هل سيقيم الفلسطينيون دولة؟
ميشيل كيلو
لا يريد هذا السؤال التشكيك في رغبة الفلسطينيين في الدولة، أو في قدرتهم على إقامتها. أن له هدفاً محدداً هو: هل الكيان الذي سيقيمه الفلسطينيون سيكون حقاً دولة: أي كياناً يستحق هذا الاسم، يحمل صفات ومزايا الدولة بما هي مؤسسات وأجهزة غير شخصية، مجردة وعامة وشاملة، فيها سيد وحيد هو القانون، الذي يخضع له دون قيد أو شرط كل فرد وجهاز، ويضمن فصل السلطات وتمثيل مصالح الشعب العليا والدفاع عنها، في الداخل وأمام الخارج؟
لا شك عندي في أن الفلسطينيين مرضى بالدولة: هاجسهم الأكبر وطموحهم الأسمى وغايتهم الأرفع، التي من أجلها ناضلوا، وفي سبيلها استشهدوا، ولأجلها يعيشون، فهي حلمهم التاريخي الذي يظنون أنه صار في متناول رغباتهم وإرادتهم، وأنه سيضع نهاية لتشردهم ولضياع ما تبقى من وطنهم، وسيردّهم إلى تطور انقطع بقيام كيان أجنبي وغاصب، أخرجهم من ديارهم وبعثرهم في أربعة أصقاع الأرض، وخاصة في بلدان وطنهم العربي الكبير، حيث عاملهم الحكام العرب لفترة غير قصيرة كمتمردين غير منضبطين، واعتبرهم العالم لاجئين أو مشردين ليس لهم حق في دولة، لأنه ليس عندهم وطن، فتكفل نهر دمائهم عند هزيمة حزيران العربية عام 1967 في تصحيح المواقف منهم، ووضعهم خارج القبضة الرسمية العربية – إلى حين – وأقنع عدوهم الصهيوني أنه لم ينجح بعد في حسم قضيتهم، وأن فلسطين بقيت موضوع صراع يستحيل إخراج شعبها منه بأي قدر من العنف والظلم، فهو كما وصفه قائده الشهيد ياسر عرفات، «عنقاء خرجت من رمادها»، و«شعب جبارين» يستحيل قهره.
لا يوجد شعب في الدنيا والآخرة يشبه حلمه بالدولة حلم الفلسطينيين بدولتهم. وقد بقينا، نحن الذين عملنا في صفوف الثورة الفلسطينية وساندناها، نتذكر أقوال قادتها الكبار حول هوية الدولة المنشودة وطابعها، وتأكيداتهم المتكررة بأنها ستكون مختلفة كل الاختلاف عن الدول العربية القائمة، لأنها لن تكون دولة شرطة ومخابرات، أو دولة بيروقراطية وإفساد، بل ستكون دولة شعب مناضل، قاتل طيلة نيف وقرن وقدم تضحيات تجل عن الوصف، فلا حاجة عنده إلى دولة تقمعه وتضبط حركته وتراقبه، خاصة أن دولته لن تكون برانية بالنسبة إليه، ما دام قد أنتجها في نفوس ووعي بناته وأبنائه قبل أن يقيمها في الواقع، واستشهد من أجلها، رغم أن معظم شهدائه ولدوا خارج أرضها الوطنية. فلا يعقل أو يقبل أن تكون دولته من النمط السائد عربياً، وأن لا تراعي بنيتها وممارساتها طابعها النوعي، الخاص والفريد، الذي سيميزها كدولة أقامها الشعب بدمائه، ولم تنتجها صفقات أو تسويات داخلية أو خارجية، دولية أو محلية. فهي إذن شعبية بالضرورة والقطع، فريدة في هويتها وعملها بقوة فرادتها في التكون والنشوء.
قال أبو عمار ذات مرة وهو يتحدث عن الدولة: إنها لن تحتاج من الشرطة لغير شرطة البلديات. ولن تقيم أجهزة سرية أو قمعية، ولن تحتال على القانون أو تمتنع عن تطبيقه، ولن تفصل السلطة الشعبية عن السلطة الرسمية، ولن تسمح بأي فساد وإفساد، وستكون من رأسها إلى أخمص قدميها شفافة كنقطة ماء صافية، وإلا تفوق نموذج الدولة الصهيوني وقوّض جاذبيتها وفاعليتها، بينما الأساس أن تتفوق هي عليه في ديموقراطيتها، وتخسف وجوده بإنسانيتها، فتكون دولة تحمل في أحشائها مستقبلاً هي فيه حقاً لجميع مواطنيها العرب واليهود.
ما الذي جرى وقلب الأمور رأساً على عقب، وحوّل دولة الحلم إلى دولة كابوس تشبه كوابيس العرب السلطانية، التي ليس لها من الدول غير اسمها؟ ما الذي جعل مشروع الدولة يضيق بالأخ والشقيق، ويوزع الشعب على زمر وفرق، ويعتمد معيار الولاء السياسي فيصلاً في العلاقة مع المواطنين، بعد أن حلم قادة الثورة بجعلها دولة شعب تتجسد فيها سلطته المباشرة دون غيرها من السلطات، يتجلى من خلال عملها وممارساتها وأجهزتها، الإدارية الطابع، حضوره الحاسم في الشأن العام، كما في كل كبيرة وصغيرة؟
هل حدث الانقلاب من الدولة الشعبية إلى دولة الفصائل بسبب خلافات وانقسامات الساحة؟ شخصياً: لا أعتقد ذلك، فالساحة كانت دوماً منقسمة إلى فصائل، لكن انقساماتها وخلافاتها لم تكن عدائية كالانقسام الراهن بين حماس وفتح، ولم تفض انقساماتها يوماً إلى بلورة واعتماد استراتيجيتين في العمل الوطني متعاكستين إلى أبعد الحدود، تتصلان بمجالين سياسيين خارجيين متناقضين/ متعارضين.
هل حدث بسبب فساد أهل السلطة وتخليهم عن مشروعهم الثوري، وقبولهم سياسات تقوم على تسويات وحلول وسط مع عدو يتمتع بحضور يومي في الأرض الفلسطينية المحتلة، علماً بأن الثوار الذين يتخلون عن مشروعهم سرعان ما يتحولون إلى مقتنصي فرص همهم تعويض ما فاتهم من مغانم العيش والثروة؟
عرفت الثورة قبل عام 1993 فاسدين معروفين، بلغ فساد بعضهم حداً جعلهم يزعمون أن صاروخاً إسرائيلياً أصاب حقيبة المال (السمسونايت) التي كانت في يدهم، فدمّرت المبلغ الذي كان فيها دون أن يصابوا هم بأذى. لكن الفساد كان مجرد ظاهرة بين ظواهر ولم تكن تعبيراً عن انتهاء الثورة أو عن نزوع عام إلى التخلص منها، مثلما حدث بعد مدريد عامة، واستشهاد عرفات والانقسام الفلسطيني القاتل بخاصة.
مع اليأس، والتصالح مع الواقع، والجري وراء المصالح الشخصية باعتبارها المصلحة العامة، أكل الفساد الثورة وصار قادراً على منع تجدّدها، وغدا من الطبيعي أن لا يسلم الفاسدون أي جزء من سلطتهم إلى الشعب، أو أن يتبنوا نهجاً يفضي إلى تغيير الواقع الفاسد.
هكذا، كررت تجربة فلسطين ما سبق للتجارب العربية أن فعلته: حين تخلّت النخب الممسكة بالأمر عن الثورة بعد فترة قصيرة من استيلائها على السلطة شهدت نمو وتبلور قوى وتيارات داخلها رأت في السلطة مصدر الثروة، فوضعتها في خدمة القابضين عليها وشرعت تنهب المجتمع والدولة بواسطتها، بينما أطلقت مارد الفساد من قمقمه، خاصة بعد أن أقنعت نفسها بعجزها عن تحقيق الوعود التي كانت قد قطعتها على نفسها قبل السلطة، وقبلت ما ترتب على ذلك من تحوّل في موقفها من الشعب، وبدلت بنية سلطتها ووظائفها وممارساتها.
تقوّض ممارسات السلطتين القائمتين اليوم في فلسطين فرص قيام دولة حرة: سيدة ومستقلة، حتى ليتساءل المرء إن كان ما سيقوم هناك سيكون دولة حقاً، أو إن كان قادة العمل الوطني الفلسطيني ما زالوا ملتزمين بوعد إقامة دولة. تضر مواقف حماس من الدولة بفرص قيامها، مثلها في ذلك مثل مواقف أهل السلطة في الضفة الغربية. بدل أن تقيم حماس سلطة تتفادى عيوب سلطة فتح، سارعت إلى إقامة سلطة تفوقها استبداداً وعدوانية تجاه المواطنين، وتقييداً لحرياتهم، وظلماً في توزيع الأرزاق، وتسلطاً على عقولهم ومشاعرهم، بحيث يكون من المشروع تماماً التساؤل إن كان الإخوة في غزة يريدون دولة فلسطينية لكل مواطنيها، تتجسد فيها حرياتهم وحقوقهم، فتكون سيدة وحرة ومستقلة حقاً، أم أنهم اجتازوا، بقفزة واحدة، مرحلة الدولة إلى حقبة ألـ«لا – دولة»، القائمة في بقية أرض فلسطين المحتلة؟
هل هناك سباق فلسطيني على بهدلة فكرة الدولة وحلمها وواقعها؟ ليس مفهوماً أو مقبولاً على الإطلاق أن تتعامل التنظيمات الفلسطينية مع حلم الدولة وفرص قيامها بسياسات كابحة لتحققهما. ومن غير المقبول أن تكون الدولة أملاً فتصير كابوساً قمعياً فاسداً ومفسداً، ليس للشعب أي اعتبار أو مكان في حساباته وسلوكه، فهو يحيده ويرى فيه عدواً لا بد من تقييده وسحقه، ستجعل عودته إلى الشأن العام تحويل السلطة إلى «باب رزق»، وموقع للفساد والإفساد، أمراً صعباً.
لن تستقيم أمور فلسطين، ما لم تعمل المنظمات لدولة فلسطينية تشبه حلمها، فالدولة كانت وما تزال التكثيف الأعلى للنضال الوطني، الذي تلاشى لأسباب أهمها تحويل ما قام من الدولة ومؤسساتها إلى سلطة أمر قائم، ليس بينها وبين الدولة صلة أو شبه. لن تستقيم أمور فلسطين دون ربط أي تقدم نحو الدولة، في الفكر والنظر والسلوك، بمشروعها العظيم، وإلا حق لنا أن نتساءل مع المتسائلين: إذا كانت الدولة العتيدة ستعبر عن سلطتها من خلال ممارسات احتلالية، لماذا قيامها، وما الجدوى منه؟
السفير