هذا الفصام الكردي المستمر…
ياسين الحاج صالح
إلى روح المرحوم اسماعيل عمر، أبو شيار
تساءل الصديق الشاب عما إذا كان حزب الوحدة الكردي في سوريا (يكيتي) “انفصاليا” أم عكس ذلك؟ سارع الشريك الكردي الوحيد في الأمسية إلى المشاغبة: انفصالي! قلت أنا مشفقاً إنه ليس كذلك. لكن ليست هذه هي الإجابة السليمة.
الواقع أن الأكراد السوريين جميعا “انفصاليون”. لدى جميعهم حلم قومي كردستاني، دولة كردية واحدة مستقلة وسيدة (وهم بهذا المعنى “وحدويون”… كردستانيون!). وإذ هم محرومون، خلافاً للعرب والترك والفرس، من دولة تخصهم، وإذ هم محرومون بدرجات متفاوتة أيضاً من المساواة الفردية والجمعية مع مواطني القوميات الأكبر في البلدان التي يتوزعون عليها (سوريا، العراق، تركيا، إيران)، فلن يستطيع أي قيادي كردي أن يتخلى عن الحلم الكردستاني مهما بدت فرص تحقيق هذا الحلم ضئيلة. من يفعل ذلك يخسر على المدى القريب (تتراجع شعبيته في الوسط الكردي)، وليس مؤكدا أنه سيكسب على المدى البعيد (تحقق المساواة الفردية والجمعية لقومه مع غيرهم). فلماذا يتخلى عن شيء يساهم اليوم في الحفاظ على الشخصية الكردية، ويمنحها عمقاً بشرياً ومعنوياً، ويقترح لها وعداً يشدّ من أزرها في الدفاع عن حقوقها وتطوير ثقافتها، وإن كان تحققه متعذراً؟ الواقع أن أهمية فكرة الدولة الكردية المستقلة تنبع بالضبط من بلورتها شخصية كردية متميزة، ومن صفتها كطموح قومي يرفع من اعتبار الكرد في عين أنفسهم أولاً، أكثر مما في الصفة العملية للفكرة. من دون حلم وتطلع مشترك لن ينالوا شيئاً، وإن لم يكن الحلم وحده كافياً لنيل أي شيء. ومن يدري، فقد يتحقق الحلم الكردستاني يوماً بطريقة ما، إن لم يكن بدولة قومية مستقلة، فعبر المساواة مع الآخرين، في ما وراء الدول القومية وبعدها.
الواقع أيضا أن جميع الأكراد غير “انفصاليين”. تجد النخب الكردية ذاتها ملزمة تطوير سياسات محلية تنصب على الحقوق الثقافية والاجتماعية والسياسية المتساوية في البلد الذي يعيشون فيه، سوريا في هذا السياق. مضطرون أن ينخرطوا في الحياة السياسية المحلية كسوريين وشركاء لمواطنيهم الآخرين ضمن كيان سياسي صلب، عاشت أجيال منهم فيه، ويحتمل أن تعيش فيه أجيال قادمة أيضاً. ولهم مصلحة أكيدة في العمل على تحويل الأوضاع العامة في البلاد في اتجاهات تعود بمزيد من الحريات والعدالة والمساواة على جميع السكان. من شأن الانشداد إلى الحلم القومي وحده (منفصلاً كحاله الآن عن أي ديناميات واقعية تقربه من التحقق)، أن يُفقِد النخب الكردية القدرة على التفاعل مع الواقع المعيش والتأثير عليه في اتجاهات أكثر عدالة، فضلاً عن الحرمان من شركاء محتملين من العرب، وغير الكرد عموماً. بل قد يكون الاقتصار الحصري على هذا الحلم غطاء لممارسات سياسية انتهازية، موجهة نحو الفوز بالشرعية في الوسط الكردي على حساب أطراف كرد آخرين، وهو ما يقترن عموماً بالمزايدة على هؤلاء الأطراف، وبالميل الانعزالي حيال البيئة العربية، من دون قدرة أكبر على التأثير في الواقع.
هذا أمر محقق، وهو يلقي ضوءاً على النزعة الانقسامية النشطة في الوسط الكردي التي تجد أصولها الأعمق في واقع الانسداد الذي تعيشه الحركات الكردية، والقضية الكردية عموماً. إذ تصطدم بجدار الدولة القائمة الصلب، والمكرس دولياً، وطوال أجيال، أي إذا لا تجد حلولاً عادلة لظلامة تاريخية لا شك فيها، تجد نفسها مسوقة نحو الانقسام أو حتى التحلل. حيال هذا المآل، يكون التمسك بالفكرة الكردستانية نهجاً لمقاومة التحلل. لا ينجح تماماً، لكنه مطلوب دوماً، ويشكل إطاراً لتوحد افتراضي.
هذه الجدلية تتحكم بالتنظيمات الكردية الكثيرة في سوريا. ومنها “حزب الوحدة الكردي في سوريا”، يكيتي، الذي توفي قائده اسماعيل عمر على نحو مفاجئ قبل أسابيع. تذكّرنا عبارة “في سوريا” بمعادلات لها في أسماء تنظيمات قومية عربية، تعتبر نفسها فروعاً محلية لتنظيم قومي أوسع، يفترض أن يعمّ “الوطن العربي” كله. عمل الحزب المشارك في “إعلان دمشق” على أن ينخرط في الحياة السياسية السورية (المعارضة طبعا)، وأن يكون له شركاء عرب، مع محافظته على اهتمام ثابت بالمجال الكردي العام، في العراق وتركيا بخاصة. ولقد كان ناجحاً في ذلك، الأمر الذي لا يعني بحال تجاوز شرط الفصام، لكون هذا بنيوياً وعميقاً، مكوّناً ثابتاً للثقافة وللشخصية الكردية المعاصرة.
ولكون الشروط القائمة في سوريا لا تكف عن توليد الفصام وتغذيته.
إن كون الكرد غير معترف بهم، أو معترفاً بهم اعترافاً لفظياً لا تترتب عليه وقائع سياسية وثقافية، يبقى الحلم الكردستاني حياً وجاذباً، لكن الشروط الواقعية تدفع نحو مراعاة الواقع الصلب القائم والبحث عما يمكن فعله فيه. وفي حزب “يكيتي” يبدو أن الفصام يظهر على شكل ازدواج في الخطاب: أكثر “سورية” عند القيادات، وأكثر كردستانية عند القواعد. الأمر مفهوم. القيادات أوثق صلة بالوقائع، فيما القواعد، الشابة عموماً، أوثق صلة بالمبادئ و”الطوبى”.
مبدئيا، هذه حال التنظيمات الكردية الأخرى جميعاً. غير أن تنظيمات أخرى تعالج الفصام الكردي بطريقة أخرى. ترفض، كما ذكرنا، الانخراط مع شركاء محليين، وتثبّت نظرها على الحلم الكردستاني. تعيش بالجسد هنا وبالفؤاد هناك. خيارها هذا يبدو بطولياً في الظاهر، لكنه قد يكون تسليمياً في الجوهر، ما دام عاجزاً عن ترجمة الحلم إلى استراتيجية عمل فعلية، وما دام انشداد ناظريه إلى الحلم يجعله منقطعاً عن التأثير في الواقع المعيش، وما دام أخيراً يخاصم أكراداً آخرين على خيارهم المغاير.
لكن لا وجه للاعتراض المبدئي على هذا الخيار. فهو، أكثر من غيره، يتغذى من السياسات الحكومية التي تكاد تنكر الوجود الكردي، وليس الحقوق الكردية وحدها.
الازدواج المتأصل في الوضع الكردي ينعكس في نبرة الناشط الكردي الغاضبة والعدائية أحياناً، لكن التي تصدر عن الحاجة إلى الاعتراف والاحترام، الفردي والقومي. ينعكس أيضاً في الشخصية الحساسة والقلقة للمناضل والمثقف الكردي. إن شعوره الذاتي بعدالة قضيته يدفعه إلى مخاصمة فورية لمن لا يشاركه اقتناعاته، لكنه أيضا لا يرتاح في عزلته عن الغير. فإذا شاركهم وتفاعل معهم، ظل واعياً بذاته، يسكنه شعور كثيف بوجود جدار خفي يفصله عنهم.
كعربي متضامن، لا تنقصه فصاماته الخاصة، ويدرك كم يستطيع هذا الشرط أن يكون شالاًّ وممزقاً، أتصور أن هناك معالجة ومزدوجة بدورها لهذه الوضع المزدوج. من ناحية القبول بالازدواج على نحو ما نقبل عاهةً ونواصل الحياة. هذا يعني أوسع انخراط في الحياة العامة في البلد، وأقوى تمسك بالحلم الكردستاني في آن واحد. يساعد في ذلك أن التعارض بين الأمرين ليس إلغائياً. أشرت فوق الى أن للحلم الكردستاني وظيفة تتمثل في بلورة الشخصية الكردية. الواقع أنه حلم مُعرِّف للكردي المعاصر بما هو كذلك. وتالياً تأسيسي ومحرر. إن كان ذلك صحيحاً، على ما أقدّر، كان هو ذاته من لوازم النضال المواطني. فرص فوز هذا النضال أكبر حين يستند إلى شخصية صلبة منه حين يكون بلا سند معنوي كهذا.
الحلم التأسيسي لا يحل مشكلات عملية، ما دام واقع الحرمان السيادي (من الدولة) والسياسي (من المواطنة والحريات) قائماً. لكنه مصدر للطاقة في مواجهتها. إن طلب المساواة الفردية والجمعية والقومية يُبقي الحق الكردي في الحلم حياً حتى لو تحققت أهداف النضال المواطني، وحتى لو نالوا كجماعة حقوقاً مساوية لغيرهم في سوريا وغيرها. فإما دولة مثل الجميع، وإما دولة للجميع. وإما لا دولة في عالم بلا دول.
الوجه الأخر للمعالجة المزدوجة هو الثقافة. يحول القصور الثقافي للبيئة الكردية، بدرجة تحاكي الوسط العربي وتفوقه، يحول بين المناضل والمثقف الكردي (وهما الشخص نفسه غالبا) وبين تحويل قلقه وفصامه إلى فكر وفن وثقافة أرفع، ما كان من شأنه أن يمنح معنى تاريخياً وإنسانياً لمعاناة الأجيال الحاضرة. لعل مأسوية وضع المثقف الكردي مضاعفة قياساً إلى نظيره العربي. فهو من ناحية يعاني من الاستلاب القومي بسبب الحرمان من دولة، وهو من ناحية أخرى يكتب بلغة غير لغته. هذا ليس لأنه لا يتقن لغته أو لا يكتب بها، بل لأنه يريد أن يَعرِف أكثر، وأن يُعرف ويُعترَف به أكثر، وأن يكسر جدار الإنكار المنصوب حول قومه وثقافته. قد ينجز أشياء مهمة، لكن بثمن الفصام المستمر.
مع ذلك فإن الثقافة هي المخرج الأرفع قيمة من هذا الوضع الشاق. ليست الإكسير الشافي للمرض الكردي، لكنها جهد موصول للسيطرة عليه، ومحاولة مستمرة للشفاء المحال منه. وبينما ليس من المتصور أن يكفّ الكردي يوماً عن النضال السياسي، فإن الثقافة يمكنها أن تكون سياسة أساسية أو تأسيسية في أوضاع عضالة كهذه التي يعيشها قومه. ولا ريب أن من شأنها أن تساعد الكرد في تحمل وضعهم، وإخراج شرطهم الممزق من المباشرة والمادية إلى الثقافة والمعنى. وبهذا تنقذ مساحة خاصة للروح، مستقلة وسيدة، مع كونها في الآن نفسه إنسانية وعامة ¶