صفحات ثقافية

مديح الكراهية”: إسلاميو سوريا والسلطة

null
خالد الحروب
مرة أخرى تتصدى الرواية لما يتردد النص السياسي في مواجهته: وهنا صراع الإسلاميين مع السلطة في سوريا في نهاية حقبة السبعينيات وبداية الثمانينيات. “مديح الكراهية” للروائي السوري خالد خليفة
والمنشورة في سوريا, والمُتضمنة في قائمة الأعمال الخمسة الأفضل في مسابقة جائزة “بوكر” العربية للرواية لهذا العام, هي نص مدهش ومبدع وجريء في آن معاً. مُدهش لبنائه الروائي المكثف, ولشخصياته محكمة البناء, ولجغرافيته الموغلة في محليتها (أزقة حلب وحاراتها) والموغلة في الآن ذاته في إنفكاكها من تلك المحلية (اليمن, أميركا, أفغانستان, لندن…), ولإقدام الروائي على مغامرة السرد على لسان أنثى هي الشخصية الرئيسية في الرواية, والتي لا نعرف لها اسماً, في كناية بالغة الدلالة. وهو نص مبدع لأنه يعيد إبداع المكان والزمان والحدث ويجرجر القارئ ليكون واحداً (أو بالأحرى واحدة) من نساء الرواية البائسات, ويغويه بلغة طافحة بالاستعارات رائقة التعبير. وهو نص جريء لأنه يتحدث عن أكثر الموضوعات حساسية في سوريا: عن عنف “الإخوان المسلمين” وعنف الدولة, وعن انحدار الصراع السياسي إلى صراع طائفي, عن الطائفة العلوية والطائفة السنية, عن سذاجة مشروع إقامة الدولة الإسلامية في سوريا وما جره من ويلات, وعن بطش السلطة وولعها بالدم البريء، وفساد “سرايا الدفاع” التي تولت مواجهة الإخوان آنذاك. جرأة خالد خليفة في التصدي لهذه الحساسيات تستحق التقدير, وكذا جرأة الناشر السوري، وكذا أيضاً جرأة الرقيب الرسمي السوري الذي سمح بتوزيع الرواية في الأسواق السورية.
يبدأ السرد على لسان بطلة الرواية وهي تصف لنا انتقالها للعيش مع خالاتها الثلاث في بيت جدها التقليدي في إحدى الحارات الحلبية. نساء الرواية هن بطلاتها, وبرغم أنهن الظلال الكابية في الحارة والمدينة, مقموعات من دون دراية بالعادات والتقاليد وما رسم لهن المجتمع من مسموحات وممنوعات. داخل جدران البيت تتوزع اهتماماتهن, منهن مريم المتدينة, ومنهن صفاء غير المتدينة التي لا تريد أن تموت عانساً, ومنهن مروة التي تتزوج وما تلبث أن تصير ضحية زوج يضربها ويحول حياتها إلى تعاسة فوق تعاسة. خارج البيت لا يتحركن إلا برفقة رضوان الضرير الذي أستخدمه الجد لرعاية البيت لقاء الإقامة فيه والتخلص من هم الاعتياش وتحصيل ما يستر. “نساء يقودهن أعمى” هو عنوان حياتهن, كما هو عنوان الفصل الأول في الرواية: واقع قاس وتوصيف لا يهادن. هكذا هي حياة أولئك النسوة. النشوة شبه الوحيدة هي في الزيارة الأسبوعية للحمام التركي, بقيادة رضوان الضرير الذي ينتظرهن على الباب. البيت هو الفضاء والسجن, وفيه تحيا الرغبات والحياة, وفيه كلها تموت. من هذا الواقع تخرج “البطلة” مثقلة بإحباطات تدركها ولا تدركها وتغريها في سني ثانويتها دعوات “الأخوات الإسلاميات” إلى الطهرانية والتطلع نحو إقامة دولة إسلامية في سوريا. تدخل بطلتنا في “التنظيم”, وتخرج من “الحياة” العادية والبسيطة التي كانت تعيشها بتلقائية مع خالاتها. مع دخولها التنظيم تدخل ما هو أخطر منه, تدخل إلى “عالم الكراهية”, كراهية “الطائفة الأخرى”, التي يأتي منها رجال النظام وعليها يعتمدون. تكتشف أن الكراهية هي عالمها وفضاؤها الجديد, منبع الطاقة الذي يمدها بالرغبة في الحياة, وفي التصميم على الهدف: الدولة الإسلامية التي ستجلب العدل والرخاء وتحقق وعد الله على الأرض. تتمدد الكراهية لتصبح الهواء الذي تتنفسه والعيون التي ترى بها الأشياء: تكره كل ما قد يحول دونها وتحقيق الهدف الغالي, فتكره صديقاتها في المدرسة “المتحللات” البعيدات عن الالتزام الديني.
في وسط صخب الصراع الدموي بين الدولة وخصومها, وعلى أشلاء ألوف الضحايا الأبرياء الممزقة أجسادهم بالقنابل والرصاص من الطرفين, “عالم الكراهية” هو الذي يقود أيضاً أجهزة الأمن والدولة إزاء “الفئة المارقة” و”عملاء الإمبريالية” وإزاء “طائفتهم” كلها. على الطرفين ينتشي “مديح الكراهية” الذي يحظر رؤية إيجابية ولو واحدة, أو فرداً طيباً ولو واحداً عند الطرف الآخر. إن برز صوت عاقل يريد أن يكافح التعميم ويواجه الكراهية يقتله رصاص رفاقه, لأنه أصبح رخواً في “كراهيته”.
في وسط هذه الكراهية وحروبها والدماء النازفة على جدران البيوت يصر خالد خليفة على زرع قنبلة حب موقوتة في قلبها: مروة إحدى الخالات تقع في حب نذير الضابط العلوي الذي يترأس فرقة تفتيش البيت من وقت لآخر بحثاً عن حسام شقيق البطلة والذي يكون عضواً فاعلاً ومقاتلاً في “التنظيم”. يتطور الحب شبه المستحيل على الضد من الكراهيات المتبادلة بين “الطائفتين”: التنظيم يصدر أوامر لكل من حول مروة للإجهاز على “الحب الخياني”, وسرايا الموت تحاصر نذير وينتهي به المطاف مُقالاً مُبعداً عن منصبه. مروة ونذير يتزوجان في قلب صدام الكراهيات, إعلان تشبث دامع بوحدة الناس والوطن رغم جرائم السياسيين وتفتيتهم لما كان طوال قرون مُتعايشاً ومتناغماً.
يزداد دمار البلاد وعداد الموت يحصد الألوف تلو الألوف وتتصاعد الشكوك بجدوى الصراع وخطط “قيادات التنظيم”. بطلتنا ينالها من الشكوك ما ينالها ويبدأ عالم الكراهية حولها بالتفكك شيئاً فشيئاً. وعندما ينتهي بها المطاف في السجن, وتنقطع دراستها للطب في الجامعة, تكتشف عوالم أخرى: سجينات يساريات وجنائيات يصبحن أقرب صديقاتها. في السجن تبتعد أيضاً عن الحاجة سعاد مسؤولتها في التنظيم ورفيقتها في الزنزانة. في خارج السجن يُقتل أخوها حسام, ويتشتت أخوالها بين متصوف هارب من الواقع, إلى منخرط في التنظيم مُطارد, إلى ثالث متهتك يزايد في تهتكه ليثبت لأجهزة الأمن حسن سيرته من خلال عدم تدينه. أما خالتها صفاء فتكون قد تزوجت من عبدالله اليمني اليساري السابق المخذول من فشل الماركسية في اليمن الجنوبي والمتدين حديثاً والمنخرط في “الجهاد الأفغاني” على أعلى المستويات. هو الآخر يريد إقامة دولة إسلامية هناك. له علاقات وثيقة ومريبة بأميركيين وسعوديين يمولون “المجاهدين”.
قيادات التنظيم تتشتت ويهرب خالها بكر إلى لندن ليعمل على تقديم المساعدة من هناك. بعد خروجها من السجن تكون قلاع الكراهية حولها قد تفتتت. تخلت عن التزامها الديني وخلعت الحجاب. أكملت دراسة الطب, وصارت تترحم على أبيها الذي كانت قد كفرته نظراً لتسامحه مع أفراد الطائفة الأخرى. ينتهي بها المطاف في لندن. وهناك تستقبل من أفغانستان أحد الجرحى الشباب, وسام, ليتطبب من إصابة بليغة. شاب وسيم في أوائل العشرينيات, ما يلبث أن يموت, ثم يجهز نعشه على عجل ليرحّل إلى أفغانستان ويدفن في قندهار إلى جانب “إخوانه المجاهدين”. مع عودة النعش عادت صفاء خالتها وعاد زوجها عبدالله اليمني, بعد أن جاءا للندن بسبب إصابة عبدالله أيضاً وبتر ذراعه, لإكمال “المسيرة”. كانت بطلتنا وقد انقشعت عن عيونها غلالة الكراهية ترى في نجاة وسام لو أنه نجا من الجرح حلم اليقظة والتطلع نحو الخروج القاطع من الكراهية. لكنه مات. تذكرت لحظتها أنها ما زالت عذراء, وأنها كانت تتطلع إلى الخروج من عذريتها وتصبح امرأة كاملة الأنوثة والحياة. لكنها بقيت كما هي “سحلية دميمة وعذراء”, خلاصة المكان والزمان والكراهية التي أنتجتها. ولو نطقت من بين سطور النص الآن لما كانت راضية بهذا العرض المبتسر الذي لا يغني عن قراءة الصفحات الأربعمائة من روايتها التي تنز بالمرارة.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى