صفحات ثقافية

عايدة الجوهري: في ما يتعدى السفور والحجاب

null
جميل قاسم
صدر الكتاب الجديد (الأول) «رمزية الحجاب» ـ مفاهيم ودلالات ـ للكاتبة اللبنانية عايدة الجوهري بعد طول «احتجاب» ـ بالرغم من غزارة مقالاتها في الصحف العربية ـ وذلك في تناولها لإشكالية «السفور والحجاب» عند الكاتبة النهضوية نظيرة زين الدين، بخاصة، والمرأة اللبنانية والعربية، بعامة.
تبحث د. عايدة الجوهري في كتابها الصادر عن «مركز دراسات الوحدة العربية» عن المفكر فيه واللامفكر فيه في إشكالية الحجاب من زاوية علم الجندر (الجنوسة)، وثمة سؤال نقدي هام يمثل المنطلق في معالجة الكاتبة لهذه الإشكالية القديمة ـ المحدثة، تأنيث وتذكير الأخلاق: فهل يمكن تأنيث وتذكير الأخلاق والقيمة والفضيلة؟
صدر كتاب «السفور والحجاب» للكاتبة نظيرة زين الدين في العام 1928 ـ بعد ثلاث سنوات على صدور كتاب علي عبد الرازق «الاسلام وأصول والحكم» في مصر ـ وقد تجرأت امرأة لبنانية في العشرين من عمرها على التمرد في حينه على الحجاب ـ كوسم جندري جنساني أكثر منه وسما ايديولوجيا ـ في مواجهة ما زالت المرأة العربية تواجه مثلها ـ اليوم ـ في بدايات القرن الحادي والعشرين.
ولم تقتصر مغامرة ومجازفة الكاتبة النهضوية على إصدار كتاب «السفور والحجاب» في المناخ الحضاري والثقافي المحافظ لبدايات القرن العشرين، بل ردت في كتاب آخر أسمته «الفتاة والشيوخ»، على ناقدين شيوخ محافظين من أمثال عالم الدين واللغة الشيخ مصطفى الغلاييني، في دفاعها عن الحق بالسفور كاختيار شخصي، وقد وعت وفهمت الحجاب ليس كخيار جندري محض وانما كاختيار له مضامين حضارية وثقافية تجعل من امرأة سافرة ـ مثلا ـ محجبة بمعنى ما كما تجعل من امرأة محجبة سافرة في انطلاقها، وتحررها الذهني والروحي والحضاري ـ والعكس بالعكس ـ ما أهمية نظيرة زين الدين ككاتبة وداعية الى تحرير المرأة، ظهرت وبرزت بعد قاسم أمين صاحب «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، وزينب فواز صاحبة «الرسائل الزينبية»؟ ترى الدكتورة عايدة الجوهري ـ وهي مختصة بعلم الاجتماع ـ أن أحداً في لبنان لم يقم بتفكيك الخطاب الذكوري السائد والقيم الذكورية كما فعلت الكاتبة النهضوية التي أظهرت موقف الرجل الملتبس والمزدوج تجاه الحداثة، في رفضه تحديث علاقاته الأسرية وعلاقته بالمرأة، ولجوئه الى تزييف دلالات النص التراثي لتبرير هيمنته، كما انها فضحت رياء الخطاب الذكوري الذي لا يطابق القول فيه الفعل، والفكر القول، وجعلت من اشكالية فرض الحجاب حجابا للانسان الذكر أسوة «بالمرأة الأنثى»! لم تنتظر نظيرة زين الدين ولم يقتصر موقفها على التنظير بل وقفت في بداية القرن الفائت وأعلنت اختيارها السفور ـ بمساندة والدها المتنور ـ معلنة «أن السفور موقف شخصاني وأخلاقي لا يقل أهمية وقيمة واحتشاما عن الحجاب، بل قد يكون الشعور أدعى وأقوى لتأكيد انسانية المرأة من الحجاب، كزي، ونمط حياة جندري يجعل المرأة «حُرمة» في عالم النساء «المخدرات» في خدور الحريم. كان الحجاب الذي فرضه المجتمع ـ باسم الدين والحلال والحرام ـ على النساء المسلمات (كرمز للقهر الشرقي في نظرة الغرب، ورمز للاستبداد السياسي والاجتماعي في نظر النهضويين) متداخلاً بالمشكلات السياسية والوطنية ومناهضة الاستعمار. وقد عاد الحجاب في نهاية القرن العشرين في مصر والجزائر وسوريا ولبنان، في ظل أجواء الهزائم، بدءاً من نكبة ,1948 مروراً بهزيمة ,1967 الأمر الذي يؤكد بنظر الكاتبة تعالق التحرر النسوي بالتحرر الكوني العام: تحرير الإنسان.
غير أن الكاتبة، كما يلاحظ المرء بعد طول تأمل، تنغمس في لعبة جندرية معكوسة ـ وقعت فيها قبلاً كاتبات نسويات كنوال السعداوي صاحبة «الأنثى هي الأصل»، تقوم على المفاضلة الجندرية بين الرجل والمرأة. مع ان النقد الاشتراكي لكاتب نهضوي كسلامة موسى تأثر بهنرييك إبسن وكتابه «بيت الدمية» دعا في الأربعينيات من القرن العشرين الى «تحرير المرأة» حتى من النزعات النسوية التي تشدد على «تحريرها» الفردي فتحولها في الأفق الليبرالي، او النيو ـ ليبرالي الى امرأة ـ دمية، بلا منظور ولا شخصية، ولا هوية أصيلة (أنظر سلامة موسى: «المرأة ليست لعبة الرجل»، و«افتحوا لها الباب»). تفسر الكاتبة الجوهري ردود الفعل العنيفة على طروحات نظيرة المشاريع الوطنية والتحررية وصعود التيار الأصولي (الذي ارتد على خطاب تحرير المرأة «خوفاً من بدايات التحول العميق في الأدوار الجندرية وفي هوية الجنسين الاجتماعية» (كذا) مأخوذة هي نفسها ـ كهدى شعراوي وزميلاتها بنماذج تطور المرأة الغربية. لكن السؤال المطروح يظل قائماً: أي مرأة؟ ـ وأي رجل هل هي المرأة «البورجوازية»، أم «الاشتراكية» الجديدة؟ ومن الواضح ان ما تركز عليه الكاتبة كحل وخيار هو الحل الفردوي، وهي ترى ان نظيرة زين الدين تجاوزت اشكالية الحجاب، ببعده الديني، مشروعيته او عدم مشروعيته الى المضمر والمسكوت عنه: الى العقلية الذكورية، والى مجمل البنى السياسية والاجتماعية التي لا تفقد ديناميتها مع الحجاب او دونه (فرض او رفض الحجاب)! غير ان هذا الكلام عن التوجه الجندري (الجنوسي) عند نظيرة زين الدين يتناقض مع موقف الكاتبة النهضوية من العلاقة مع الدين. وتقول الكاتبة بأن الكاتبة زين الدين كانت اول لبنانية وعربية تخصص كتابا لهذا الموضوع، معتمدة منهجا علميا متكاملا بأدوات واضحة، تقوم على أسس التفسير الفقهي» وترتكز على «مرجعيتي التراث والكتاب والسنة» من جهة، وقيم الحداثة وحقوق الانسان والديموقراطية من جهة أخرى، وهي تقر ايضا بأن نظيرة زين الدين بدل ان تجد تناقضا بين الصيغة التراثية والحداثة سعت الى حل هذا التناقض بتأصيل مفاهيم حداثية (ص227) الا يتناقض هذا القول مع الادعاء بأن نظيرة اتخذت مواقف جندرية مناوئة للعقلية الذكورية؟
والحقيقة ان توجه الكاتبة زين الدين الانساني يشبه موقف مي زيادة التي تتميز كتاباتها ـ كما تقول الكاتبة الجوهري ـ باللياقة ومراعاة التقاليد (ص27).
وبالرغم من انها تستشهد بكتّاب أكدوا على تحرر المرأة في منظور اجتماعي او «اشتراكي» (هشام شرابي مثلا) فان الكاتبة ترفض المنظور ـ الانسانوي ـ على حد تعبيرها وتركز على قضية «الديموقراطية النسوية» باعتبار المسألة النسوية هي «الدرع الواقي» للمجتمع الأبوي (البطركي). والتحرر من منظوره ـ ليس عمودياً ـ بل أفقي، وما دام المجتمع لا يعترف بالنساء كنساء فلماذا لا يتساوون في ما بينهم بقوانين خاصة بهم؟ هل كانت نظيرة زين مناضلة نسوية؟ ام كاتبة إنسانية تحررية؟ الأرجح ان د. عايدة الجوهري تسقط موقفها الجندري، هي، على موقف نظيرة زين الدين الإنساني.
هل قامت نظيرة زين الدين ـ كما تقول الكاتبة ـ بتفكيك النص التراثي ونصوص التقليديين بأدوات غير ذكورية وخاطبت العقل ومست رأسمال الجماعة اللغوي، وهو رأس مال ذكوري وهذا ما ترفضه الذهنية الذكورية التي تخشى أي تعديل في علاقات القوة المستندة الى النصوص المقدسة؟! ومن الواضح ان تحليل الكاتبة المؤرخة يعتمد على ثنائية الذكر والانثى الرجل والمرأة في موقف جندري «لاحق» على موقف الكاتبة النهضوية.
والسؤال المطروح والمؤرق: كيف تفسر الكاتبة عايدة الجوهري ظاهرة التحجب الاختياري في تركيا، التي دشنتها نائبة تركية قبل وصول «الاسلاميين الديموقراطيين» (حزب الرفاه) الى السلطة. وكيف نفسر وجود أساتذة جامعيات، وفنانات تشكيليات محجبات (باختيارهن) كما نجد بعض مشايخ الفرق الصوفية في لبنان من المتصوفات «سافرات» دون ان تتعرض اذواقهن لاشكالية السفور والحجاب، وإنما لاشكالية الهوية، والاختيار الجمالي والروحي والأخلاقي؟
باسم الحداثة تتحول المرأة الى «خنثى»، او بالأحرى امرأة ذكورية مناوئة للذكورية: الا يكون الحداثوي ـ او الحداثوية ـ ههنا، هو التقليدي في عصر ما بعد الحداثة الذي صار يقرن الحداثة بالقيمة والمعنى والأخلاق والأصالة والفضيلة؟!
ـ عايدة الجوهري ـ «رمزية الحجاب» ـ منشورات مركز دراسات الوحدة العربية ـ 2008
استاذ جامعي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى