ماذا نفعل بالحقيقة والعدالة ؟
حسام عيتاني
قرائن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في شأن تورط «حزب الله» في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، تبدو مساوية في ضعفها لقرائن الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله عن مسؤولية إسرائيل عن الاغتيال.
اهتمام وسائل الإعلام بجوانب من تقرير هيئة الإذاعة الكندية «سي بي سي» قبل ايام، جاء على حساب جوانب أخرى. فالتركيز على اتهام مجموعة من «حزب الله» بالضلوع في الاغتيال وعدم تماسك حجة غياب العقيد وسام الحسن، أغفل ما أورده التقرير عن «ظرفية» الأدلة المستقاة من معطيات الاتصالات وعدم صمودها أمام أي محكمة. والأدهى هو تأكيد التقرير أن المحققين الدوليين لا يملكون أي دليل أو شهادة يركن إليهما، بعد خمسة أعوام من الجريمة وإنفاق ما يزيد على مئتي مليون دولار، وعن المستوى المتدني من الحرفية عند الأكثرية العظمى من العاملين في المحكمة وخصوصاً رؤساء لجنة التحقيق المتشاغلين برعاية الحساسيات السياسية اللبنانية بدلاً من العمل على جمع الأدلة والبراهين.
القارئ المتأني للتقرير الكندي لا يسعه تجاهله على الجملة، بحسب ما يرغب سياسيو فريق الرابع عشر من آذار (مارس). ومساسه بواحد من الحائزين على «الثقة التامة» لرئيس الوزراء، لا يعني رفض إدراجه ضمن قائمة طويلة من التسريبات الإعلامية عن مضمون القرار الظني المُنتظر من المحكمة، والتي تشكل العمود الفقري لمجمل النقاشات السياسية في لبنان هذه الأيام. ذاك أن السؤال يبدو من البداهة بمكان عن السبب الذي يجعل تقارير «دير شبيغل» و«لوفيغارو» و«لوموند» الحاملة اتهامات لـ «حزب الله» تدخل في رسم خطوط الانقسام السياسي، فيما ينبغي تجاهل تقارير تبدو مستندة إلى المصادر عينها، عندما توجه الشكوك صوب شخص من فريق الحريري؟
المنــقذ من ســذاجة الــسؤال أعـــلاه، ومـــا يعادله، يكــمن في الاعتراف بأن المعلومات الصحافية التي تَترى على المواطنين اللبنانيين منذ أكثر من عامين، هي جزء من الصــراع السياسي الداخلي والإقليمي حول المحكمة الخاصة والوسيلة الأنسب والأفعل لتطويعها واستغلالها. وأن إظهار معطيات وإخــفاء أخرى لا يزيد عن كونه جزءاً مكوناً من عملية إعداد الرأي العام لاستقبال ما يأتي. لا عجب في هذا ولا جدة.
وإذا أضيفت معلومات الهيئة الناظمة للاتصالات المعروضة في مؤتمر صحافي شارك فيه وزير الاتصالات، وتبين فيه أن شبكتي الهاتف اللبنانيتين، الخلوية والثابتة، تعصف فيهما التدخلات الإسرائيلية (وغيرها، بطبيعة الحال) عصف الرياح بشباك العنكبوت، لظهر أن كل ما سيقدمه المدعي العام في المحكمة الدولية في قراره الظني، قابل للطعن من أي محامٍ متدرج بذريعتي «الظرفية» التي أشارت إليها معلومات «سي بي سي» و «الاختراق» الاسرائيلي المتمادي الذي أقرت به الحكومة اللبنانية ممثلة بوزارة الاتصالات.
وبعد استبعاد «شهود الزور» والاتصالات، أي الملفين المعروفين والدائر في فلكيهما اهتمام متابعي شؤون المحكمة والعدالة والحقيقة، ينهض سؤال ممض عن الباقي في جعبة المحققين. الجواب المباشر هو أن التحقيق لم يتمكن من تجاوز الأدلة الظرفية – رغم أهميتها التي شدد عليها المدعي العام دانيال بلمار في مقابلة نُشرت قبل شهور قليلة – إلى البراهين القاطعة والأسماء الصريحة للمتهمين. هذا إذا سحب من الحساب وجود مفاجآت وأوراق مخفية تعيد خلط الأوراق، من الصنف الذي يُرضي هوس هواة الكتابات الأمنية. وتكفي الكلمات الواردة أعلاه، والمكررة بلا توقف منذ خمسة أعوام، لضمان ضحالة الخلفيات التي تأسس عليها الترويج للحقيقة والعدالة، كما «نقدهما». فالمروجون والنقاد ينتمون إلى مدرسة (ابتدائية) واحدة تلقوا فيها النظر إلى مصالح بلادهم وناسها.
جمعُ العناصر هذه، وافتراض صحتها، يفضيان إلى ظهور لوحة بلد مخترقة شبكات اتصالاته وأجهزته الأمنية وعلى وشك خسارة ما تبقى من سلمه الأهلي والتعرض في الوقت ذاته لعدوان خارجي مدمر (على ما يتوعد وزراء اسرائيل وقادة جيشها).
هزال المؤسسات وتفككها هو ما يواجه اللبنانيون به هذه الحقائق والأخطار. حتى ليبدو للناظر أن الحقيقة والعدالة ترف لا يجوز للبنان التطلع اليه قبل أن ينجز سلسلة طويلة من الخطوات الداخلية، يعجز عن مباشرتها في الأمد المنظور، لانطوائها، بدورها، على ما يكفي من الخطر المفضي إلى انهياره وتشرذمه طوائف ومناطق متناحرة. الساحة الأقرب لاندلاع الصراعات الأهلية هي الدولة بمعنى مجموعة الإدارات والمناصب والوظائف. ودورها بين اللبنانيين وفوقهم. وهذه ليست مفاهيم حقوقية ودستورية مجردة، بل ترتبط بوقائع اليوميات اللبنانية من تدهور أحوال الأمن بمعناه المباشر، إلى غيبوبة إدارات الدولة بإزاء ظواهر خطيرة كاحتباس الامطار وفقدان الغطاء النباتي في لبنان ومشكلات الطاقة، على سبيل المثال ومن دون التطرق إلى سيل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
ويقتضي الانصاف والدقة القول ان شبكات الاتصالات اللبنانية ليست فريدة في بابها. فكل الشبكات والبنى التحتية، من الطرقات والمواصلات والكهرباء، دفع اللبنانيون أثمانها ما يفوق قيمتها الحقيقية مرات في عمليات فساد واسعة ذهب قسم من ريوعها كرشى للفرقاء المحليين والأوصياء الإقليميين، في مسعى ساذج لإعادة إعمار بلاد لم تعرف من السلم الأهلي سوى وقف إطلاق نار هش ومتقطع.
لكن الأهم في ما تكشفه فصول التسريبات عن المحكمة الدولية ومنها، الاستنتاج بأن المحكمة قد أدت غرضها ولم يعد من معنى لانتظار قرارها الظني. وأي معنى للقرار إذا كانت «الحقيقة» تساوي استئناف الحرب الأهلية، إذا صدقت تهديدات المهددين، أو الإيغال في الفساد والتخبط والفوضى، إذا لم تصدق؟ وعندما تصل الأمور إلى هذا المستوى، تكون المحكمة الخاصة قد أصدرت حكمها المبرم وأعلنت أن الحقيقة هي لمن يستطيع الاستفادة منها وتنفيذها وإقرار العدالة. الفائدة تعني وجود أرض صالحة لتعميم العدالة على كل المواطنين. أما البلاد التي يخشى ابناؤها رؤية وجوههم في المرايا، فأفضل لهم البقاء في عتمة القتل والموت وإدارة شؤونهم كما تدار العصابات.
الحياة