صفحات العالم

وزارة إنغلاق وإنقاذ !

بقلم سلام الكواكبي- باريس
بعد ستة أشهر من الانتظار والجمود والنقاش والصراعات الداخلية وقشور الموز المزروعة في أروقة مختلف الوزارات الفرنسية سعياً لإزاحة هذا الوزير أو تلك الوزيرة، أُعلنت الوزراة الفرنسية الجديدة برئاسة “رجل المرحلة” فرنسوا فيون الذي راهن الكثيرون على نهايته المؤقتة فخرج من الباب ليعود من الباب ذاته والمفتوح على مصراعيه من جديد.
وكما يُعرف عن الرئيس ساركوزي كرهه لكل من يمكن أن يشكل له ظلاً أو لكل من يطمح يوماً إلى تكوين شخصية سياسية مستقلة في إطار اليمين الفرنسي، ويمكن اعتباره بالتالي منافساً محتملاً، فلقد أثبتت تشكيلة الحكومة الجديدة نجاحاً لهذه الطباع من جهة، وفشلاً في الاستمرار بالاستحواذ على الصدارة السياسية واعتبار رئيس الوزراء كمعاون وكرجل مراسم ليس إلا من جهة أخرى.
فنجاح ساركوزي في التشكيلة الجديدة يتمثل مبدئياً في إبعاد بعض الشخصيات التي كانت تطمح لتطوير مواقعها الانتخابية قبل 18 شهراً من موعد الانتخابات الرئاسية. وفي هذا الإطار، يُعتبر تعيين رئيس الوزراء الأسبق وعمدة مدينة بوردو آلان جوبيه في موقع وزير الدفاع هدية ثمينة ولكنها مفخخة. فهو الرجل الثاني في الحكومة بحقيبته الدفاعية تلك، ولكنه سيحصل على ملفات متوترة تمتد من افغانستان حيث خسائر الجنود الفرنسيين تؤثر جدياً في الرأي العام، إلى مشاركة فرنسا العسكرية في قوات الأمم المتحدة جنوبي لبنان والمتوقع لها أن تقع ضحية أي اقتتال جديد يندلع بين المتعطشة للحروب دائماً، إسرائيل، والمقاومة اللبنانية المختزلة حالياً بـ”حزب الله ». إضافة إلى ذلك، فإن فرنسا في وضع لا تحسد عليه من ناحية مبيعاتها العسكرية وخصوصاً في ما يتعلق بطائرتها الرافال غير المرغوبة والتي سيكون من أولى مهام وزير الدفاع التسويق لها في الدول النفطية التي ستخزنها بين الرمال. وجوبيه هذا كان ينتظر بشوق العودة إلى وزارة الخارجية التي نجح في ملء مقعدها إبان الحقبة الشيراكية وكانت له صدقية وتأثير على الرغم من ضعفه في التواصل الإعلامي، ولكنه امتلك مقومات الديبلوماسي القوي الذي استطاع الحفاظ على إرث الكي دورسيه العريق.
وغاب عنه، أو ضللته الآمال، بأن الديبلوماسية الفرنسية سيحتفظ بها مستشارو ساركوزي في القصر بعيداً عما ينعتونه بالدائرة الهرمة، وهي الخارجية. وبالتالي، فلن يسمح لشخصية ذات حضور وثقل مثل جوبيه بأن تملأ هذا الموقع. أما الوزير السابق برنار كوشنير الذي خرج بخفي حنين من التشكيلة الوزراية الجديدة فقد كان مثالاً عن وزير اللاوزارة ولم يكن يلّم بالملفات الأساسية بل حتى أنه كان يُبعَد عن الاجتماعات الهامة التي تجري في الإليزيه لتحديد سياقات السياسة الخارجية. ولضعف شخصيته أو لانعدامها، فقد رضي بما قُدِّر له على أن يكون وزيراً ليس إلا. ويعتبر آلان جوبيه منفتحاً على العرب ومتفهماً لقضايا المنطقة، وهذا لا يناسب في وزراة الخارجية ولكنه مناسب في الدفاع حيث الزبون الأساسي للصناعات الحربية هم العرب.
من جهة أخرى، أتت إلى الخارجية من العدل إمرأة “تمشي الحيط الحيط” ولا وقع لها ولا تأثير، وهو المطلوب تماماً للحفاظ على الدور الرئاسي في هذا النطاق. أضف إلى ذلك، أنها تحابي من ترى أن الرياح تساعد أشرعته، ولا تبحث البتة عن البروز بعيداً عن رضى الباب العالي في الإليزيه.
وقد خرج من الحكومة كل وزراء ما سمي في بداية الرئاسة الساركوزية بالانفتاح على القوى الوسطية والاشتراكية، فأبعدت آخر ممثلة لمن سمّيتهم في مقالات سابقة “عرب الخدمة”، وهي فضيلة عمارة، بعد أن كانت رشيدة داتي قد أبعدت في تعديل سابق، وكانت الغاية من توزيرهن إضفاء صبغة الانفتاح على المهاجرين والأقليات والاشتراكيين، وقد قبلن باللعبة وبقواعدها، فلا يمكن أن يلمن إلا “سذاجتهن” أو “وصوليتهن”.
إنها وزارة الإنغلاق بكل امتياز حيث أبعد عنها حتى اليمين الوسط وسقطت في عهدة اليمين التقليدي الأميل إلى التطرف في بعض ملفاته، كما الملف الأمني الذي ما فتئ ساركوزي يعبث به علّه يحظى بأصوات ناخبي الجبهة الوطنية المتطرفة غير عابئ بما يمكن أن تثيره هذه السياسة من توترات في أوساط المهاجرين وفي النسيج الاجتماعي الفرنسي عموماً.
في المقابل، يبدو جلياً من عودة فرانسوا فيون إلى رئاسة الحكومة أن هناك عملية ليّ أذرع قد جرت في أروقة البرلمان وبأن قرار نواب الأكثرية كان لترجيح كفته مقابل مرشحين آخرين أراد الرئيس أن يسند إليهم مهمة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من التيتانيك اليميني الذي أدى به إلى أن يحصل على أدنى شعبية أمكن لرئيس فرنسي على رأس عمله تحقيقها. وعلى الرغم من فرضه لإصلاحات راديكالية تتعلق بنظام التقاعد رغماً عن أنف ملايين المتظاهرين ورفضه الحوار مع النقابات، في ما اعتبره انتصاراً، فإن ملفاته الخاسرة أكثر من أن تعد وتحصى، ولا يعتبر اختياره لترؤس مجموعة دول العشرين الكبار للسنة المقبلة مؤشراً على إمكانية مساعدته في تحسين شعبيته الداخلية، ولكنه سيعطيه رضى ذاتياً طالما بحث عنه في كل خطواته. والاتحاد من أجل المتوسط، المشروع الفقاعة لم يعرف بعد أن يخرج من مرحلة الحبو، وأفضى حتى الآن إلى بعض الوظائف وكثير من المؤتمرات والقليل أو العدم من الإنجازات، حيث أن وضع الحصان أمام العربة هو عمل أقل ما يقال فيه أنه غير مدروس ولا يستطيع أحد تصور اتحاد، ولو حتى على أدنى المستويات التجارية، بين دول تحارب بعضها وبوجود احتلال لأراضي الغير. وآخر انجازات هذا الاتحاد، هو فشله للمرة الثالثة في تحديد موعد لقمة تجمع أعضاءه.
وزارة فرنسية جديدة لتقوم بعملية إنقاذ انتخابي في ما تبقى من وقت، وبما أن الإعداد لها استغرق أشهراً عديدة انصرف خلالها الوزراء والمستوزرون إلى الاهتمام بمصيرهم أكثر من إدارة وزاراتهم، فمن المرتقب أن يتحول الأمر إلى صيغة أكثر عملية لإنقاذ أثاث البيت اليميني الفرنسي، مع عامل قوة أساسي يستند إلى فقدان اليسار بالمجمل، والاشتراكيين على وجه الخصوص، لمشروع بديل واضح يمكنهم من كسب ثقة الفرنسيين الخائبين والمتأملين، ربما.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى