بيرلسكوني في بيروت
عباس بيضون
هل حلت نهاية بيرلسكوني. لا يستطيع أحد أن يحدد موعداً لكن هناك من يقول بثقة انها قادمة. سؤالنا نحن هل هناك نظير لبيرلسكوني وللبيرلسكونية عندنا أي في لبنان والجواب ليس سهلاً فجل ما نعرفه عن بيرلسكوني متصل بالفجور والليالي الحمراء ومعاشرة الغانيات وتجديد الشباب وحفلات الجنس الجماعي. ذلك شيء لا تطيقه بلادنا «المحافظة» رغم سمعتها الماجنة عن حق أو غير حق، إذ ان المجون لا يستنتج من اللباس والعلاقات الحرة والاختلاط بعامة. لو كان الأمر كذلك لما كانت المجتمعات المحكومة بأنظمة دينية هي التي تعشش فيها الدعارة والفجور والمخدرات سراً وإعلاناً، والجريمة الجنسية هي أولى العواقب. بعض الروايات العربية التي تصدر في مجتمعات «مصونة» تخبر عن فظائع في هذا المجال لا نجدها في مجتمعات تبيح الاختلاط أو العلاقات الحرة. هذه الروايات حافلة بالانتهاك والاعتداء الجنسي والقسوة والفظاظة والامتهان بمختلف ألوانها. لا ندافع عن لبنان لكننا نعلم لحساب أي ايديولوجيا يجري تعهيره. انها تابوات الريف والبادية. تابوات تملي الصمت والكتمان والامتثال حتى حين خرقها ومواربتها. ان الثمن الباهظ لعملية كهذه توجب السكوت والتعامي ولعل جثث الخادمات الأجنبيات المرمية في الصحراء شاهد أكيد. لا ندافع عن لبنان لكننا لا نرضى بأن ينسب إلى الاختلاط والحرية الفساد والجريمة، بقدر ما نكون أحراراً نكون مسؤولين وبقدر ما نكون أحراراً نتخفف من ثقل التابوات وأثمانها الباهظة. إن ثقافة الغزو والانتهاك البدويتين وثقافة العائلة الريفية لا يمكن أن تجدا في بلد حر سوى معرض للتسيب والخصي والفجور. بقدر ما تقترب بيروت من أن تغدو مدينة بحق بقدر ما ترجم بالعهر والدعارة. ليست البيرلسكونية إذن بادعاءات الفحولة والانطلاق بعيدة لكننا محافظون بالفكرة واللغة والقيم. محافظون وعائليون في السياسة. سياستنا وثقافتنا قلما تدافعان عن أسلوب عيشنا، فحين تنتقل المسألة إلى الكلام يمسك الأموات بتلابيب الحي كما قال ماركس وتحل صور بطريركية في متن كلامنا وحواشيه. أي ان ما غنمناه من حرية حصّلناه لقية ولم نتدرج إليه تدرجاً وارتقينا إلى مستواه. اننا لا نجد كلاماً لممارستنا وعلى هذا يتوسع فتق نفاقنا ويتسع انفصالنا عن انفسنا ومسار عيشنا. لذلك لن تكون البيرلسكونية في لبنان بلفظها في إيطاليا. أي لن تكون فانتازيا فجور ومال وادعاءات ذكورية. مع ذلك فالبيرلسكونية ليست كذلك إلا في إعلاناتها، أما في غير ذلك فعلينا أن نبحث لها عن حدود وعلائم أخرى. البيرلسكونية هي بدرجة أولى تشخيص السلطة، وتشخيص السلطة في مجتمعات مافياوية يعني التلاعب بالسلطة والقفز على قواعدها وقوانينها أي ان الحاكم الحقيقي الممتلئ بسلطته هو الذي لا يبالي بها. نستنتج من ذلك أن الشخص هنا يحل محل السياسة. فالبيرلسكونية تضحك من السياسة كما تضحك من السلطة. يمكننا أن نضيف إلى ذلك دور الميديا والتليفزيون في تقديم صورة الشخص الحاكم وبيرلسكوني كما نعلم صاحب شركات للتليفزيون الإيطالي وجميعها تعمم كلامه وصورته.
إذا فهمنا أن البيرلسكونية ليست فقط إشاعاتها يمكننا، بالتأكيد، ان نجد بيرلسكونيتنا، بل يمكننا أن نجد علائمها كاملة. نحن أكثر الشعوب كلاماً في السياسة، بل يبدو في أحيان أن لكل فريق تعبئته الخاصة وتلفزيونه وجريدته، أي مدرسته الحزبية. انه يتلقى يومياً ومنذ الصباح الباكر تعليقاً على كل شيء. مع ذلك فإننا من أكثر شعوب العالم تنصلاً من السياسة واغفالاً لها. هل يمكن ان نسمي انشغالنا التعبوي سياسة، وأي سياسة هذه التي لا معيار لها،الموقف صحيح حين يكون رأينا أو رأي حلفائنا ومعسكرنا. انه سليم ما دام لنا، ما من معيار آخر، موقفنا يوحي به زعيمنا أو قيادتنا وللحال يغدو رأينا وللحال نتجند له وللدفاع عنه، وللحال نقاتل بل ونقتل في سبيله. إنه لنا بمجرد أن يقوله الزعيم وما من معيار آخر. قد يطابق مصلحتنا أو يجر علينا الويل. قد يكون قادراً على أن يرص حولنا قوى جديدة وقد يكون أقلوياً فرداً، قد يكون مطابقاً لتجربتنا وموروثنا وقد يكون تماما بالعكس. إنه لنا بمجرد أن نقوله ويقال. الزعماء غالبيتهم، يقولونه بحساب، أما الجمهور فيقبله بلا حساب بل قد يكون عكس جميع حساباته، مع ذلك فإنه يتقبله ما ان يصير له، ويصير له حين ينطقه واحد من معسكره ومن صفه، لو راجعنا العشرين سنة الأخيرة على الأقل. لوجدنا الجماعــات اللبنــانية انقلبت على نفسها وتجربتها لمجرد أن واحداً من لدنهــا ألزمها بكلمته. لمجرد أن هذه الكلمة صارت لها، لمجرد بأنها سمعتها تقال باسمها. كم جماعة أراقت الماء على ماضيها في لحظة واحدة. بعد ذلك يأتي دور الميديا: الجريدة، التلفزيون، برامج التوك شو السياسي. انها مدرسة حزبية تصلّب الكلمة الجديــدة وتجـذرها. هكذا لن يمر وقت قصير حتى تكون «الكلمــة» الجديــدة صارت لسان الجماعة ومنطقها.
التشخيص، بلى، ليست الكاريزما الشخصية هي التي تقرر. وما من صراع على الأشخاص أو بين الأشخاص، كل جماعة لها أشخاصها وليس مهماً كيف يكونون. المهم أن يكونوا لها. بينها وبينهم صلة أقرب إلى الدم، صلة كالقرابة، انهم لها وهي لهم بدون شرط. انهم يظهرون ليقولوا كلمتها، أو الكلمة التي ستصير، للتو، كلمتها، ذكاؤهم لا يهم، طلاقتهم لا تهم، ما يهم هو مكانهم منها ومكانها منهم، ما يهم هو حبل القربى الموصول. شبه الدم، شبه العائلة، ما عدا ذلك ما من شيء آخر، أخلاقهم ليست معياراً. إن هم سرقوا فقد سرق واحد من الجماعة وربما يسرق للجماعة وعلى كل حال ان بات قويا فقوته لها وإن بات ثرياً فهو منها. بالعكس إن هو عصى او انتهك او تلاعب فهذه شطارة تحسب لها. ان هو كسر القوانين فلهذا خلقت القوانين، لا نعرف جماعة تخلت عن زعيمها او المتكلم باسمها لعيب فيه. لا نعرف جماعة خلعته لموقف لم ترتضه. لا نعرف في تاريخنا جماعة خاصمت زعيمها أو خاصمها.
البيرلسكونية بوصفها شطارة وتلاعباً. بوصفها ترويضاً للقوانين وجعلها على مقاس الأشخاص. بوصفها إنزالاً للسياسة إلى ثانوية ودرك أدنى. البيرلسكونية على هذا النحو موجودة عندنا. والهياج السياسي يجعلها أكثر وجوداً. بل نحن في تاريخنا لا نملك سابقاً عليها لنعود إليه. انها تقريبا كل تاريخنا أو ما ينتهي إليه تاريخنا، بل ان البيرلسكونية التي هي ضعف الدولة وإضعافها هي اليوم في تمام عزها عندنا، وإذا تكلموا في إيطاليا عن نهاية البيرلسكونية فإننا لا نستطيع هنا ان نتكلم عن نهاية لأي شيء. انها باقية راسخة وستبقى أكثر وتترسخ ما دامت ودمنا.
السفير