الصدام بين الثقافة والثقافة أصبحت صراعاً عالمياً
سمير الزبن
يدور في السنوات الأخيرة جدال متشعب ومتعدد المستويات حول مكانة الثقافة ودورها في الصراعات والحروب، ويدور الحديث عن صراع الحضارات وصراع الثقافات، وتتفاوت الإجابات عن هذه القضايا الشائكة، وكتاب “فكرة الثقافة” لتيري أيغلتون يأتي ليدخل مباشرة في قلب هذا الصراع.
يفتتح أيغلتون كتابه بما يُقال عن أن كلمة Culture “الثقافة” هي واحدة من كلمتين أو ثلاث يكتنفها أشد الغموض في اللغة الإنكليزية. والكلمة التي تفوقها غموضاً، هي مقابلها أو ضدها Nature “الطبيعة” التي تعتبر الأعقد بين كل الكلمات. وإذا كانت الطبيعة ثقافية على الدوام بمعنى ما، فإن الثقافات مبنية من ذلك التبادل الدائم مع الطبيعة الذي ندعوه العمل. وإذا كانت الثقافة في الأصل تعني رعاية النمو الطبيعي، فإنها تشير إذاً الى كل من التنظيم والنمو العفوي معاً. فالثقافي هو ما يمكن أن نغيّره، وما يشتمل أيضاً على ضرب من التفاعل بين ما هو منظم وما هو غير ذلك، إن الثقافة مسألة اتباع للقواعد. ذلك أن اتباع قاعدة أمر يختلف عن إطاعة قانون فيزيائي والخضوع له، حيث ينطوي اتباع قاعدة ما على فكرة التطبيق الخلاق لهذه القاعدة. وتشير فكرة الثقافة حسب أيغلتون، الى نوع من الرفض المزدوج؛ للحتمية العضوية من جهة، ولاستقلال الروح من جهة ثانية. فهي ترفض كلاً من الطبيعة والمثالية، مُلحة إزاء الأولى على أن في الطبيعة ما يتخطاها وينقضها، وإزاء الثانية على أن للقوة البشرية وما تتسم به من عقل رفيع جذوراً وضيعة تمتد في بيولوجيتنا وبيئتنا الطبيعية. ومما يتصل بهذا الرفض المزدوج لكل من الطبيعة والمثالية، واقعة أن الثقافة يمكن أن تكون حداً وصفياً وتقويمياً على السواء، مشيرة الى ما قد تطوّر أو حدث بالفعل وإلى ما ينبغي أن يتطور أو يحدث أيضاً. وما تفعله الثقافة، هو أن تُقطّر إنسانيتنا المشتركة من ذواتنا السياسية المنضوية في نحل وشيع، حيث تسترد الروح من الحواس، وتنتزع الثابت من الزائل، وتقطف الوحدة من التعدد. فهي تشير الى ضرب من انقسام على الذات، كما تشير الى ضرب من شفاء الذات لا يلغي ذواتنا الدنيوية النكدة، وإنما يصقلها من الداخل بنوع من الإنسانية المثالية. وإذا كانت كلمة “الثقافة” نصاً تاريخياً وفلسفياً، فهي أيضاً محل صراع سياسي ويستشهد بريموند وليامز الذي يقول: إن المعاني المتشابكة المعقدة التي ينطوي عليها المصطلح، تشير الى سجال متشابك ومعقد بشأن العلاقات التي تربط بين الإنساني العام وطريقة حياة محددة، وبين كليهما من جهة أولى وأعمال وممارسات الفن والذكاء من جهة أخرى. ويعتبر أيغلتون الثقافة كانت ولا تزال محتفظة بمكانتها، غير أن هذه المكانة تتحدد، مع تكشف العصر الحديث مزيداً من التكشف، بكونها إما في موقع المعارضة وإما موقع التابع والملحق. فقد كان على الثقافة أن تغدو شكلاً من النقد السياسي أو أن تكون ذلك النطاق الحصين الذي يمكن للمرء فيه أن يصرّف جميع الطاقات التي تُحتمل أن تكون هدامة. ويرى، أن فكرتنا عن الثقافة تقوم على اغتراب حديث لما هو اجتماعي عما هو اقتصادي، وللمعنى عن الحياة المادية. ومثل هذا التباعد والإقصاء بين الثقافة وإعادة الإنتاج المادية لا يمكن أن يحدث إلا في مجتمع يبدو وجوده اليومي خالياً من القيمة، ومن ثم فإن هذه الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها لمفهوم الثقافة أن يغدو نقداً للحياة.
تصوران
يعتبر أيغلتون أن الثقافة في أزمة، وأننا عالقون في هذه اللحظة بين تصورين للثقافة، أولهما واسع وفضفاض الى درجة العجز، وثانيهما صارم وصلب الى درجة الإزعاج، وأن ما نحتاجه أشد الاحتياج هو تخطي هذين التصورين. وأن الصراع بين المعنى الواسع للثقافة ومعناها الضيّق، أسفر عنه تصوراً محلياً ومحدوداً جداً للثقافة راح ينتشر في جميع الأرجاء. وبناء على هذه المحلية المغرقة التي أسفر عنها الصراع بين مفهومي الثقافة ينتقد أيغلتون الثقافة الغربية ويعتبرها تستحق التوبيخ في تخيّل الثقافات الأخرى، فقد أخفقت هذه الثقافة وعجزت عن تصوّر أشكال حياتية تختلف جذرياً عن حياة الغرب.
كما يعتبر أيغلتون أن الصداع بين الثقافة والثقافة لم يعد معركة تعاريف وحسب، وإنما أصبحت صراعاً عالمياً. وهو مسألة سياسات فعلية، لا سياسات أكاديمية فحسب. بل هو جزء من صورة السياسة العالمية في الألفية الجديدة. وحروبنا الثقافية مثلثة الأطراف، فهي تجري بين الثقافة بوصفها كياسة، والثقافة بوصفها هوية، والثقافة بوصفها تجارية أو ما بعد حديثة. ويعتبر أنه كلما تعاظم تصدير الثقافة ما بعد الحديثة الى العالم ما بعد الكولونيالي، كلما أضرمت لهب الخصوصية الثقافية هناك، في نوع من ردّة الفعل.
ما الذي نحتاجه اليوم للخروج مما نحن فيه؟ حسب أيغلتون إننا يجب أن نسير “نحو ثقافة مشتركة”، ولا يشك بأن ادراج موضوع الثقافة في جدول أعمال عصرنا بمثل هذا الإلحاح الشديد كان صناعة الثقافة؛ أي واقعة أن الثقافة قد غدت الآن، في تطور تاريخي تال للحر، حبيسة سيرورة من الإنتاج السلعي بكل ما تعنيه كلمة حبيسة. ويختم أيغلتون كتابه بالقول: ليست الثقافة ما نحيا به وحسب. فهي أيضاً ما نحيا لأجله… غير أن من الممكن للثقافة أيضاً أن تكون مخيفة ومرعبة. بل أن حميميتها ذاتها قد تغدو مرضاً ووسواساً ما لم توضع في سياق سياسي مستنير، سياق يمكن أن يلطف هذه الأشياء العاجلة والملحة بأشكال من الانتماء أشد تجريداً، غير أنها أيضاً أشد سخاء وسماحة. ولقد رأينا كيف اكتسبت الثقافة أهمية سياسية جديدة. غير أنها غدت في الوقت ذاته أبعد عن التواضع وأقرب الى الغطرسة. ولقد حان الوقت، ونحن نعترف بأهميتها، أن نعيدها الى مكانها المناسب.
الكتاب: فكرة الثقافة
المؤلف: تيري أيغلتون
ترجمة: ثائر ديب
إصدار: دار الحوار