محنة العقلانية العربيّة المبكّرة: تكفير ابن باجة ومقتله
فريد العليبي
عند الحديث عن محنة العقلانية العربية المبكّرة نستحضر غالبا اسم ابن رشد، فقد كانت محنته مدوّية، غير أن هناك محنا كثيرة أبتلي بها العقلانيون العرب الأوائل، ويمكن القول إنّ محنة ابن رشد كانت نقطة الذروة في سلسلة المحن التي أصابت الفلسفة العقلانية في ديار العرب.
وقد كتبنا في الأوان عن محنة ابن رشد، نبتغي هنا إلقاء بعض الضوء على محنة ابن باجة، فبسبب قلة اهتمام الباحثين بها فإنها بقيت في العتمة فيما اشتهرت محنة ابن رشد وذاع خبرها، ونحن نرى أن المساهمة بقسط في إنارة هذا الجانب المهم من جوانب الفلسفة العربية، يمكّن من الإلمام بفصل آخر من فصول اضطهاد الفكر العقلاني في البلاد العربية. وبالتالي إدراك أن التكفير الراهن في الحياة الفكرية العربية ليس صاعقة في سماء صافية، فهو يعود بجذوره إلى بحيرة راكدة، يستمد منها مياهه الآسنة.
تفيدنا بعض المصادر الإخبارية بما تعرض له ابن باجة على يد أعداء الفلسفة العقلانية، فقد عقدوا العزم على إلحاق الأذى به كرّة تلو الكرّة، يقول عنه ابن أبي أصيبعة :” بلي بمحن كثيرة وشناعات من العوام وقصدوا هلاكه مرات ” ابن أبي أصيبعة، طبقات الأطباء.
وفضلا عن هذا يكشف لنا ما كتبه بخصوصه الفتح بن خاقان في قلائد العقيان، عن المناخ المعادي للعقل والتعقل، الذي أحاط بتشكّل فلسفته، كما أنه يفصح عن وجه من وجوه محنته، حيث نقف على اتهامه من زاوية دينية بالكفر والإلحاد وإيذاء الدين، فهو بحسب عباراته “رمد جفن الدين”، مما يعني أنه أشبه بوباء ملعون يجب التوقي منه، والحذر ممّن أصيبوا به تجنبا للعدوى. وتتالى تهمه ضده على نحو لا يترك أي مجال لإمكانية الرأفة به، فهو مجرم تجاسر على الله، فوجب إنزال القصاص به، إذ “لا أقرّ بباريه ومصوّره… ورفض كتاب الله الحكيم العليم… وأراد إبطال ما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه…. واجترم على الله اللطيف الخبير… قد محي الإيمان من قلبه… وانتمت نفسه إلى الضلال وانتسبت… ولا يؤمن بشئ قادنا إلى الله في أسلس مقاد”. وبما أن هذه التهم قد تفندها الوقائع فإن ابن خاقان يستبق ذلك بتنبيه الناس إلى عدم تصديق ابن باجه، حتى إن أفصح عن ورعه الديني بأغلظ الأيمان، لأنه منافق خطير، يخفي آراءه ومواقفه، ويمارس التقية.
ومثلما سيرد لاحقا في بيان تحريم الفلسفة، الذي حبره كاتب الأمير الموحدي أبو يوسف يعقوب بمناسبة تكفير ابن رشد، يتضمن مقال ابن خاقان حشدا من الآيات الموظفة ضد ابن باجة، والواضح أنه يستهدف هنا بشكل خاص تأليب السلطة الدينية ضد فيلسوفنا.
ومن زاوية الأخلاق فإن ابن باجة بحسب صاحب قلائد العقيان شخص متهور ” اشتهر سخفا وجنونا…. لا يأخذ في غير الأباطيل ” مقبل على اللهو و الطرب ويتعاطى الموسيقى، و”يعكف على سماع التلاحين”، ويعلّم القيان فنّ الشعر والغناء.
وبالفعل فقد كان ابن باجة موسيقيا بارعا، وقد كتب مقالة في الموسيقى وينسب إليه غارسيا غوماز الفضل في إنشاء فنّ الزجل، وهذا من المآثر التي تحسب له، وهو ما أدركه ابن خلدون الذي يقول عنه : “الحكيم أبو بكر بن باجة صاحب التلاحين المعروفة، ومن الحكايات المشهورة أنه حضر مجلس مخدومه ابن تفلويت صاحب سرقسطة فألقي على بعض قيناته موشحته :
جرّر الذيل أيّما جرّ وصل الشكر منك بالشكر
فطرب الممدوح لذلك لما ختمها بقوله :
عقد الله راية النصر لأمير العلا أبي بكــــــــر
فلما طرق ذلك التلحين سمع ابن تفلويت صاح : واطرباه، وشقّ ثيابه، وقال ما أحسن ما بدأت وختمت، وحلف بالأيمان المغلظة ألا يمشي ابن باجة إلى داره إلا على الذهب، فخاف الحكيم سوء العاقبة، فاحتال بأن جعل ذهبا في نعله ومشى عليه ” ابن خلدون، المقدمة.
غير أن ابن خاقان كان يريد أن يرى ما يراه هو فقط، حتى أنه في تشنيعه بابن باجة بلغ حد العزف على وتر المثلية الجنسية، فقد زعم أنه قد تغنى في شعره “بعبد حبشي كان يهواه “، ولا شك أنه يود بذلك ألا يترك مرة أخرى أي مجال يمكن النفاذ منه لكي نغفر لابن باجة زلاته المزعومة، فهو فضلا عن كفره الصريح واشتغاله بالموسيقى مثليّ جنسيا. وإذا عرفنا ردّ الفعل المعروف ضدّ من تثبت عليه مثل هذه التهم، اتضح لنا أننا أمام دعوة صريحة للفتك بابن باجة. ويتعلق الأمر هنا رئيسيا بتحريض العامة على استباحة دمه، وربما لاقت دعوته هذه استجابة من لدن العامة، وهو ما لفت ابن أبي أصيبعة الانتباه إليه كما مر ذكره.
ولا يغفل ابن خاقان عن شحن السلطة السياسية ضد فيلسوفنا، فيتهمه بأنه كان يمدح الأمراء ثم ينقلب عليهم، فأوقع في حباله بعضهم، فكانت الكوارث التي جلبها عليهم، من ذلك ما كان من أمر ابن تفلويت الذي اغترّ به فوزّره، وكان بلاطه منسجما ودولته قوية يهابها الأعداء، فأعمل ابن باجة بينهم النميمة والوقيعة، فوغرت صدورهم على بعضهم البعض، فتفرق شملهم ووهنت الدولة، وتمكّن منها أعداؤها، فلما رأي ابن باجة ما حاق بمدينة سرقسطة التي كان ابن تفلويت حاكما عليها نأي بنفسه، وقال لا ناقة لي ولا جمل فيها فغادرها. غير أن البعض الآخر انتبه إلى أفاعيله، فوضعه في السجن، وهو ما امتدحه ابن خاقان، في إشارة إلى أبي اسحاق ابراهيم بن يوسف بن تاشفين، الأمير المرابطي الذي أمر باعتقال ابن باجة “فشفى الدين من آلامه”.
ويصل التشنيع بابن باجة حد وصفه بالقذارة، فـ”ما تطهّر من جنابة ” و”لا استنجى من حدث”، وبلغت تلك القذارة من الحجم والضخامة قدرا عظيما، فأصابت البلاد كلها ” قذارة يؤذي البلاد نفسُها “، كما يتهمه من زاوية العلم والأدب بسرقة أبيات شعرية من المعري وابن خفاجة.
ولكن ما هي جريمة ابن باجة الكبرى التي تفسر بقية جرائمه؟ إنها التفلسف فذاك ما جعله يقع في الكفر المبين : لقد ” نظر في تلك التعاليم و فكّر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم” و”اقتصر على الهيئة”، وحكم للكواكب بالتدبير” وهو يري أنّ المعاد غير ممكن، واستهزأ بقوله تعالى :”إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد”، فهو يعتقد أن الزمان دور، وأن الإنسان نبات له نور حمامه تمامه واختطافه قطافه ” ونفي وجود يوم القيامة” نفت (نفسه) يوما تجزى فيه كل نفس ما كسبت”.
ترى لماذا حقد ابن خاقان على ابن باجة كل هذا الحقد؟ يقول لسان الدين بن الخطيب في تفسير ذلك : ” وحدّثني بعض الشيوخ، أن سبب حقده على ابن باجة أبي بكر، آخر فلاسفة الإسلام بجزيرة الأندلس، ما كان من إزرايه به، وتكذيبه إياه في مجلس إقراية، إذ جعل يكثر ذكر ما وصله به أمراء الأندلس، ويذكر الفخر بذلك، ووصف حلياً، وكانت تبدو من أنفه فضلة خضراء اللون. زعموا، فقال له، فمن تلك الجواهر إذاً الزمردة التي على شاربك، فثلبه في كتابه” ابن الخطيب، الإحاطة في أخبار غرناطة، و لكن هل هذا السبب الشخصي كاف لفهم محنة ابن باجة؟ و هل كان ابن خاقان الوحيد الذي اتخذ ذلك الموقف العدائي تجاهه؟
إذا علمنا أن ابن باجة قد دُس له السمّ من قبل أعدائه الذين ناولوه باذنجانا مسموما ففارق الحياة اغتيالا، وأن من بين من أُتهم بذلك الطبيب ابن زهر، ثم ما كان من أمر سجنه مرات قبل ذلك، تبيّن لنا أن كلام ابن خاقان يندرج ضمن حالة عامة، كان فيها العداء لابن باجة السمة البارزة، رغم القبول الذي حظي به في بعض الأوقات من طرف السلطان السياسي، والذي يعود لطبه وشعره بشكل خاص، وأن مرد ذلك العداء سببه الرئيسي فلسفته، التي لم تمثل فقط خروجا عن السائد في مجالي الدين و الأخلاق وإنما في السياسة أيضا، فقد بلور أفكارا أزعجت السلطات الدينية والسياسية، ليس أقلها خطورة الدعوة لبناء المدينة الكاملة، فابن باجة نقد الواقع السياسي الاجتماعي المهيمن في الدولة التي عاش في كنفها، من ذلك قوله :” ومن الصور الروحانية الكاذبة يكون الرياء والمكر وقوى أخرى شبيهة به، وهذه وأصنافها يعظم موقعها في السير الموجودة حتى يظن بالعارف بها الحكمة ” ابن باجة تدبير المتوحد، مما يعني أنه مع السياسة التي يكون العقل مرشدها، فالتدبير المدني الحكيم يجد في الفلسفة المعين الذي ينهل منه، وعند ذلك فقط يمكن للمدينة الكاملة أن تتأسس وللفيلسوف أن يكون حاكمها، وبالتالي فإن الحكم باسم الدين يجب أن يترك المجال للحكم باسم العقل. ومن هنا يجوز لنا استنتاج أن محنته تتداخل في تفسيرها أسباب دينية وسياسية، وأن فلسفته بما احتوته من أفكار متضادة مع السلطانين الديني والسياسي جلبت عليه ذلك المصير المحتوم.
إن التفلسف من موقع العقل النقدي في زمن الاضطهاد الديني والسياسي صعب دون شك، ولا تقوى عليه إلا القلة، ويفيدنا حديث ابن أبي اصيبعة عن حال مالك بن وهيب الاشبيلي ـ وهو أحد الفلاسفة الأندلسيين الذين فضلوا كتم آرائهم ـ بما كان عليه الوضع من سوء، فقد كان مشحونا بمعاداة الفلسفة، يقول : ” إن مالك لم يقيد عنه إلا قليل نزر في أول الصناعة الذهنية، وأضرب الرجل عن النظر ظاهراً في هذه العلوم، وعن التكلم فيها، لما لحقه من المطالبات في دمه”، حتى أنه غير الوجهة، واتجه إلى العلوم الشرعية فأبدع فيها، وتغلب على خصومه في هذه الساحة التي احتكروها لأنفسهم.
رغم هذا الوضع نهض ابن باجة للقيام بالمهمة، ومن هنا شجاعته “وأما أبو بكر فنهضت به فطرته الفائقة، ولم يدع النظر والتنتيج والتقييد لكل ما ارتسمت حقيقته في نفسه “ابن ابي أصيبعة، طبقات الأطباء، ولكنها شجاعة مكلفة، قادته إلى الموت غيلة، فما هابه مالك بن وهيب الاشبيلي وقع فيه ابن باجة، غير أن موته كان بمثابة توقيع شهادة ميلاد جديد للفلسفة العربية، إذ يعود الفضل إليه في تأسيسها في المغرب العربي والأندلس، فبعد الطوق الذي ضرب حولها في المشرق جراء حملات التكفير المتتالية، وأبرزها ما قام به الغزالي، انتعشت في المغرب مع ابن باجة الذي سار على دربه بعد ذلك آخرون أبرزهم ابن طفيل وابن رشد.
بقي أن نقول إنّ الفتح بن خاقان الذي كفّر ابن باجة وألحق به الأذية، وألّب عليه رجال الدين والسياسة، فضلا عن العامة، ولعب دورا مهما في محنته، قد انتهى هو نفسه نهاية مأساوية وصفها ابن الخطيب على النحو التالي : كانت ” وفاته بمراكش ليلة الأحد لثمان بقين من محرم من عام تسع وعشرين وخمسمائة، ألفي قتيلاً… وقد ذبح وعبث به، وما شعر به إلا بعد ثلاث ليال من مقتله.” ابن الخطيب، الإحاطة في أخبار غرناطة، والكلمة تقتل أحيانا كما يقتل السيف.
موقع الآوان