تذكير ببؤس مقيم
حسام عيتاني
تقرير هيئة الإذاعة الكندية «سي بي سي» المنشور أمس يعيد التحقيق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري إلى المربع الأول.
فالمعلومات التي نشرتها الهيئة (وقالت صحيفة «واشنطن بوست» انها اطلعت عليها قبل كشفها)، تُظهر الأجواء المحيطة بلجنة التحقيق الدولية الخاصة في اغتيال الحريري. وكفيلم أسود عن عصابات الجريمة المنظمة، تظهر الشكوك لتحيط بأسماء كانت فوق الشبهات، وبتصفيات مساهمين رئيسين في التحقيق وإساءة التعامل مع أدلة.
وإذا صح جزء يسير مما نشر، والذي رفض جميع المعنيين التعليق عليه، نكون أمام حالة اختراق واسعة النطاق لعمل اللجنة الدولية الخاصة. اختراق لا ريب في أن أكثر من طرف وجهاز يتشارك فيه، على ما يُفهم من الأسماء المتداولة. ويبرر التقرير الشبهات التي أعلنها «حزب الله» وحلفاؤه في شأن تسرب معلومات التحقيق. لكن شبهة الحزب بانتقال المعلومات إلى إسرائيل ليست هي ما يسلط التقرير الضوء عليه، بل يقول بوضوح إن جهات عدة تتلاعب بالأدلة وتُبعد بواسطة القتل من ينجز تقدماً على طريق الحقيقة، على نحو ما جرى مع النقيب وسام عيد.
المغزى المباشر لهذه الوقائع (إن صدق التقرير الكندي، مرة ثانية) هو أن المحكمة الدولية تواجه مقاومة شرسة، من داخل أجهزتها ومن خارجها، لسير التحقيق وحياده وموضوعيته، وأن من يعرقل تقدم المحكمة يمتلك من الأدوات والأوراق ما يتيح له الوصول إلى معلومات تفصيلية من نوع التي وضعها النقيب عيد.
يعني البناء على ذلك أن المهمة الأبرز للمحكمة الدولية، والمتمثلة بوقف الاغتيالات ومنعها من الاستمرار كوسيلة لصوغ الحياة السياسية والعامة في لبنان، هي التي تتعرض إلى الاختبار الأقسى. وأن حجم القوى الساعية إلى تعطيل المحكمة لا يتلخص بأفراد أو مجموعات صغيرة متطرفة. بل إننا أمام أجهزة منظمة وذات كفاءة عالية في العمل الاستخباري.
إذاً، تتضح بفعل التقرير الإعلامي الكندي، حقيقة مرّة جديدة عن عمل المحكمة: إن من قاموا بالاغتيالات بين 2004 و2008، لم يوقفوا نشاطهم خشية الانكشاف والعقاب الذي تتوعدهم به العدالة الدولية، بل بسبب تغير الظروف التي كانت تدفعهم إلى اعتماد اسلوب الاغتيالات كجزء من العمل السياسي.
الأسوأ أن ما من ضمانة، بوجود لجنة التحقيق والمحكمة الدوليتين أو في غيابهما، بانتقال التخاطب السياسي في لبنان من لغة الاغتيالات والتهديدات بها، إلى لغة عمادها الكلمات، مهما كانت حادة وجارحة. وغني عن البيان أن التخلي عن الاغتيال يشكل خطوة أولى نحو بناء جسور بين فرقاء الصراع الأهلي المحتدم.
غير مهم في السياق هذا، اسم المتهم والمتدخل والمحرض. فأصحاب الأسماء قد تبرئهم المحاكم لنقص الأدلة. المهم أن ثقافة العداء للقانون والشعور بالأمان حيال انتهاكه، ثقافة عامة ومشتركة بين جميع اللبنانيين (وغيرهم من العرب، حكماً)، وأن ما من صوت يعلو فوق صوت العنف في حل كل المشكلات، كبيرها والصغير. وأن الملجأ الحقيقي للفرد والجماعة في بلادنا يبقى السلاح والقتل والثأر.
ينبئنا ما قالته هيئة الإذاعة الكندية بأن كل ما عُلِّق على نهاية زمن الاغتيالات والقتل السياسي، ما زال في طور الأوهام. واللبنانيون، وإن لم يكونوا في حاجة الى تقرير من بلاد بعيدة ليذكرهم ببؤس أحوالهم وأهوالها، يبدون، مع هذا التقرير، عاجزين أكثر فأكثر عن تغييرها نحو الأفضل.
الحياة