مستقبل العلاقات السورية – الأمريكية
خليل حسين
مفارقة العلاقات السورية – الأمريكية خضوعها الدائم لعمليات الشد والجذب المتعلقة بالعديد من الملفات المزمنة في المنطقة. فهي وإن شهدت تحوّلات برغماتية واضحة خلال العقود الأربعة الماضية، ظلّت تتحكم في بعض مفاصلها من الجانب السوري بعض المبادئ الإيديولوجية إذا جاز التعبير، وبخاصة القضايا ذات الصلة بالصراع العربي – “الإسرائيلي”. وإذا كان سبب تدهور العلاقات قبل أربع سنوات يبدو ظاهرياً غير مرتبط بهذه الملفات، إلا أن التدقيق في خلفياتها وتداعيات أحداثها يظهر عكس ذلك تماماً.
وإذا كان قرار واشنطن إعادة سفيرها إلى دمشق يشكل مؤشراً لتطبيع العلاقات بين الجانبين، إلا أنه مرتبط بشكل أساسي بملف المفاوضات مع “إسرائيل” وما يمكن أن تقدّمه واشنطن من ضمانات لحسن المتابعة، وصولاً إلى نتائج مرضية لدمشق. وفي الواقع ثمة علاقة موضوعية لهذه المقاربة، بخاصة أن مؤشرات كثيرة برزت في الآونة الأخيرة من بينها الوفود الأمريكية إلى دمشق والتي كان محور محادثاتها مشروع المفاوضات مع “إسرائيل” تحديداً. وفي هذا الإطار يمكن إدراج العديد من المستجدّات أبرزها:
محادثات الموفد الأمريكي الأخير جورج ميتشل في دمشق وجولته في المنطقة التي يمكن التأسيس عليها، شرط ألا تقترن مستقبلاً بمطالب أمريكية و”إسرائيلية” متعلقة بسياسة سوريا الخارجية، ومن بينها العلاقة مع طهران مثلاً، أو إعادة تكييف وتوصيف مختلف لملف العلاقات اللبنانية- السورية.
الحراك التركي في المنطقة، لا سيما في دمشق وبيروت، الهادف إلى إحياء الوساطة التركية بين سوريا و”إسرائيل” بعد استضافتها لأربع جولات سابقة وتوقفها بعد العدوان “الإسرائيلي” على غزة بداية العام الحالي.
إعادة الدفء إلى العلاقات السورية مع بعض الدول العربية، ما يشكل خلفية داعمة للتطورات القادمة على المنطقة، ما يشجع سوريا على المضي قدماً في هذه الخيارات.
وإذا كانت هذه المؤشرات التي لا تبدو بعيدة عن ذهنية السياسات الأمريكية الحالية تجاه المنطقة بشكل عام وسوريا بشكل خاص، إلا أن ثمة عقبات يمكن أن تواجه واشنطن، إنْ لجهة العلاقة مع دمشق أو لجهة ما تعتبره سوريا أذرعة استراتيجية في سياساتها الخارجية.
ة، ظلت مدار المساءلة الأمريكية ومحاولتها الدائمة لفض العلاقة وأسسها طوراً بالترغيب وطوراً آخر بالترهيب، إلا أن مجمل السياسات الأمريكية جمهورية كانت أم ديمقراطية، لم تقدم لدمشق ما يغريها لإعادة القراءة في كتاب مختلف، واقتصرت مجمل القراءة الأمريكية لملفات المنطقة وبالتحديد ما يعني سوريا على القراءات “الإسرائيلية” لتوصيف وتكييف السلام “الإسرائيلي” مع العرب، ما يعني أن المراهنات الأمريكية وفقاً لهذه الرؤى لن تفضي إلى جديد، وبالتالي في أحسن أحوالها ستعتبر من مراحل تقطيع الوقت السياسي في المنطقة ربما يخدم مصلحة الطرفين مستقبلاً.
وإذا كانت إدارة الرئيس الأمريكي السابق، جورج بوش، قد انطلقت من ملف العلاقات اللبنانية السورية لتصفية حساباتها مع دمشق، فإن إدارة باراك أوباما تحاول إعادة وصل ما انقطع وعبر هذا الملف تحديداً، بخاصة بعدما تمكّنت من استثمار ملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري إلى أقصى الحدود، فما هي عدة الشغل الأمريكية الجديدة التي ستنطلق منها لاحقاً؟ وهل بمقدور دمشق الاستجابة لها؟ ثمة ملف أساسي يشغل بال الإدارة الأمريكية، وبتحريض “إسرائيلي” واضح، وهو ملف المقاومة وسلاحها في لبنان. لكن مقاربة موضوعية تظهر عدم قدرة واشنطن على الاستفادة من هذا الملف، لاسيما أن محاولات “إسرائيلية” أمريكية كثيرة سبق أن فشلت أبرزها عام 2006 وقبلها في العامين 1993 و1996.
وإذا كان هذان الملفان يعتبران من مفاتيح الشد والجذب في العلاقات الأمريكية السورية، وهما بطبيعة الحال يخدمان مصلحة “إسرائيل” تحديداً، فإن العقبة الأساسية الأخرى التي تؤثر سلباً في إمكان تطبيع العلاقات الأمريكية السورية، هي نوعية وذهنية القيادات السياسية الحاكمة في “إسرائيل”. فوصول بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة في الكيان الصهيوني، كون البيئة المناسبة لاستمرار الابتزاز “الإسرائيلي” لواشنطن، ومن زاوية سوريا ولبنان تحديداً، ما يعني أن نجاح تطبيع العلاقة بين دمشق وواشنطن مرتبط بمدى تحرّر هذه الأخيرة من ضغوط اليمين المتشدد في “إسرائيل”.
إن القراءة الموضوعية والدقيقة لتاريخ العلاقات السورية الأمريكية، تظهر ديمومة ارتباطها بعوامل غير مباشرة في سياق التوصيف الطبيعي للعلاقات بين الدول، ذلك مرتبط بشكل أساسي بطبيعة العلاقة بين “إسرائيل” والولايات المتحدة التي تقف حجر عثرة في مجمل علاقات واشنطن بدول المنطقة وليس سوريا فقط، ما يستدعي وجوب إعادة نظر أمريكية لمجمل سياساتها ووسائل تظهيرها.
وفي مطلق الأحوال، فإن قراءة الرئيس الأمريكي باراك أوباما للعلاقة مع سوريا، تثبت فجور سياسات الرئيس السابق، جورج بوش، وافتقادها أدنى المعايير الأخلاقية، فهل ستكون العِبَر مستفادة بالقدر الكافي للسياسات الأمريكية في المنطقة؟ وهل بمقدور واشنطن التملّص من واحد وستين عاماً من الابتزاز “الإسرائيلي”؟ ثمة كثيرون يشكّكون في ذلك.
إن تطبيع العلاقات الأمريكية السورية مرهون بجوانب كثيرة من إدارة ملفات الصراع في المنطقة. وعليه فإن عودة السفير الأمريكي إلى دمشق تعتبر خطوة ضرورية لكنها ليست كافية بالمعايير الموضوعية للعلاقات الطبيعية بين الجانبين، فهي مرتبطة أولاً وأخيراً، بما يمكن أن تقدمه واشنطن لسوريا والعرب في قضاياهم المحقة.
لقد التقى الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، برئيسين أمريكيين، الأول في جنيف، والثاني في دمشق. في المقابل، لم يزر أي رئيس سوري واشنطن، ربما هي دلالة واضحة على قدرة سوريا على ابتلاع الوقت وهضمه، والاستفادة مما ضاع منه بيسر وسهولة، لذلك لم يعد هناك وقت كثير للبلع أو الهضم أو القطع. ثمة استحقاقات كثيرة تلوح في الأفق، أولها التهديدات “الإسرائيلية” إلى غير طرف في المنطقة، وعندها لن تنفع العلاقات ولا السفارات ولا حتى الندم.
الخليج