صفحات العالمما يحدث في لبنان

الحــرب أم القفــص؟!

عباس بيضون
يمر يوم الاستقلال هذا العام بدون أن يستقطب الجدل الذي ينقسم حوله اللبنانيون الذين ينقسمون على كل شيء. الواقع أنه نوع من الميتافيزيق، هناك السؤال الأولي: يوجد أم لا يوجد. للبعض أدلته على وجود الاستقلال بل يرى أن الموجود أبعد وأشمل. البعض لا يجد أدلة كافية على وجوده، البعض يظن أن معادلة س ـ س هي تجسيده على الأرض. البعض يظن أنه موجود بضمانة هذه الدولة أو تلك. البعض ينكر وجوده على الإطلاق. انه جدل ميتافيزيقي واللبنانيون ليسوا بارعين في أمور السماء، لقد جروا الآلهة والأديان والأرواح إلى هذه المساحة الصغيرة التي تشبه القمع، تركوها تقتتل وتتنازع في هذه الرقعة التي لا تزيد عن راحة الكف، يوجد أم لا يوجد. ليس الاستقلال وحده عالقاً في ما قبل البداية. نحن جميعاً عالقون. البلد عالق وكلنا لا نعرف إذا كنا نوجد أم لا نوجد، إذا كان لبنان موجوداً، أم غير موجود، النقاش يقول إنهم زرعوا في كل شخص شخصاً آخر، زرعوا في كل مكان مكاناً آخر. لا تعرف من الذي يفكر ويتكلم، أنت أم هو، لا تعرف من الذي يقرر، أنت أم هو. لا تعرف ماذا زرعوا في رأسك وفي لسانك، إنه رعب ميتافيزيقي. منذ الآن لن تعرف من الذي يجلس على الكرسي. صديقك أم عدوك، منذ الآن لن تعرف إذا كنت موجوداً أم غير موجود. لن تعرف إذا كان الغبار أم الريح أم الدخان هو الذي يتكلم. لا تدري ماذا زرعوا في العدم. أم أن العدم هو الذي يقرر ويحكم. الاستقلال هذا العام يمر ونحن نرتجف، إننا نحتاج إلى بطاقة وجود، نحتاج إلى كلمة من الله تثبت أننا موجودون، إقرار بأن نحيا. بأنا خُلقنا، من ثلاثين سنة ونحن نتحضر للولادة، ماذا لو كنا ضعنا أثناء ذلك، ماذا لو كنا امَّحينا وصرنا هباء. ماذا لو كانوا استبدلونا، ماذا لو كانوا زرعوا فينا أعداء أو شياطين أو جنوداً للموت، أو شهداء وصدّيقين. ماذا لو كانوا سرقوا بلادنا ونحن فوقها. ماذا لو استبدلوها واستبدلونا. وسلطوا علينا النوم أو الغيب، لو ركبوا فينا آخرين من عندهم، لو كنا نقتل أنفسنا ونذريها في الريح، نبددها في الهباء بكلمة منهم. لقد صنعنا هباء هائلاً من كلماتنا وسجالاتنا وشعاراتنا. هباء لا تتسع له هذه الأرض التي هي أضيق من امزجتنا وطباعنا. لقد تجاوزناها بمديحنا الكاذب الذي لم يكن سوى مديح لأنفسنا. عبدناها وعبدنا فيها أنانياتنا ومطامعنا ونهمنا الذي لا يشبع. عبدناها وقدمنا لها انفسنا وأولادنا ذبيحة، وفي النهاية صنّمنا أنفسنا على المذبح وقدمنا لها قرابين أخرى من أولادنا وأحفادنا وأبناء أحفادنا إلى آخر السلسلة. لم تكن حرياتنا وحدها حمراء ولكن عبودياتنا أيضاً كانت دامية وكذلك كان جهلنا أحمر وغباؤنا أحمر وعصبياتنا حمراء وتقطر دماً. «وطن دعائمه الجماجم والدم» ولكن دعائمه أيضاً، المخطوفون والمغيبون إلى الأبد ودعائمه أيضاً الأيدي والأرجل المقطوعة والألسنة المقطوعة والأطفال المخنوقون على ابتساماتهم والمقابر الجماعية والعائلات المستأصلة. ويبقى السؤال هل نحن موجودون حقاً أم هي المذبحة، هل سوى العار دليل على وجودنا. أم انها الاكاذيب التي تداولناها تشهد لنا، وجدنا كما توجد الشائعات وانتشرنا مثلها، تضخمنا كفقاعات ملونة وحين ننفجر في الهواء لن يكون عندنا ما نتركه أو ما يدل علينا.
نسأل كل يوم متى الحرب، ويُقال لا نريدها لكننا لها، ويقال لا نريدها ولكننا نعيش في القفص ولا ندري متى تشب فيه النار. ويقال (ب) لا تقدر و(س) لا تريد وهذا ما يبقينا أحياء في القفص وما يبقي القفص مطبقاً. ويل لنا إذا قدرت (ب) أو أرادت (س)، وإذا لم تقدر هذه ولم ترد تلك فخير لنا أن نظل في القفص وأن يظل خيارنا واحداً: القفص أم الحرب. فئران في القفص وقرابين في الحرب ويقال غضّ طرفك ولا تحلم بحياة أفسح ولا بموت أقل فجائعية.
العالم كبير ونحن ضئال وبلدنا عرض إصبعين، وقلنا من هذا الشبر خرجت الأبجدية وقلنا من هذا الشبر انطلقت الآلهة وتكوكبت العظمات وتمجّدت القرابين وانقبلت الذبيحة. هنا أحرقت مدينة نفسها لتترك للعدو رمادها وحطامها ومن هنا تسمت أوروبا وتسمى الغرب. إنه الشبر التوراتي وجدير به ان يبقى شعلة للعالم فيكون تارة مثال الديموقراطية في الشرق ويكون طوراً مثال التحرير في العالم الثالث. ويكون تارات أخرى أباً للهجرات التي نورت العالم. سنعيدها بالطبع فنحترق لنشع ونحمل رسالة الغرب إلى الأمم ونعلّم الشرق مبادئ الثورة الفرنسية، نعيدها مرة أخرى فيكون البلد الصغير نبراس الشعوب وشعلة العالم.
اما ان البلد الصغير أهدر دماء تكفي لقارة وأهدر أموالاً تكفي لجنة وظل يهذي بالمثالات الكبرى، وهو كما هو. تستلمه حرب أهلية لتسلمه إلى حرب أهلية، ويسيل دمه سخياً تحت ثالوث العظمات وبالطبع سينتشر مستنقع الكلام حيث نهر الدم، وستعشش جرثومة الكره وقتل الأخوة في جسم المثالات والمبادئ العليا. ستكون الحرب للضجرانين من الركود هي المخرج: القفص أم الحرب وللمساجين في القفص تبدو الحرب هي الحرية، الحرب بكل الأشكال سواء بالقتال الفعلي أم بقعقعة السلاح أم بالتهديد الحربي، ستكون الحرب هي أيضاً ساحة الشرق كما ستكون الانقلاب على المعادلات الراكدة والخروج من الهمود.
نحن هنا مع ذلك في معركتنا الكونية نقود العالم بدون أن نسيّر حالنا، ونعلّم الأمم ونبني المثالات بدون أن نتلاقى بعضنا مع بعض، وبدون ان نتصافح، وبدون أن نصبح شعباً أو دولة أو نظاماً وبدون أن نتصالح أو نتفق. سنكون رأس العالم بدون أن نكون نحن وبدون أن نجد أنفسنا.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى