموا تنازلات في جودة منتجاتهم. ففي الوقت الذي لا يزال مؤرخونا منشغلين بإعادة رواية التاريخ، رواية سياسية، تختزل عهدا ما في قائمة بأسماء الحكّام والسلاطين الذين حكموا الفترة، طوّر بعض المؤرخين وسائل تسويقية أكثر إثارة، وصلة بحياة جمهورهم. فبدلا من أن يكون تاريخ الامبراطورية الرومانية، عبارة عن ترجمة للقياصرة الذين حكموا روما، جانب ممّل للمرأة والشاب، سلطوا أضواءهم على حياة الناس التي كانت أكثر إثارة وصلة بحياة الجمهور. وأحد المؤرخين، ذهب لحد أن يطلب من جمهوره أن يشاركه عمل طبخة كانت شائعة ومفضّلة في المجتمع الروماني، فيما قرر آخر أن يرتدي ملابس رومانية وهو يدرّس طلبته تاريخ الامبراطورية. وإزاء تلك الأمثلة ربما المتطرفة، لعلك تفتح فاهك مندهشا وتسألني بتعجب: تتوقع من المثقف أن يفعل ذلك كي يكون رائجا؟! ربما لا، ولكن على الأقل أن يبتكر ما يراه مناسبا في مجتمعه، ومتوائما مع عقلية جمهوره، وإلا فسيظل سؤال شرابي معلقا حول رقبة المثقف كالمشنقة: “لماذا إذا طالعت كتابا لأحد المفكرين، أو المثقفين العرب وجدته في أكثر الأحيان مملا؟”.

كاتب كويتي

الخميس, 14 فبراير 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى