ماذا بقي من «تقدّمية» اليسار؟
حسام عيتاني
اقترن اليسار منذ ظهوره كقوة سياسية منظمة وكمصطلح نظري، بفكرة التقدم. بيد أن ما نشهد من ممارسات وطروحات لأحزاب وأفراد يحسبون أنفسهم على خانة اليسار، يبرر التساؤل عن مصير القِران بينه وبين السياسات التقدمية.
والحال أن التقدمية، كفكرة ومشروع، تقوم على أولوية الحريات والعدالة الاجتماعية، وتجعل من تحقيقها وتعزيزها والدفاع عنها مطالبَ دائمة ومحورية في نشاط وعمل التقدميين، فمن دون العدالة الاجتماعية والحريات الفردية والعامة، لا يستقيم المشروع التقدمي، بداهة.
لكن تغييرات عدة طرأت على التعريف أعلاه. وقديم هو التحول الذي دفع الحرية والعدالة إلى خلفية المشهد. وتحت ضغط الشيوعية السوفياتية المشتبكة في صراع كوني مع الرأسمالية الغربية، ظهر من يروِّج لمقولة «التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي». الأول هو ذلك الدائر بين الاشتراكية الواقعية، او المحققة، وبين الرأسمالية واداتها السياسية، الامبريالية. والثاني يدور داخل كل مجتمع بمفرده، ويتعلق بالسعي الى تحسين المواقع السياسية والاقتصادية الداخلية.
هذه، بإيجاز غير وافٍ، خريطة الحركة الصراعية في عالم الحرب الباردة. وبالاستناد إليها، حصل تبرير الانتهاكات الهائلة للستالينية ومشتقاتها، وجرى تبرير التحالف بين اليسار وأنظمة الاستبداد والقمع في بلدان العالم الثالث.
قليلة هي الأحزاب اليسارية التي لاحظت التغير الجذري لمنظومة العلاقات والقيم في عالم ما بعد الحرب الباردة. وفيما خرجت أحزاب من دائرة الشيوعيات السوفياتية والماوية وأعادت النظر حتى في مقولات «اليسار الجديد» الذي قدَّم نفسه بديلاً عن النموذج السوفياتي المتكلس، حافظت أحزاب أخرى على وفائها للأفكار والممارسات القديمة، مستعينة بدفء الحضن المألوف على صقيع العالم الجديد.
ومن رحم هذه الأحزاب والأفراد القريبين منها، تصدر اليوم المواقف الأكثر تمسكاً بسياسات شعبوية وطائفية موصوفة. لا تنقص الذرائع الجهات هذه، والعداء لأميركا رأس هرم الآراء تلك. سيان هو تعريف أميركا وسياساتها واستراتيجياتها، وسيان كذلك تياراتها المختلفة وثقافتها ونخبها وجمهورها. ويكفي صب اللعنة على الولايات المتحدة حتى يصبح الموقف يسارياً ووطنياً.
وعند الوصول إلى المقاومة، يبيح «اليساريون» لأنفسهم مديح كل من يطلق النار على شعبه ويزج بمواطنيه في المعتقلات، طالما أنه مع خيار المقاومة. وهذه، اكتست سمتها السرمدية عند «اليساريين» بعدما فقدوا قدرتهم على التعامل مع معطيات الواقع الذي يصنف المقاومة أداة سياسية مؤقتة، لا أكثر من ذلك ولا أقل.
واضح أن السلوك هذا ينبع من تصور جوهري (غير يساري في العمق) لأحوال العالم، تحال فيه الدول (الولايات المتحدة) والظواهر (المقاومة) إلى نماذج متخشبة لا يقربها تبدل أو تغير، متجاهلين الحقائق الصلبة في هذا العالم عن نبذ القوى المهيمنة على المشهد السياسي حالياً، منْحَ مَن تبقَّى من «اليساريين» أيَّ اعتراف أو دور. وغافلين، قبل ذلك وبعده، عن الميزة الأولى لليسار، وهي التمسك بالتطور والحركة في الواقع، أي التمسك بـ «التقدم».
ملاحظة أخيرة تتعلق بقائل قد يقول إن هذا المنبر («الحياة») ليس المكانَ المناسب لمناقشة هذه المسألة. والرأي هذا ينطلق من ذات الأسس التي تحمل أشخاصاً من انتماءات مختلفة جداً على القول أن ليس من حق العلمانيين أو الليبراليين، مناقشة انتشار الظواهر الدينية وفكرها وعقائدها في بلادهم. مرة ثانية نعود إلى منطلقات جوهرانية.
الحياة