صفحات العالمما يحدث في لبنان

التوترات اللبنانية على إيقاع «التسوية»

محمد سيد رصاص
في أثناء زيارة رئيس الوزراء الاسرائيلي الجديد إسحق رابين لواشنطن، في أيلول 1974، تمً التوصل، وفقاً لمذكرات كيسنجر: «سنوات التجديد»، إلى تفاهم بين كيسنجر ورابين على استراتيجية التسوية المنفردة التي سميًت بـ«سياسة الخطوة خطوة»، على أن يكون التركيز على تسوية مصرية – اسرائيلية منفردة، مع استبعاد «الخيار الأردني» الذي كان يفضله وزير الخارجية الاسرائيلي إيغال ألون صاحب «مشروع ألون».
كان الرئيس المصري أنور السادات في حالة ملاقاة لهذا التوجه الأميركي – الاسرائيلي. على هذا الأساس بدأ كيسنجر جولته المكوكية في الشرق الأوسط بيوم 7 آذار 1975. اصطدم وزير الخارجية الأميركي بسدٍ مزدوج سعودي – سوري رافض للتسوية المنفردة بين القاهرة وتل أبيب.
تفصل ثلاثة أيام بين اعلان فشل جولة كيسنجر المكوكية واغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز في يوم الثلاثاء 25 آذار 1975، كما أن ثلاثة أسابيع تفصل ذلك الفشل عن نشوب الحرب الأهلية اللبنانية في يوم الأحد 13 نيسان، التي وضعت سوريا في الزاوية اللبنانية المشتعلة هي ومنظمة التحرير الفلسطينية التي اقتربت خلال الربع الأول من عام 1975 من دمشق مبتعدة عن القاهرة التي كانت الراعية الأساسية لقرار القمة العربية في الرباط 28 تشرين الأول 1974 باعتبار «منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني» في تكتيك من الرئيس السادات كان يهدف أساساً إلى افشال «الخيار الأردني» عند الملك حسين.
بدون ما سبق، ما كانت القاهرة تستطيع توقيع (اتفاقية سيناء الثانية) مع تل أبيب برعاية كيسنجر في يوم 1 أيلول1975، وهي في مضمونهاً لا تختلف كثيراً عما كان شبه متبلور في آذار الفائت. وعملياً، فإن عودة المصالحة المصرية – السورية في مؤتمر الرياض السداسي 16-18تشرين الأول 1976، الذي أنهى حرب السنتين اللبنانية مع موافقة سعودية – مصرية على الوجود السوري في لبنان، وهو ما تزامــن مع انتهــاء المرحلة الكيسنجرية في يوم الثلاثــاء 2 تشــرين الثاني 1976 مع انتخاب الرئيــس كارتر ومجيء أقطــاب «تقــرير معــهد بروكينغز» إلى البــيت الأبيــض الرافضون لسياسة «الخطوة خطــوة»، ومنهم زبيغنــيو بريجنسكي.
هنا، نجد كيف كان هدوء عام 1977 في بلاد الأرز مترافقاً مع إعادة الإحياء الأميركية لسياسة التسوية الشاملة للصراع العربي الاسرائيلي، بالتزامن مع توافق مصري – سوري، ومع وفاق بين واشنطن وموسكو حول أزمة الشرق الأوسط بلغ ذروته في البيان الأميركي – السوفييتي المشترك 1 تشرين الأول 1977 المؤكد على القرار 242 وعودة مؤتمر جنيف والتسوية الشاملة. بالمقابل، كانت زيارة الرئيس المصري إلى إسرائيل في يوم 19تشرين الثاني1977مؤدية ليس فقط إلى انقلاب أجواء «التسوية الشاملة» لمصلحة تسوية مصرية – اسرائيلية انفرادية جديدة، وإنما كان أيضاً أحد تداعياتها عودة لبنان إلى الانفجار منذ يوم 8 شباط 1978مع حادثة ثكنة الفياضية، وهو ما استمر عليه الوضع اللبناني حتى خريف 1978 مع توقيع اتفاقيات كامب دافيد في 17 أيلول بين السادات ومناحيم بيغن. وفي هذا الصدد، فإن زيارة السادات لا يمكن فصلها عن عملية إسرائيل في اجتياح لبنان لأول مرة في آذار1978، كما أن انتهاء انسحاب إسرائيل من سيناء في 25 نيسان 1982، وفقاً للاتفاقية المصرية – الاسرائيلية في 26 آذار 1979، لا يفصله سوى أربعين يوماً عن اجتياح إسرائيل الثاني للبنان، حيث يبدو أن الهدف منهما محاولة اسرائيلية (بعد اطمئنان تل أبيب إلى فصل وتحييد الرأس المصري عن الجسم العربي) من أجل صياغة هذا الجسم في آسية العربية لمصلحة إسرائيل عبر الخاصرة اللبنانية الضعيفة والمضطربة.
في اليوم التالي لخروج ياسر عرفات من بيروت (1 أيلول 1982)، إثر الاجتياح، طرح الرئيس الأميركي «مشروع ريغان» للتسوية، وهو ما فضَلت تل أبيب عليه تسوية اتفاق 17 أيار1983الانفرادية مع لبنان، والتي أدت إلى تفجير لبنان من جديد مع حرب الجبل: أيلول 1983 و6 شباط 1984، اللتين جعلتا مشهد (صيف الاجتياح – 17 أيار) ينقلب لمصلحة مشهد لبناني جديد لغير مصلحة المشروع الاسرائيلي – الأميركي منذ اتفاق بيغن – ألكسندر هيغ (وزير الخارجية الأميركي) على اجتياح لبنان. هذا أدى إلى مرحلة انتقالية لبنانية كانت آلام مخاضاتها مؤديــة إلى انتهاء مرحلة الحرب الأهليــة اللبنانيــة في يوم 13 تشرين الأول 1990، في ظل توافــق سوري – سعودي – أميركي تجَــسد أولاً في اتفاق الطائف قبل عام من ذلك، ثم تجــسَد ثانية في أزمة ما بعد اجتياح العراق للكويت في يوم 2 آب 1990، وهو ما ترافق منذ أيار 1990مع عودة التوافق المصري – السوري: خلال عقد التسعينيات كان دخول لبنان في مرحلة «السلم الأهلي» متزامناً مع اتجاه مساعي التسوية للصراع العربي الاسرائيلي منذ مؤتمر مدريد تشرين الأول 1991 نحو أطر شاملة، لم يحجب فيــها اتفاق أوسلو بين عرفات ورابين في 13 أيلــول 1993 الجهد المكثف الذي بذلته إدارة كلينتون من أجل اتفاق حول مرتفعات الجولان. وعملياً، فإن وصول التسوية السورية – الإسرائيلية إلى طريق مسدود في قمة جنيف بين الرئيسين السوري والأميركي 25 آذار 2000، ثم فشل محادثات كلينتون – باراك – عرفات في كامب دافيد 11 – 25 تموز 2000، قد عنيا انتهاء لمرحلة تسوية مدريد.
خلال فترة ما بعد مدريد، والتي استغرقت معظم العقد الأول من القرن الجديد، أشاحت الولايات المتحدة الأميركية بوجهها عن التسوية، التي بدأت الاهتمام بها كوسيلة لتنظيم سيطرتها على منطقة الشرق الأوسط منذ عام 1974.
هذا أدى إلى جعل اهتمامات واشنطن منصبة على مواضيع أخرى غير التسوية في المنطقة من أجل تحقيق هذا الهدف ، وهو ما بان في عهد بوش الإبن الذي تجاهل التسوية لمصلحة «إعادة صياغة المنطقة» من «البوابة العراقية» وهذا شيء كان واضحاً في الأشهر الثمانية الأولى من عهده قبل (11 ايلول) ثم توضَح أكثر بعد ضرب برجي نيويورك: قاد اتجاه الولايات المتحدة إلى غزو واحتلال العراق إلى صدام سوري – أميركي بانت معالمه أثناء زيارة وزير الخارجية الأميركي كولن باول لدمشق بعد ثلاثة أسابيع من سقوط بغداد. بدون هذا الصدام، لا يمكن تفسير القرار 1559 في 2 أيلول 2004 الذي عنى اتجاهاً أميركياً إلى تحجيم الدور الإقليــمي الســوري عبر بلاد الأرز، وهو ما أدى إلى اشتــعال لبنان مــن جديد، ولكن على خلفية ليس عنصرها الأســاسي هو التسوية، كما في أعوام 1975 و1978 و1983، وإنما العراق، الذي كان يعتبره الرئيس الأميركي آنذاك «موضوع المواضيع»، ثم انضاف لعوامل الاشتعال اللبناني ما حصل، منذ آب 2005، من صدام ايراني – أميركي بسبب استئناف طهران لبرنامجها في تخصيب اليورانيوم.
خلال أعوام ستة، انقسم لبنان بين معسكرين، كان من الواضح في تلك الأعوام أن المواضيع اللبنانية هي مكثفات لمواضيع وقضايا هي أبعد من 10452 كيلومتر مربع، كما أن التوازنات الاقليمية التي كانت في مرحلة مدِ المشروع الأميركي بالمنطقة، بدءاً من سقوط بغداد في 9 نيسان 2003، قد كان لها ترجمات خاصة في لبنان، تماماً كما كان هناك ترجمات معاكسة لبنانياً لمرحلة انتكاس وتراجع المشروع الأميركي منذ النــصف الــثاني من عـام 2006.
هنا، يلاحظ، منذ تراجع المشروع الأميركي، بداية عودة واشنطن إلى استخدام التسوية من أجل لملمة هذا المشروع وإعادة ترميمه. يمكن تلمس هذا الشيء بوضوح في عهد أوباما، وصولاً إلى الذروة في ذلك مع تدشين مفاوضات بنيامين ناتنياهو – محمود عباس منذ 2 أيلول 2010: خلال شهرين، سبقا تلك المفاوضات، عاد التوتر إلى لبنان – بعد هدوء ما بعد اتفاق الدوحة في أيار2008 – تحت عناوين محلية خاصة، ثم ازداد عقب بدء تلك المفاوضات وأيضاً تحت تلك العناوين ومتفرعاتها، وهو توتر غلياني يعكس كمرآة ما تتجه إليه منطقة الشرق الأوسط من منعطف نتيجة إصرار واشنطن على الاستمرار في مشروعها للمنطقة، البادئ ببغداد، عبر وسائل جديدة، ربما تكون الحرب إحداها، والتي يمكن أن تكون التسوية، التي أوحت واشنطن بإمكانية حصولها عبر ما يجري بين عباس وناتنياهو، هي مجرد غبار تمويهي للبعض، وارضائي للبعض الآخر، قبل حصول تلك الحرب الأميركية – الاسرائيلية. هنا، أيضاً، يلاحظ، بعد اصطدام تلك المفاوضات بالحائط الاسرائيلي المسدود منذ أواخر أيلول، دخول لبنان، مثل تجربة 1975، في توتر متزايد أكثر من الصيف السابق ترافق مع بداية ملامح لهجــمة أميركــية غير مسبوقة في المنطــقة منذ النصــف الأول لعام 2006، وهو ما يتزامن مع انتصار اليمين الأميركي في انتخابات الكونغرس النصفية على «اعتدالية» أوباما.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى