زمن ما بعد العرب.. أو زمن ما بعد الصهاينة، الحـل: تعطيـل أي حـل
ميشيل كيلو
ليست هذه الفكرة من بنات خيالي. إنها قول صريح لهنري كيسنجر، وزير خارجية أميركا الأسبق، الذي طالبه بعض العرب بحل المشكلة الفلسطينية، فقال في اجتماع لمجلس الأمن القومي الأميركي: حل هذه القضية هو أن لا يكون لها حل، وأضاف شارحاً فكرته: هناك مشكلات لا حل لها، حلها في إبقائها بلا حل، ما دام حلها سيحدث ضرراً أشد من الضرر الذي يترتب على حالتها الراهنة: دون حل. هذه المشكلات وأبرزها في عصرنا الصراع العربي/ الإسرائيلي، يجب على أميركا أن تمنع حلها، لما يمكن أن ينجم عنه من نتائج عصية على السيطرة. وإذن، الحل في فلسطين هو الامتناع عن إيجاد حل، ما دام ذلك ممكناً.
هكذا فكر احد أكبر استراتيجيي أميركا في النصف الثاني من القرن العشرين. وكذلك تفكر أميركا في مشكلات كثيرة أهمها قضية فلسطين، لارتباطها باعتبارات وعناصر على قدر خطير من الحساسية أبرزها من الناحية السياسية الأمر التالي: جاء الصهاينة إلى فلسطين ليقيموا على أرضها معسكراً مسلحاً يضم أغراباً معادين للعرب، يحرسون انطلاقاً منه، مصالح الغرب عامة وأميركا خاصة. وبما أن المعركة عليها طالت أكثر مما كان يعتقد، وحسمها مستبعد في المدى المنظور، فإنه لا بديل عن حل يكمن في استمرار مشروع يقوم على الانفراد الصهيوني بملكيتها، فإن فرض نفسه حلاً مغايراً لهذا، فإنه سيؤدي حتماً إلى إخراجهم منها وستفشل الإستراتيجية التي جعلت من احتلالها واستيطانها شرطاً لدور إسرائيلي يتخطى حدود فلسطين والمنطقة، وكان فشلها بداية نهاية الكيان الذي ينهض بهذا الدور، وتحقق مخطط معاكس اشتبه نتنياهو فيه وعرضه في كتاب «مكان تحت الشمس»، قال إن تطبيقه من خلال قرارات الشرعية الدولية يستهدف إقامة دولة فلسطينية على جزء من أرض فلسطين التاريخية في مرحلة أولى، تقوم بطرد الصهاينة والقضاء على دولتهم في مرحلة لاحقة. فلا حل ،إذن، غير منع الحل الدولي وفرض الحل الآخر: الأميركي/ الصهيوني الذي يهوّد فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر.
صحيح أن هناك تكلفة تدفع من دماء اليهود، يتسبب بها استمرار الصراع على الأرض المقدسة. إلا أنها تبقى أقل بكثير من التكلفة التي ستدفع من دمائهم ووجودهم، ومن مصالح أوروبا وأميركا، في حال انتصر الشعب الفلسطيني، والتي كشفها رئيس وزراء إسبانيا السابق أزنار عندما بقّ البحصة وقال: إذا هزم المشروع الإسرائيلي، فإن أوروبا ستسقط بيد العرب والمسلمين!
لن أناقش هنا رأياً يقول: إن الصراع على فلسطين والمنطقة العربية هو جزء من صراع تاريخي عمره خمسة عشر قرناً، عرف حالات مد وجزر، تقدم وتراجع، لكنه لم يتوقف أبداً، وسيمتد إلى قرون كثيرة مقبلة، بما أنه أخذ دوماً، وإن بدرجات متفاوتة الوضوح، صورة صراع حضاري تمحور حول أديان، حمل في الماضي سمات تشبه تلك التي نراها في أيامنا. لن أناقش هذا الرأي، لأنه ليس موضوعياً. وأعود إلى القول: ليس للسياسات الغربية (الأوروبية والأميركية) مصلحة استراتيجية في حل المشكلة الفلسطينية بغير الطريقة الإسرائيلية، وجوهرها الاستيلاء على فلسطين التاريخية، وإن بقي الصراع عليها مستعراً وتحول من حين لآخر إلى معارك وحروب ضارية، تكبح تطور المنطقة العام، وخاصة منه تنميتها السياسية، وتحفظ نظمها المتخلفة والمستبدة، التي ترى بدورها أن حلّ مشكلات العرب يكمن في عدم حلها، في منع حلها، وإدارة أزماتهم بطريقة تشل قدراتهم المتفوقة كثيرا على قدرات عدوهم، وتحتجز تطورهم وتنحدر بهم أكثر فأكثر إلى أسفل السافلين.
هذا هو الحل الأميركي/ الصهيوني، الذي يتكامل ويتفاعل مع الحل العربي. أما ذيوله وتفرعاته، العربية والإقليمية والدولية، فيجب أن تبقى قابلة للإدارة والضبط، وأن تتم السيطرة عليها كي لا يقع تغير في موازين القوى يفرض حلا غير صهيوني: يخرج الواقع الفلسطيني والعربي من احتجازه الشامل ويسهل نجاح الحل الإسرائيلي، حل التوسع والعدوان.
هذان هما حدا السياسات والاستراتيجيات الغربية، وأكاد أقول الدولية: لا حل، بل صراع وقتال يحميان الغرب بيد إسرائيل والعجز العربي من جهة، ولا دخول لأية قوة على أي خط قد يبدل موازين القوى الراهنة، التي تتيح لطرف ضعيف القدرات، هو إسرائيل، أن يتفوق، بانخراط غربي مباشر في الصراع وبسياسات النظام العربي، على أمة هائلة الإمكانات، لكنها غائبة ومغيبة هي العرب، تدعمها شعوب إسلامية يقارب عددها ملياراً ونصف المليار من البشر.
أخلص مما سبق إلى نتيجتين:
÷ لم تكن سياسات العرب في فلسطين على مستوى التحدي ولو ليوم واحد. ولم تعمل إطلاقاً بالجدية اللازمة لإبطال وإفشال مقاصد وأساليب وسياسات الطرف الآخر، الذي ليس إسرائيلياً فقط أو بالدرجة الأولى. في الصراع على فلسطين، مارس العرب سياسات دون ما هو مطلوب بكثير وخارج الموضوع غالبا، أبقتهم برغبتهم على أبعد مسافة ممكنة من الصراع، وجعلتهم بمنأى عن أي انخراط جدي أو مصيري فيه. بعد سقوط فلسطين، اعتقد الحكام العرب أن المشروع الصهيوني سيكتفي بما استولى عليه، فبينت حرب 1967 أن فلسطين ليست مفهوماً أرضياً أو جغرافياً فقط، بل هي بالأحرى مفهوم استراتيجي/ حضاري يطاول بلدانهم أيضاً. رغم هذا، بقيت النظم خارج الصراع، ولم يقع أي تبدل جدي في استراتيجياتها ومواقفها.
÷ إن تدخل القوى الإقليمية، الذي يبدو وكأنه يريد انتزاع «الورقة الفلسطينية» من أيدي أصحابها أو اقتسامها معهم بطريقة تعطيه الحصة الأكبر منها، يهمش بدوره العرب ويخرجهم من الصراع حول فلسطين، بدل أن يجذبهم إليه ويسهل زج قدراتهم وقواهم الهائلة فيه. بسياسته هذه، لا يضيف التدخل الإقليمي إلى قوة العرب والفلسطينيين، بل يقوّض القليل جداً الموجود منها. وهذا، هدف رئيس من أهداف الغرب وجزء تكويني من سياسته، التي ترى الحل في اللاحل من جهة، وتحافظ على توازن قوى لغير مصلحة الطرف العربي من جهة أخرى.
هل سيغير التدخل الإقليمي شروط الصراع، إن بقي العرب على حالهم الراهن؟. الجواب هو: كلا صريحة في الحالتين. يعتقد بعض الأطراف أن تحرير فلسطين يتطلب إضعاف النظام العربي، وأن تهميش العرب سيفيده، بينما هو في الحقيقة والواقع مقتله. أقله، لأنه يفتح أبواب عالمهم أمام خصومه ويكشفه ويورطه في معركة يستحيل عليه كسبها! يبقى لافتاً على كل حال أن هناك من يصدّق بصورة جدية أنه يمكن قهر العدو بتنظيم جزء من طاقات الأمة، ما دام تنظيم طاقاتها كلها مستحيل في الواقع. هذا الاعتقاد يدلّ على جهل أصحابه بواقع الصراع واستراتيجية العدو فيه.
لن أعرج على ما هو مطلوب، فهو واضح. وإن كنت أودّ التوقف عند خطر يتعاظم أكثر فأكثر، إن اكتمل كان في تحققه نهاية فلسطين والعرب وقوى الإقليم. خطر ينذر بنشوب صراع طويل الأمد قد يتحول في أي وقت إلى معركة بين القوى الإقليمية والعرب باسم فلسطين وغيرها من القضايا. هذا، إن حدث، سيكون منعطفاً يؤذن بدخول المشروع الصهيوني في طور جديد: لن يكون بالتأكيد طور تحرير فلسطين بل طور ضياعها النهائي: من البحر إلى النهر ومن السهل إلى الجبل، فضلاً عن ضياع العرب، الذي دخل في مرحلة نوعية مع غزو العراق وأخذ يتمدد من دولة إلى أخرى.
متى يكون الحل في فلسطين؟ في الشروط والظروف الحالية، ستستمر إلى زمن يعلم الله وحده كم سيكون طويلا، سياسات أميركا وأوروبا، التي تندرج في إطار مبدأ قاهر يقول: الحل هو أن لا يكون هناك حل. هذا الموقف يتمتع بحرية حركة واسعة تتيحها صراعات وخلافات العرب وتدخّلات الدول الإقليمية، وسياسات دولية موجهة نحو تعميق أزماتهم وتنويعها وإدارتها، وامتناع نظمهم عن القيام بأي جهد سياسي/ إصلاحي أو تغييري يمسّ بموازين القوى الراجحة لمصلحة العدو، فلا عجب أن يكون ما نراه اليوم من جهود أميركية، نوعاً شاملاً وعاماً، من إدارة الأزمة، ينخرط فيه الجميع بلا استثناء، بهدف زجّ المنطقة في صراعات بديلة لما سُمّي الصراع العربي/ الإسرائيلي، – منذ متى يصارع العرب إسرائيل؟!- وزيادة عجز وضعف العرب، واحتواء أية عناصر وقدرات لديهم، فلا حل إذن، في فلسطين أو في غيرها من مراجل الأزمة العربية العامة، ما دام الأميركيون لم يغيروا استراتيجيتهم، والعرب لم يغيروا واقعهم!
إلى أن يدرك من بيدهم الأمور طبيعة المعركة الدائرة في فلسطين وحولها، ويفهموا أنها يمكن أن تأخذهم إلى واحد من زمنين مختلفين أشدّ الاختلاف: زمن ما بعد العرب، أو زمن ما بعد الصهاينة، وإلى أن يغيروا سياساتهم التي تأخذ الأمة العربية إلى الزمن الأول، ويقرروا إجبار أميركا على التخلي عن الصهاينة، سنكون قد تحولنا، على الأرجح، من أمة خام إلى أمة حطام. ومن يدري، فقد يكفي العدد القليل من صهاينة فلسطين المحتلة للسيطرة على عرب صاروا عبيداً في «أرض إسرائيل» التي لن تمتد عندئذ بين الفرات والنيل فقط!
حيث يكون الحل مكلفاً أكثر من اللاحل، أو يستسلم ضحايا اللاحل للواقع القائم ويسعدون بصراعاتهم بعضهم ضد بعض، لا يجد الغرب سبباً لتغيير سياساته. إلى أن نغير مواقفنا: من أنفسنا ومن غيرنا، ونفهم أننا استسلمنا بالقول والفعل لإستراتيجية ترى الحل في اللاحل، جوهرها إدارة أزماتنا بأيدي حكامنا أيضاً، ومنعنا من مبارحة مآزقنا، لن يقع أي تغيير في مواقف غيرنا: أكان دولة كبرى أم قوى إقليمية. لذلك، من الطبيعي أن يكون الحل الماشي مجموعة صفقات بائسة تجعل استراتيجية اللاحل حلاً استراتيجياً لوجود عرب ذاهبين باختيارهم إلى هلاك أكيد!
السفير