قضية بلدة الغجر وحقّ أهلها في تقرير مصيرهم
حسن شامي
كثيرة هي المؤشرات التي تجعل القرار الإسرائيلي القاضي بالانسحاب من الشطر الشمالي لبلدة الغجر بمثابة اختبار لمنسوب التخبط السياسي والوطني الذي يشهده لبنان بدون أن يقتصر اضطراب الوعي الوطني عليه، إذ إن هذا الاضطراب في المرجعية الوطنية ومشتركاتها يطاول غير بلد في المنطقة، وإن بوتائر وأشكال مختلفة. وقد بات معلوماً أن البلد الصغير يترنح على إيقاع تسريبات وتقارير إعلامية تؤدي، عن قصد أو عن غير قصد، إلى تثبيت «حقيقة» أخرى وإلصاقها بتلك التي يريد قسم كبير من اللبنانيين معرفتها والمتعلقة باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري: مأسسة الهشاشة الوطنية وتعميق الهوة بين الجماعات اللبنانية المتزايدة الانقسام والتنازع حول مسائل عدة، في مقدمها تعريف الصفة الوطنية نفسها وموقع الدولة المستقلة، المعلقة والمنتظرة في آن، داخل اللعبة الإقليمية والدولية. يبدو البلد الصغير بالفعل، خصوصاً في هذه الأيام، أشبه بورقة تحرِّكُها أهواء متنافرة، داخلياً وإقليمياً ودولياً، على أنها لا تزال مع ذلك تحتفظ ببعض قوة الجاذبية التي تحول دون تطايرها في الهواء. في هذا المعنى ليس مستبعداً أن يكون القرار الإسرائيلي المتعلق بقرية الغجر هو بمثابة «نفخة» إضافية ونفاثة لإبقاء ورقة المصير الوطني في مهب الريح. ولا يتعلق الأمر بنظرية المؤامرة العتيدة ولا حتى بهدية مسمومة، بل بحسابات سياسية باردة وصلفة (سينيكية) إلى الحد الذي يجيز للقراءة المتأنية أن تجد فيها مهزلة حقيقية.
السياق الذي جاء فيه القرار «الغجري» (نسبة إلى قرية الغجر) مصحوباً بطنطنة إعلامية متوقعة ومشتهاة، ليس عديم الصلة بلعبة التجاذب المخملي بين حكومة نتانياهو وإدارة أوباما حول تعثر المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية بسبب موضوع الاستيطان ومراوغة نتنياهو في هذا الشأن بالرغم من الهدايا الفاخرة التي تضمنتها المقترحات الأميركية من أجل تجميد ظرفي للاستيطان. وهذا التجاذب يلقي بظله على لعبة التوازنات داخل الائتلاف الحاكم. لا حاجة للتوسع في هذا الجانب. ولا حاجة أيضاً للتوسع في شرح العلاقة بين القرار «الغجري» وتصاعد التوتر الداخلي اللبناني على خلفية القرار الاتهامي المنتظر من المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري والذي تشير المعطيات الكثيرة إلى أنه سيتهم، في الحد الأدنى، أفراداً من حزب الله. فقد صرح مسؤول إسرائيلي وزاري يتابع المسألة في مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية، بأن القرار الإسرائيلي «يقضي بإقامة بوابة حدودية عند الخط الفاصل بين إسرائيل ولبنان، وهي منطقة لا يصلها سكان الغجر. وخلف هذه البوابة من الطرف اللبناني تنتشر قوات من اليونيفيل. ما يهمنا هو ما طلبه بنيامين نتنياهو من الأمين العام للأمم المتحدة بأن لا يتسلل عناصر من حزب الله إلى الغجر ولا تتاح للحزب إمكانية السيطرة عليها…هذا كل شيء». وشدد المسؤول ذاته على «أننا لا نريد أن نبقى طرفاً يرفض تنفيذ قرارات دولية. وهذا القرار الذي شمله القرار الدولي 1701 ملزمون بتنفيذه. إسرائيل ستنفذه ويبقى على الحكومة اللبنانية أن توافق عليه». بعبارة أخرى مستقاة من فيلم «العراب»: سنقدم للحكومة اللبنانية عرضاً لا يمكنها أن ترفضه. ثمة بالطبع من أغدق بابتذال معهود صفة السخاء واحترام القرارات الدولية على اللاحدث هذا وبطريقة تذكّر بسخاء عروض سابقة قيل إن الفلسطينيين رفضوها. تجدر الإشارة إلى أن كلام المسؤول الإسرائيلي سعى إلى طمأنة سكان الغجر، إذ أكد لهم أن القرار لن يُمس بهم وأنه لن يحدث تقسيماً للبلدة، فهم لن ينتقلوا إلى لبنان. «لن نقيم سوراً كما اقترح سابقاً وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، ليفصل العائلات بعضها عن بعض، بل سيواصل السكان حمل الهوية الإسرائيلية والحصول على خدمات مدنية من إسرائيل. وليس هذا فحسب. فهؤلاء السكان لن تتاح لهم فرصة الدخول إلى لبنان ولا حتى التوجه إلى قوات اليونيفيل لاستئذان الدخول أو الخروج». إنها حقاً أحجية، فالقرار يفترض تقسيم البلدة إلى شطرين، جنوبي يبقى لإسرائيل وشمالي يضم 1700 مواطن يسكنون على مساحة 300 دونم يلحقون بلبنان. الأرض تكون تحت السيادة اللبنانية، على أن تتولى قوات اليونيفيل الأمن، وليس الجيش اللبناني، ويبقى السكان إسرائيليين ويتلقون الخدمات المدنية من إسرائيل ويخضعون لها إدارياً. ليست الجغرافيا الحدودية المثلثة لهذه البلدة هي وحدها مصدر عذاب لم يكن يتوقعه أهلها، فالقرار ـ الأحجية يقترح عليهم أن يتحولوا فجأة إلى مادة تاريخ اجتماعي لا قِبَلَ لهم به. ما الغريب في أن يرفض سكان البلدة قراراً يبدو لهم، في منظار ثقافتهم الاجتماعية، في المعنى الأنثروبولوجي للثقافة، أشبه بلعنة وكارثة مصبوبتين عليهم صباً.
ما يحملنا على هذا التساؤل المستنكَر هو مسارعة، بالأحرى تسرّع، بعض الكتّاب والمعلقين اللبنانيين إلى تلقف رفض سكان الغجر لقرار الانسحاب الإسرائيلي واستخدامه كقرينة على تهافت الفكرة الوطنية الرائجة في أدبيات الممانعة والمقاومة في المنطقة والموروثة، بحسبهم عن العروبة السياسية وما يناظرها يسارياً وإسلامياً. إذا كان الاحتلال جحيماً كما يصفه أدب المقاومة وإنشاؤها الخطابي، فمن المفترض أن يهلل سكان الغجر بلا كيف للانسحاب الإسرائيلي مستجيبين لمثل شعبي شاع زمناً في الأرياف والجبال اللبنانية وفي بيئات مشرقية أخرى على الأرجح وهو «زوان بلادك ولا قمح الصليبي».
هذه عينة عن وعي حداثوي مشوه وزائف لأنه يفتقد إلى الحس الأنثروبولوجي. ومن مفارقات الأمور ربما أن يلتفت مصدر أمني لبناني إلى الأمر. فقد أدلى هذا المصدر بتصريح يشرح فيه ملابسات الانسحاب المزعوم، مؤكداً أن لبنان يرفض انسحاباً مشروطاً. ومن بين هذه الشروط الإبقاء على العلاقات الاجتماعية بين سكان الشطرين، «بحجة أنهم عائلة واحدة»، كما أن إسرائيل لا ترغب في أن يتسلم الشطر الشمالي عناصر من اليونيفيل وأن يقيموا سياجاً شائكاً بين الشطرين ويرابطوا عند البوابة الفاصلة «للسماح لسكان الشطر الشمالي اللبناني بالدخول والخروج عبرها إلى الشطر الجنوبي السوري حيث الجامع والمقبرة والمدرسة». العبارة الأخيرة هذه تلخص لوحدها مدار الزمن الاجتماعي وقطبيات الفضاء السكني التي بدونها لا تكون البلدة متحداً اجتماعياً. سكان الغجر أعلنوا ذلك بصراحة، إذ كان شعارهم المركزي في تظاهراتهم هو «نرفض تقسيمنا»، و«سوريون وسنواصل الحفاظ على هويتنا السورية».
وقال الناطق بلسان المجلس المحلي، نجيب الخطيب: «نريد أن نبقى موحدين. وبالنسبة لنا أفضل الحلول هو تجميد ملف الغجر إلى حين بحث ملف الجولان بكامله، وإذا حصل ورفضت إسرائيل أو أي طرف ذي صلة ووصلنا إلى وضع يتم فيه تنفيذ القرار فسيكون مطلبنا بحل أقل ضرراً لنا هو ضم القرية كلها بسكانها وأراضيها إلى لبنان. ولكن أن يدخل اليونيفيل ويقسمنا فهذا أمر مرفوض ولن نسمح به». الغجر بلدة وليست مستوطنة وهنا عقدة مأساتها.
الحياة