آخر التوسع الضم المزدوج
ميشيل كيلو
صوت الكنيست “الإسرائيلي” قبل أيام قليلة على قانون يمنع رد القدس والجولان إلى فلسطين وسوريا إلا بعد استفتاء شعبي يوافق فيه ثلثا الصهاينة أو ثلاثة أرباع نوابهم على الخروج منهما .
قبل التصويت بنحو ثلاثين عاماً قرر الكنيست ضم الجولان وقبله بعشرة أعوام ونيف ضم القدس رسمياً، وتحويلهما إلى جزء مما يسمونه زوراً “أرض إسرائيل”، وإعطاء سكانهما من العرب الجنسية “الإسرائيلية” عنوة وقسراً، شاء من شاء وأبى من أبى منهم . واليوم، يجدد الصهاينة الضم من جديد، بجعله غير قابل للإلغاء بالمفاوضات وخارج صلاحيات عدد محدود من الساسة الذين قد يتخلون عنهما في أية مفاوضات مقبلة، ويربطون خروج الاحتلال منهما بموافقة شعبية تكاد تكون جماعية، حتى إنه ليمكن القول بعد قرارات التحدي هذه التي تجددت مرتين خلال أربعين عاماً، وطاولت أقدس أقداس العرب والمسلمين: إن المنطقة لم تكن في أي يوم مضى أكثر بعداً عن السلام منها اليوم، وأن نصف القرن الذي يفصلنا عن حرب حزيران واحتلال القدس والجولان ضاع كلياً على سياسات حقوقية تتمسك بالشرعية الدولية وقراراتها كسلاح صار أكثر فأكثر وحيداً بالنسبة لها، مثلما ضاعت طيلة هذا الوقت الفرص التي كانت متاحة لبناء قوة عربية تستطيع رد الأراضي المحتلة سلماً، وإلا فمن خلال كسر عنق جيش العدوان وإخراجه منها بالقوة .
ضاع الذي ضاع . يقول ديدبا، الفيلسوف الهندي الذي وضع حكايات كتاب كليلة ودمنة: لا تأسفن على ما فات . ومع أنني آسف كثيراً على ما فات، لأنه ضيع جزءاً غالياً من عمر أمة وشعوب متحضرة لم يعد لديها ما تعيش عليه هذه الأيام غير الإحباط واليأس والعجز، فإنني أتمنى أن يخرج علينا المعنيون بالأرض العربية المحتلة ليقولوا لنا وللعالم: نحن لم نعد نؤمن بخيار استراتيجي اسمه السلام، وسنعد من اليوم فصاعداً لحرب لا تعرف الرحمة، ولن يوقف سعينا إليها غير إعلان يصدر عن العدو المحتل يتضمن تعهداً ملزما بالانسحاب وجدولاً زمنياً يحدد مواعيد ثابتة له تضمن الأمم المتحدة والدول الكبرى تنفيذها، لأننا ما عدنا على استعداد لإعلان موقف عملي مقابل وعود افتراضية كاذبة من العدو، ونريد أفعالاً ملموسة مقابل وعودنا بالسلام مقابل الأرض، وإلا “فعلينا وعلى أعدائنا يا رب”، مع كل ما يتطلبه ذلك من فتح للحدود وتعبئة للطاقات، وحشد للقوى، وخوض لحرب نعدكم ألا تكون معركة واحدة قصيرة، بل هي سلسلة معارك لن تبقي ولن تذر، ستطحن الأرض ومن عليها كي تخرج منها أمة تريد أن تنتصر لكنها لا تعرف اليوم كيف، أو لا يسمح لها بخوض الحرب أصلاً كي تنتصر وتتجدد، وتكنس صهاينة فلسطين إلى خارجها، مرة وإلى الأبد .
لن يفعل أحد ما أقترحه . من أنا حتى يسمعوا ما أقول؟ لذلك أود التذكير، من خارج أية دائرة أو لغة وطنية فقدت جميع معانيها لكثرة ما تاجروا وتلاعبوا بأصولها وفروعها، بأن ضم الجولان والقدس أمر لا يجوز أن يبعث الاطمئنان في قلوب أنظمتنا، بل هو إعلان أولي عن حرب قادمة لا محالة لسببين: أولهما رمزية القدس بالنسبة إلى شعوب الأرض ذات الديانات الكتابية، وللمؤمنين كذلك بحق شعب فلسطين في الحرية والاستقلال من الذين ليسوا أهل كتاب أو دين سماوي . وثانيهما أن الجولان هو مفتاح غرب آسيا العربية الاستراتيجي وبوابة سوريا، من هنا يعني التمسك باحتلاله وضمه التمسك ببرنامج التوسع “الإسرائيلي”، الذي لن يتوقف عنده على الأرجح، وسيقفز إلى ما وراءه من مناطق ودول، ليصنع أقداراً جديدة للمنطقة ستصل تفاعلاتها إلى حدود الصين .
القدس برمزيتها والجولان بموقعه في خطط السيطرة والتوسع “الإسرائيلي”، التي تستهدف جميعها الشمال، في الواقع وعلى لسان كبار قادة الصهاينة، حيث الماء الغزير والجبال الشاهقة والأرض الخصبة والسهول المفتوحة . ولعله ليس أمراً يجوز أن يمر من دون أن نطرح السؤال حول المعنى الحقيقي لجعل الجولان في مرتبة مساوية لمكانة القدس، عاصمة “إسرائيل” الأبدية، كما يسميها الصهاينة . هل يعني ربط الجولان بالقدس أنه صار بدوره أرضاً أبدية ل “إسرائيل”، التي يقول رئيس وزرائها الحالي بكل وضوح إنه لن ينسحب منه تحت أي ظرف؟ وكان قد قال في كتاب سبق أن أصدره بعنوان “مكان تحت الشمس” (يجب أن يقرأه كل عربي) إن خطة السلام تعني تصفية “إسرائيل”، بما أن مرحلتها الأولى، القائمة على الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، ستأتي بجيوش وأسلحة العرب إلى مشارف تل أبيب، بينما ستكون مرحلتها الثانية هجوماً من جميع الجبهات على “قلب الدولة” يضع حداً نهائياً لها ويجهز تماماً عليها، فالأمم المتحدة متواطئة إذاً مع العرب على وجود “الشعب اليهودي”، وليس تطبيق قراراتها غير سكين ستذبح “إسرائيل” نفسها به من الوريد إلى الوريد، فلا خيار لها غير تفضيل الحرب على السلام، خاصة بعد خروج مصر والأردن من الصراع .
ليس القرار الأخير غير تحصيل حاصل، فالتوسع قاد في جميع تجارب التاريخ إلى الضم، ضم الأرض والسكان في حالات، والسكان من دون الأرض في أخرى، والأرض من دون السكان عندنا هنا في فلسطين، حيث تفتق ذهن المؤسسة الصهيونية مؤخراً عن فكرة “يهودية الدولة”، التي إذا ما طبقت أدت إلى أكبر عملية تطهير عرقي عنصري ديني عرفها الوطن العربي في تاريخه، وإلى عملية تغيير في هوية عرب الأرض المحتلة، الذين سيكونون ملزمين بيمين ولاء للدولة اليهودية مقابل أن يبقوا عبيداً من الدرجة العاشرة وخدماً فيها .
هذا هو السياق الذي قرر الكنيست فيه ما قرر بصدد القدس والجولان، وهو ليس جديداً في أية واحدة من مفرداته، ونعرفه جميعاً ونكتب عنه ونتألم بسببه، بل ونحتقر أنفسنا لأننا لا نستطيع شيئاً تجاهه غير الكتابة والصراخ . والمأساة أن من يجب أن يسمعوا يتصرفون وكأن الأمور لا تعنيهم، وهذا أيضاً ليس جديداً، بل هو قديم قدم “الاستقلال” العربي، الذي “طنش” فلسطين أول الأمر ثم غيرها وغيرها خلال نصف القرن المنصرم، ولم يعد لدى دولة ما تفعله غير المطالبة ب “الحقوق العربية الثابتة”، مطالبة لكثرة ما همنا بحبها وعشقناها حالت دون قيامنا ببناء قوة تستطيع رد الأرض المحتلة دونما كثير كلام تلفزيوني وصحافي عنها . لم نفعل شيئاً، مع أن حربتنا ليست والله قصيرة، ولو صدق عزمنا لكان الصهاينة في ورطة لا مخرج لهم منها، بدلالة ما حققه حزب الله خلال عشرين عاماً فقط من الصدق والتضحية والإخلاص، بواحد في مئة من إمكانات أية دولة عربية .
ذات يوم، احتل الفرنسيون أراض ألمانية، فجمع رئيس أركان جيش ألمانيا مارشال فون شليفن جنرالاته وطلب منهم وضع خطط لاستعادتها، في الوقت المناسب . بعد إعداد الخطط قال الاستراتيجي الكبير لضباطه: “لن نتحدث عنها (الأرض الألمانية) أبداً، سنفكر فيها دائماً” . نحن العرب، أيها السادة، نفعل العكس . دعك من الخطط، التي يتبين بعد كل معركة أننا لم نرسم شيئاً منها، إننا نتحدث عن فلسطين بلا انقطاع، لكننا لا نفكر فيها أبداً، لذلك لا نعد أنفسنا لفعل ما يلزم من أجلها، لتحريرها . بهذا السلوك، الذي يربط استعادة الحقوق بكثرة الكلام والتفاوض وبتعهدات سلمية لا تسمن أو تغني، لن تعود الأرض العربية، وستبقى محتلة إلى يوم الدين .
قام الصهاينة بخطوة يصح اعتبارها كاشفة: تبين ما لدى كل طرف من سياسات وأهداف وخطط وقدرات . إنها خطوة تتصل في الظاهر بالأرض المحتلة، لكنها تكشف في العمق حقائق الدول والمجتمعات والبشر والسياسات في كل مكان من منطقتنا . وهنا المشكلة والمأزق والامتحان، والمحك الجدي، الذي سيفتضح بعده ما كان قد بقي خافياً من أمورنا، وهو كثير ومعيب، والعياذ بالله .
بين الضم الأول، وتثبيت الضم البارحة، نصف قرن تقريباً ضيعناها نحن ولم يضيعها العدو، الذي يزيد استعداداته لقفزة جديدة، انطلاقاً من الأرض التي ضمها . أليس هذا الواقع في حد ذاته مأساة ما بعدها مأساة؟
الحليج