“حبل سرّي” لمها حسن: محاولة تجسير بين الشرق والغرب
الحوار المفترض المنشود بين الشرق والغرب، الصراع الحقيقي الدائر في قلب الشرق، ذاك الذي ينقله الشرقيون معهم أنّى حلّوا وارتحلوا، التناقض السافر الذي يعشّش في ذهنيات الكثيرين من أبناء الشرق، الجغرافيات المتصارعة، التاريخ المشكوك فيه جملة وتفصيلاً، الهويات المتقاتلة المتناحرة، الواقع البائس، المدن التي تلفظ أبناءها، الأبناء الذين يتعاركون على أبسط الأمور، الخلافات التي لا تنتهي، الهزائم الكبرى التي يُمنى بها الناس في قراراتهم، الانكسار المستولَد، اليأس المتفشّي، الاستبداد المتعاظم، الجنون الهالك القاهر، التهميش المدروس الممارَس، ومحاور أخرى كثيرة، تشتغل عليها الروائية السورية مها حسن في روايتها “حبل سرّي”، الصادرة عن “دار رياض الريّس، الكوكب”. جملة من المحاور تتداخل في ما بينها، ناسجة شبكة علائقية واسعة ومتشعبة، منتقلة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، لا بالمعنى الجغرافي فحسب، بل بالمعنى الحضاري والاجتماعي: من مدينة حلب السورية، حيث مرتع الطفولة، وملاعب الصبا، إلى باريس التي تغدو مسرح الأحداث، وحاضنة الشخصيات الهاربة من ذاتها وتاريخها وهزائمها، الباحثة عن أمان مفقود، عن وطن بديل، وعن موت مريح.
تهاجر حنيفة التي تغيّر اسمها إلى صوفي بيران، من حلب إلى باريس، بعد أن تنتكب مرّات عدة، حين يطلّق والدها أمّها، حين يتخلّى عنها أهلها، وحين تنكسر آمالها في الحصول على الأمان والحبّ والمأوى والوطن. بعد سلسلة من المآسي، تنتقل حنيفة من مدينة إلى أخرى، تُنتزَع من موطنها الذي كانت تشعر فيه بالانتماء والأمان، فتضطرّ لترك بيتها والعيش في بيت أهل والدتها، حيث تفقد الأمان والثقة بكلّ شيء، تفقد الانتماء، تعيش مغتربة مستلبة، فيتعاظم اغترابها واستلابها يوماً بيوم، يكبران معها، يرتحلان في داخلها، فتكاد تفشل في دراستها، لولا عنادها الذي يسمها، ويدفعها لترك البيت، والعيش مع عمّتها. يختار لها المحيطون بها فرعاً لا يلائم ميولها، فتترك كلّ شيء، وتهرب إلى اليونان، حيث أخوها غير الشقيق إدريس، ومن هناك تهرب وحيدة إلى باريس، تغيّر هويّتها واسمها، تنزع عنها لبوس اللاانتماء، تسعى جهدها للاندماج في المجتمع الباريسيّ، تترك ماضيها خلفها، تغدو مارقة في عرف أهلها وذويها في البلد، لا تلتحق بكلية الطبّ التي كان يفترض بها أن تدرس فيها، بل تفضّل البحث عن حياة جديدة، تثبت فيه أناها، التي تنقسم في معمعة البحث أنوات، كلّ واحدة منها تتشظّى وتنفجر، لتستولد شخصيات متعاركة في الداخل، تصدّر الضجيج إلى الخارج، عبر الموسيقى الصاخبة، وقيادة السيارة بطريقة مجنونة متهوّرة. تصادق شبّاناً فرنسيين، تعيش حياة منعتقة من كلّ القيود، تسافر كما يحلو لها، تمارس ما تشاء، تجعل من نفسها وجسدها حقل تجارب، تمارس سلوكيات تعويضية، تشذّ في بعض أفعالها، لكنها لا تفلح في الانسلاخ عن ذاتها وماضيها والشخصية التي تسكنها وتحرّكها وتدفعها إلى تصرّفات لا ترتضيها، لكنها تجد نفسها مرغمة على فعل ذلك، في محاولتها للتبرؤ ممّا يثقل كاهلها من وجع التيه، وجنون الضياع.
ترتبط صوفي بيران بعلاقة مع ألان، روائي فرنسي، تعيش معه في شقته أحياناً، وتمضي معظم أوقاتها في الترحال، كأنها تهرب من مواجهة ذاتها، فيكون الفرار سمة حياتها، ويربطها حبل سرّي بكل ما كان وسيكون، لا تستطيع قطع ذلك الحبل، لأنه يحتل الحيّز الأكبر من حياتها، يربطها ذاك الحبل بالأماكن التي هربت منها، وبأخرى تهرب إليها، يربطها بالمستقبل الضبابي، يشدّها إلى الماضي الكارثي، يأبى الانقطاع، يقوى بمرور الأيام.
حتى بعد أن تموت صوفي بيران في حادثة أليمة، تستكمل ابنتها الوحيدة، باولا، سيرتها الناقصة، كما ترث منها روايتها التي ينبغي لها أن تكمل كتابتها، كأنها تسدّ بذلك الفجوات التي ظلّت ناقصة من حياة أمّها التائهة، تحاول تجسير الهاويات بين الماضي الذي هربت منه صوفي والمستقبل الذي لم يسعفها، بين مدينتها المنغلقة حلب، وباريس التي لم تنجدها في العثور على ما ظلّت توسوس في البحث عنه. تعاني باولا قلق الانتماء نفسه، تستبطن شخصية قلقة ثائرة متمرّدة، تكون نتاج علاقة عابرة بين صوفي والشخص الذي كانت تكرهه، لكنها غرقت في علاقة مجنونة معه، وكانت النتيجة باولا التي حاولت تحقيق ما فشلت صوفي في تحقيقه. ترفض باولا الاعتراف بأبّوة لا تناسبها، تعتبر ألان والدها الحقيقيّ، تعيش في كنفه، ترتاح إليه، وهو بدوره يتركها على هواها، ولا يحاول التدخّل في قراراتها وحياتها. تقود المصادفة باولا للتعرّف إلى عمّة أمّها حنيفة، التي كانت تتداوى في باريس من مرض خبيث، شفيت بعد تعرّفها إلى باولا، وتحسّنت حالتها النفسية. تكون المصادفة المنطلقة من تكهّن عرّافة باريسية، هي المحرّك الرئيسي لكثير من الأحداث، ما كان يدفع باولا إلى الاستعانة بها بين الآونة والأخرى. تكون الفرصة مناسبة لباولا كي تكتشف ما ظلّ يؤرّق صوفي، فتقرّر خوض غمار مغامرة صعبة، وتنغمس في علاقة مع جوليان، قريبها البعيد. تسافر مع حنيفة إلى حلب، وهناك تطّلع على كثير من الخبايا، وتكتشف حجم المعاناة التي يعانيها الأكراد السوريون، في الموازاة مع غيرهم من المواطنين. تكتشف الكبت المتغلغل في النفوس والأجساد، التناقضات السافرة التي تغزو الوجوه والعقول، الحروب الوهمية التي تطحن البشر هناك، وتكتشف شرقاً بائساً تعيساً لا يمتّ إلى شرق “ألف ليلة وليلة”، وليالي الأنس، والشهوة المتأجّجة المستعرة، الذي كانت قد رسمته في مخيّلتها. يقابلها جدها وجدتها بالرفض واللامبالاة، تشفق على نفسها وعلى صوفي وعلى الجميع، كلّ واحد يحمل أساه ويضغط على جراحه. تتعرّف إلى حياة المدينة الحقيقية، تكون نظرتها ذات أبعاد مختلفة، فلا تكتفي بوجهة نظر واحدة، بل تستعرض مجموعة من وجهات النظر. لا تكتفي بالوقوف على التخوم، والتفرّج من بعيد، بل تدخل قلب الرعب، وتسرد كثيراً من القصص التي راح ضحيتها الأبرياء في خضمّ الانسياق وراء الأعراف القاتلة. تصوّر الشعوب المقهورة المغلوبة على أمرها، تحكي عن عالم مهمّش لا يملك الحقّ في التعبير عن أيّ شيء يخصّه، وتقدّم نماذج وعيّنات واقعية يتمّ التغاضي عن التصريح بها، وتروي الازدواجية التي تسكن الشرق، والسفور الذي يغلّفه. ترتبط باولا بقصة حبّ مع روني؛ ابن خالتها شيرين، تعود للزواج به بعد أشهر من سفرها إلى باريس، تحبل منه، تفشل بالاندماج في المجتمع الشرقي، الحلبي، فينتهي بها المطاف حائرة هاربة بحملها إلى باريس، مؤثرة الحرية على الحبّ والرواية والقرابة، فتضع هناك ابنتها إلزا في ظروف أفضل، في ظلّ حرية معيشة، لا في ظلّ نظام يسوده قانون الطوارئ، من السلطة والمجتمع سواء بسواء، وتسيّره الأحكام العرفية المكبّلة.
كأنما تدوّن الكاتبة رواية معارضة، محاكية، لرواية “موسم الهجرة إلى الشمال”، وإن كانت تنسج على النول نفسه، ولكن عبر شخصيات نسائية، صوفي، باولا… صور لمصطفى سعيد. تنتقل كلّ منهما من حضن إلى آخر، تقيم الكثير من العلاقات العابرة، تغزو الغرب في عقر داره، تستعمر الآخر جسديّاً، تنتقم منه على ما اقترفه في حقّها وذويها وبلدها من تهميش وإقصاء واستعمار ردحاً من الزمن. تنتدب نفسها وارثة لعالم يسِمه قلق الانتماء إلى المكان، وإلى الأمان، تورث ابنتها القلق نفسه، تورثها العناد والتحرّر والروايات. تورثها التخبّط والأسطورة، بحيث تكون كلّ واحدة منهما الخيميائية التي تسعى الى مضاهاة سحر الخيميائيّ، بل والتفوّق عليه. تمارس الشخصيات شعائر الحياة الغربيّة، ولا تتناسى الجانب الشرقي المشرق فيها. وبرغم ذلك تكون تائهة بين شرق وغرب، مرتبطة بحبل سرّي إلى كلّ منهما. همزة وصل تحافظ على التوازن ما أمكنها، كي لا ينفلت الحبل فيودي بكلّ شيء تمّ ترتيبه بالتراكم.
نوّعت الكاتبة في طرائق العنونة، قسّمت روايتها ثلاثة فصول، عنونت كلّ فصل باسم شخصيّة: صوفي بيران، باولا بيران، إلزا بيران. اعتمدت في الفصلين الأوّل والثالث على ترقيم الفصول الفرعية بالأعداد بالترتيب، حوى الفصل الأوّل سبعة عشر فصلاً، في حين حوى الفصل الثالث خمسة وعشرين فصلاً، بينما اكتفت في الفصل الثاني بالعناوين الفرعيّة، كما أبقت بعضها من دون عنوان. اشتملت الرواية، كعادة الكاتبة في رواياتها السابقة “اللامتناهي – سيرة الآخر”، “لوحة الغلاف”، “تراتيل العدم”، على أزمنة متعددة متشعبة، وأجيال متوارثة الهموم والهواجس والوساوس، يتبدّى ذلك في التقسيم التسلسلي للشخصيات المتناسلة المتعاقبة، كما يتبدّى في أحداث الرواية. لكن الكاتبة في “حبل سرّي” تبدو متخفّفة من ثقل اللغة، ومن ضغط الجانب الفلسفي الذي كانت تغرق فيه رواياتها السابقة.
“حبل سرّي” رواية صادمة غنيّة بالتفاصيل الممتعة، والقضايا الشائكة المتشابكة، استشراق معاكس، واستغراب هجين، برعت الكاتبة في تحبيكها وربطها بحبال سرية متينة، قدّمت أزمنة متعدّدة، والكثير من الأمكنة المتناقضة، هنا وهناك، وما بينهما من نقاط التقاء وتضادّ. تسبر الكاتبة أغوار المجتمع الغربي، الباريسي نموذجاً، في الموازاة مع المجتمع الشرقي، السوريّ الحلبي، بكرده وعربه وموزاييكه المتنوّع نموذجاً مقابلاً، تربط بينهما بحبل سرّي، هو في جانب منه عبارة عن شخصيات صوفي، باولا، روني، حنيفة، جوليان، شيرين… إلخ، الكثير من الآمال والآلام معاً، في جانب آخر، التيه الذي يبقى فاعلاً ومستمرّاً. يبقى الشرق شرقاً والغرب غرباً، والحبل السرّي الذي يربط بينهما، الجسر الذي يربطهما، لا يستطيع دمجهما معاً، ولا ينفكّ عن أيّ منهما. يظلّ مشدوداً وموضع تجاذبات لا تنتهي.
هيثم حسين
النهار
هل التعليق للنشر أم للاحتفاظ به في الارشيف.. نورونا بالله عليكم
السيد قارئ صفحات
اننا نسمح بالتعليقات التي لا تحمل طابعا شخصيا وتهجما على كاتب المقال أيا كان، أي تعليق سيرد لا يلتزم بآداب الحوار سيتم حذفه، اكتب ماشئت عن الرواية دون تناول الكاتب بشكل شخصي وستجد تعليقك منشورا دون حذف.
شكرا لك
موقع صفحات سورية
الصديق المحرر المحترم.. كنت قد نوهت في تعليقي الأول، أن رواية حبل سري هي ( في رأيي طبعا ) مجرد خواطر سبق للكاتبة مها حسن أن نشرت قسما كبيرا منها في الانترنيت. ولكن حتى هذه الملاحظة لم يتم نشرها في حينه. كما أن تناول خلفية الكاتب ( أو الكاتبة )، مشروع في آداب النقد في كل مكان. والكاتبة نفسها ، ومن يسوقون لها اعلاميا، تشدد كثيرا على خلفيتها النضالية الكذا، حينما يتم عرض هذه الرواية للقراء. فمن باب أولى أن يتساءل المرء، ما هو حاجة الكاتبة لهكذا تسويق إذا كانت روايتها بمستوى أدبي جيد؟ وما هو المانع ، بهذه الحالة، أن يتم كشف الخلفية الحقيقية لهذه الكاتبة طالما أنها تصر على تزييفها ؟
وأخيرا، أليس من المشروع التساؤل: من كان قد سمع بهذه الكاتبة في سوريا قبل فبركة حصولها على الجائزة الأمريكي ؟ وأصلا كم سنة من حياتها قضت في السجن لكي تحصل على جائزة تمنح لمن قضى زهرة شبابه في معتقلات تدمر الرهيبة وغيرها من جحور النظام السوري؟ هل عدمت الكاتبات ـ المناضلات الحقيقيات في سوريا: من أمثال حسيبة عبد
الرحمن ومنهل السراج وغيرها؟