إنها ليست الأندلس يا يسوع
سليم بركات
في سنوات الإعدادية، بعد منتصف الستينات من القرن الماضي، حَوَت مدرستي تلميذين يهوديين. كان الدين، على أرض سوريا، موزعاً حصصاً، بتدريسه، على الإسلام والمسيحية. ما من دين ثالث. والنقلة، التي لا محيد عنها، من مرحلة الإعدادية إلى الثانوية، تقتضي عبور الامتحان في الدين. فما الذي كان متوجباً على هذين التلميذين اليهوديين أن يفعلا؟ تسامح الجغرافيا – الموطَّدة بالدين المختار، والعروبة المختارة نقاءً يُنْكِر أعراقاً أخرى، في أرض لم “تتكلم العربية” قبل الغزو العربي، وهي لا تتكلم، قط، إلاَّ لغةَ نَفْسِها ـ هذا التسامح الفريد خيَّر التلميذين في تقديم امتحانهما “الديني”، للعبور إلى الثانوية، بأحد الدينين: الإسلام، والمسيحية.
لم يكن لليهودي، في أرض سوريا، أن يحصل على جواز سفر. لم يكن في مستطاعه مغادرة مدينة إلى أخرى إلاَّ بإذن “المباحث” – جوهر الدولة مذ عرفنا الدولةَ خارجةً من مكرمات سايكس – بيكو. وكان على اليهودي، كي يَعْبُر الإمتحان إلى الثانوية، أن ينحدر بخاصيَّة يقينه إلى امتحان “المطهر” المزلزل: إستعارة دين الآخر. ولما بدا مجحفاً لخيالَيّ التلميذين اليهوديين أن يسندا صليب المسيح إلى جلجلة امتحانهما الديني، فقد قبلا دفع “الجزية” للإسلام، فاختارا تعاليم رسوله، وفقه مفسِّري كتبه، وآيات كتابه الموقوفة على الحفظ عن ظهر قلب.
كان تلاميذ الصف الواحد ينقسمون بحلول ساعة درس الدين: المسيحيون يجتمعون بمعلمهم، ذي الثوب الكهنوتي، في غرفة، والمسلمون في غرفة بجمعهم، المضاف إليه تلميذان يهوديان، طالما نقلنا أبصارنا إليهما حين يأخذهما “الحطُّ” في مقام يجهر اللسانُ الديني فيه بتوبيخ أسلافهما. حرب 1967، التي ربح فيها عبد الناصر، بالهزيمة، شعوباً تتضوّر ولهاً إلى الهزيمة في صورة زعيم “معبود”، أهالت غلبةَ الفخر بمنجزات الفتوح الكبرى على التاريخ. أُعيد الماضي راكضاً بين غرف المدرسة بأخبار دَحْر قبائل “المخادعين” شرقاً وغرباً، حتى استوى للهزيمة أن تنهض على قدمين من نصر كليّ.
لستُ أدري ماذا كان يعتمل في قلبَي هذين التلميذين، وفي خيالَي يقينهما المعتصَر بين درس الدين الإسلامي، وكتاب التاريخ “المدوِّخ” في كشوفه دسائسَ ملّةٍ ابتاعت عجْلاً ذهباً، وباعت الله – شذاذ الآفاق. لست أدري بأيّ نظرات كان أهل “الحي اليهودي” ينظرون، من حولهم، إلى الوجوه. لكن لم يحاصر أحدٌ كنيسَهم الوحيد في المدينة بدعوى حشدهم أسلحةً لتفتيت الدولة، بعد انتصار بني جلدتهم، كما ادّعى بعضٌ في كنائس أقباط مصر “تنبيهاً” منذراً بدسائس ملّة المسيح لاستجلاب الأجنبي الصليبي، إلى أرض الكنانة، هذه المرة.
تمَّت النُّقلةُ بنا – نحن تلاميذ الإعدادية – إلى الثانوية، لكن من غير التلميذين اليهوديين. اختفيا. اختفى أكثر الممرِّضين شهرة بين أهل قامشلو ـ ابراهيم اليهودي. اختفى عمداء العطارين من سوق اليهود. لا حاجة بنا للتخمين أين سيظهر الذين أحْكَمنا عليهم إقامةً في الشُّبهة: لقد عادوا “عبريين”، برِشَى الدولة العبرية للأتراك، إلى بني جلدتهم. وانتقل التلميذان من “إعدادية” التذكير بأذِلاَّءِ خيبر، وبني القينقاع، والنَّضير، إلى “ثانوية” موشي دايان “القاهر”.
لا حاجة لتمحيص، أو تمادٍ مؤرِّق في ظِهارة السجلات المكشوفة: كل فرسخ من الجغرافيا العربية استنهض عزائم الغيرة من ضياع الدين في الدنيا. مدارس، وكتاتيب، وتكايا، وزوايا، بلا ضوابط، يأخذ منها الصغير الغرُّ الطالبُ قسْطَ علومه دِيناً عن أيدي مَنْ قَدِرَ على حوزةٍ، أو منبر، باختصاصٍ أو من دونه، مُذْ عُدِمَت الرقابة على استباحة الفقه، ما دامت النيات طاعة الله، لا طاعة الدنيا.
لا نعرف المقدار، الذي تحصّلت فيه غيرةُ الغيارى، عبر القرون، على دِينهم. لكننا نَقدِر، ببعض الرويّة في الفحص، أن نستخلص الإعداد الأكثرَ تغليباً للعنف من منهاج التربية بلا ضوابط، في عقود سنيننا هذه، من بحر عدن إلى مغارب الشمال الأفريقي: أُفلتت الغيرةُ من عقال التدبير الخاص في إدارة التربية، إلى جهالة التنفيذ بعمومٍ في الخفَّة الدموية. سياساتُ تصريف “الهوى” الديني عن بؤس الأرضيّ، ومصالح الأرضيِّ جمهوراً وجماعات، لم تنتبه إلى ما ترعاه نماءً في ساحاتها ـ ساحة “السهو” عن ارتداد “السماوي” عليها عن أيدي فقهاء الخفَّة، وأساتيذ إدارة الغيرة، وجهابذة إعداد أمراء جماعات التكفير فالقتل. كان الأمر في علنٍ، تحت الأبصار المتغاضية، مذ ذهبت ظنون السلطان أن “التلهّي بالله” عن الماجريات في أمور “القطيع” يُنشئ حالاً من “ركود” المساءلة في حقوق الإنسان، ومقتضيات التسليم باحترامه. تمَّ، على مرمى الأبصار والبصائر، “إنجاز” العود على بدء الفتوح: ما توقف، في مكان ما من تاريخ الخلافة، باستتبابٍ على الحدّ المتحصّل للدين، وعلى حدود التكليف بما “يُطاق” في الجغرافيا الإسلامية، أُعيد وضعه على سكة إحراز “التماميَّة” حتى أخذِ الأرض، بكل دِيْنٍ عليها، إلى تصويبٍ قاطع في الحَصْريةِ – هدايةِ الدين الختام.
الأمرُ بتبسيطٍ هو من صلب النظر فيه، نزوعُ “المختارين” إلى التسيُّد حُكْماً وأحكاماً. “الهدنة” المستورة بنفاق التسامح تنهض، ثانية، هدنةً معلَنة. “حصانة” القدسيّ حُكراً على دينٍ تُوْجِبُ نزع الحصانة عن دينٍ، بالضرورات التي أوقف بها الله اختياره في المراتب، وحياً بعد وحيٍ، حتى الثبوت على نهائيّة. تستطيع هذه “النهائية” الآخرِيَّة – النَّسْخُ أن تتمادى “متصالحةً” مع الآخر على مصالحَ، وفوائدَ اشتراك، حتى الوقت الذي يأخذ فيه أحد “المختارين” قسْطَ يقينه بالأوحدية على وجوب التغليب. أمراءُ جماعات التكفير أطاحوا “الهدنة”، وقوَّضوا “التصالح”: هُمُ الآخِرِيَّةُ، التي أوجب اللهُ بها خضوعَ الآخَر بيقينه، أو بجزية تُجْبى.
لا صراعَ حضارات، أو حوار أديان، اجتمع على وصفهما المتخصصون بمذاهب الوجدان في التوصيف، بل صراع “المختارين”، وجدال “الغَلَبة” عن يديّ القضاء السماوي. قضاءٌ أوجبتْه ضروراتُ “الإعداد” حتى جلاء المُلْزِم من التأجيل. وها هم أمراء القتل يعجِّلون بـ”تطهير” أرض الإسلام، وتلزيم الحسم على مبدأ إكمال الرسالة بإحقاق حقّ “الآخرِيَّةِ” المختارة على سواه؛ إحقاقِ حقّ حصرية مُلْك الدين في إدارة الدنيا. ها هم، من الوجه الأكثر فداحةً، يُبطلون اختصاص فُتيا التَّقية بأرض غير الإسلام: كلُّ دار هي دار حرب، وعلى الفتوح أن تُسْتكمَل حيث أوقفها الزمن.
طائرات متفجرة. أحذية متفجرة. أجساد متفجرة ـ تلك هي الرسالة. المبشرون بعدالة الدمويّ قادمون وقد أرهبوا الأخرين، حقًّا، فأخرجوهم عن طور المستأمِن إلى طور المرتاب، وعن طور المُضيف إلى طور المُدافع عن يقين مكانه. لقد قدَّم الغرب المسيحي للمسلم المهاجر من بلده طوعاً، أو كراهةً، ما لا يُعضُّ به على يده: تغاضٍ عن تبشير “المؤسسة” الإسلامية بما تريد، والسعة على عمارة المسجد كيف أُريد، وتوكيل القيم الدينية للوافد – زواجاً، وطعاماً حلالاً، وزيّاً براقعَ وحُجُباً -بزمام القوْدِ في الشؤون. وأتحفه بحرية كحرية أهله، وحقوق كحقوق أهله، وكرامة أمام القضاء ككرامة أهله أين منها ابتذال المفاضلة بين مَناله في غربٍ، ومناله في دار المهاجر الأولى؟ أرُخِّص في بلد المهاجر المسلم لمسيحي ببيع الخنزير، وإدارة ماخور، وتشريع زيٍّ منحسر عن “عورة”، وبناء كنيسة؟ ما أُحِلَّ للمسيحي، بضمان “الهدنة” اللامعلنة، باتَ مُنْكراً: على المسيحي أن يصوم شهر رمضان في الجزائر(!!!!!).
لم نسمع بيهودي، أو مسيحي، أو بوذي، حمل “نِكالَ” يقينه قنبلةً في الجيب إلى سوق بلدٍ مسلم. لم يجرِّد غارةً بطائرة تسقط على من سقط. لم يفجر نفسه في حافلة طريق. فلمَ لومُ مَنْ أتتْهُ الهَوْلةُ من سمائه، وأنفاق قطاراته؟ ثم لم يُسَكَّن روعه، بل أقرَّه المهاجرون على الروع أكثر بردِّ فعل على ردِّ فعل غلوّاً في الزيِّ المُفارق، وغلوّاً في رمزية الأسماء، وغلوّاً في المطالبة بـ”مستلزمات” إسلامية فائضة عن فهم الغربيّ للملتجئ إلى داره هرباً من إقتصاد بلده، وظلم بلده، واحتقار بلده لإنسانيته. فهل في الأمر مطالبة للغرب بتسليم مفاتيح “بيت المقدس” الجديد إلى أمراء الدم؟
يذهب الشُّراحُ النُّظَّارُ في مراتب “إدارة الحقد” إلى توقيف موجباته على تحريض أسَّس له “الهول الاقتصادي”. أزُحامٌ على الأرزاق يُحرَّف إلى زحام في الحقد على الأعراق؟ أتنفيسٌ للهمِّ، وللغمِّ، عن معضلات السوق يإيجاد “المُعْضِل المهاجر”؟ لو أجيز – بقسْطٍ مفرطٍ في تهافت منطقه – أن “مختبرات” النفسانية السياسية، في الغرب، تصْرِف حقدَ شعوبها على “الهول الاقتصادي” في اتجاه المهاجر، لا الدول، لأُجيز الوجهُ الآخر من “دينار” المنطق: الكونُ المسلم يصرِف حقدَ شعوبه على دوله صوب المسيحي صَرْفاً به عن هُوْلَة الإقتصادي. ألَئِنْ كانت هذه الهُوْلةُ تأخذ “المسيحي” الغربي إلى غلواء الريبة من منافسه المسلم المهاجر إليه في سوقه، فأيٌّ من بواعث الهولة الاقتصادية، في مصر، يأخذ المسلمَ إلى مشاعر القهر من “منافسة” القبطي له في سوقه؟ أهو “الاقتصاديُّ” يعمِّم مبادرته الدموية لحل المأزق؟ في الغرب قهرٌ من سقوط الطائرات عليه مُذْ قدَّر أمراءُ القتل وجوبَ الحسم فأبطلوا اختصاص فُتيا التقيَّة في دار غير الإسلام، فساووها بدار حرب، وفي مصر هلعُ القبطي ممن حسموا وجوب “تطهير” الأرض، وإحقاق حصرية مُلْك الدين الواحد بحقِّ “الآخِرِيَّةِ” المختارة؛ الآخريَّةِ – النَّسْخِ النهائي.
وماذا في العراق؟ منطقٌ مبتذل في الحِجاجة أن الأميركي لا يبذل جهداً لحماية المسيحي. لماذا على الأميركي أن يحمي المسيحي هناك؟ مقتضى القانون قيامُ المحتل، حُكْماً، بحماية كل فرد في نطاق سلطته، و”إدارة” الحياة، وحقوق الحياة، على موجبات الأصول في أحكام احتلال أحدٍ لأرض أحد. العقدُ الأخلاقي، وعقدُ الشراكة في المصير، وعقد التاريخ، وعقد الحق في الأرض، هي العقود، التي تُساءَل في محنة المسيحي. لقد أخلَّ “العقد الديني”، الآن، بكل عقد. لا يُسأل الأميركي الغازي، بل يُسأل كيف انكشف الغطاء عن شيطان من “صناعة” أُمِّ المكان وأبيه. كراهيَّةٌ تُلْمَس مكتملةَ الجوارح ببلاغة التربية قروناً لم يأت بها الأميركي محمولةً على دبابة. الكراهية المستحدثة من أرَقها القديم صناعةٌ منزلية؛ تدبيرٌ منزلي في التأهيل. فلْيشرحْ أحدٌ ما كرمَ العربي مُغْدَقاً على خادمات من آسيا غرْزاً بالمسامير في أجسادهن، ولْيُؤَوِّلْهُ بهُوْلة الإقتصاديِّ إن استطاع تأويلاً، كي نصرف النظر عن “تعارض الثقافات” الموجبة لكراهية الغربي (بلا إطلاق) للمهاجر المسلم، حيث تغدو ثقافة المهاجر مساءلةً للغربي في “بداهة” أمنه، وإدارته للحياة في دولته، فيما لا تسمح “وضاعةُ” أعراق الخادمات المغتصَبات بمساءلةٍ في “تسامح” العِرق “المختار” تسامحاً يكتفي بالرَّكْل، واللَّكم، وغرز المسامير في اللحم، لا غير.
كان على مواثيق القربى، و”رفاهة” التسامح أن تحمي المسيحي، وليس الأميركي. حاكمٌ من بعيد الجنوب العربي يجزم أن “الغلواء” في الدين أمرٌ “وافد”. من أين؟ لا معنى للتساؤل الرثّ. “التسامح”، هنا، معصومٌ، وبعضُ “الخرْقِ” استثناءٌ فيه. “تسامحٌ” لا ينجو حتى من ملّة الدين الواحد يذبح أحدُهم الآخرَ، بالأسلحة الحربية، تزاحماً على مَنْ يَؤمُّ جماعةً في صلاتها: بضعة قتلى، وبضعة جرحى، في مسجد بباكستان، تحسمُ صلاةَ العيد.
ردّ البعض “خرْقَ” التسامح المعصوم، في العراق، إلى “مسيحية” المحتل. فَلِمَ نستنكر ريبةَ الغربي من المسلم “احتلَّ” روحَه بهواجس أن ينفجر جسدُه في طائرة، أو قطار؛ وهواجس أن يُطالَب، ذات يوم، بوجوب صومه ـ هو المسيحي، وأن “تحتشم” نساؤه؟ وأطلَّت من وراء “القصد الخجول” في ذريعة تحميل “المسيحية” شرور خرق التسامح، المفاضَلةُ النزيهة: ماذا كان الأفضل للعراق: صدَّامُ، أم الأميركي؟ مفاضلاتٌ بين الشرور. لكنّ المفارقة الشيطانية أن الرئيس الأميركي، الغازي، الأسوأ في تاريخ بلده، والأكثر تبلُّداً، كما يُقال فيه، مكَّنَ عراقياً من قذفه بالحذاء، في جغرافيا شاسعة لم يتجرأ عربي فيها أن “يقذف” شرطياً بنظرة، من غير أن يختفي القاذفُ، هو ونسلُ أسلافه معه. أمناءُ “البطولة” العربية اكتشفوا في الحذاء أملاً باستعادة الشرف المهدور. أمناء النفاق العربي، ومحامو الأنظمة، لم يكلفوا انفسهم، يوماً، رفع لافتة خجولة احتجاجاً، عن بُعدٍ من حدود دولة عربية يدخل ناسُها السجون ولا يخرجون. لكنهم، أجمعين، انبروا دفاعاً عن رئيس دموي، وبذلوا سخاءً من العروض دفاعاً عن “الحذاء” – آخرِ رميةٍ في قوس أُممهم المكسورة.
يتلهى خيال المستخفّ بالرعاعة الأمَّة، عن منابر فضائية ابن لادن من خليج فارس (وقد سمعنا هذا) بتوليد الظرائف الطرائف تحليلاً: الأميركيون يدفعون المسيحيين، اغتيالاً في الخفاء، إلى الهجرة إثباتاً للبرهان “الشرير” على نهاية التسامح الإسلامي – الغربيّ سينتصر، بثبوت هذا البرهان، للمسيحي المهاجر بفيضٍ إضافيّ من الحقد على المهاجر المسلم، منصرفاً بحقده هذا عن مساءلة الدولة في الفشل الإقتصادي المزري (!).
إنه الأميركي، إذاً، وليس زعمُ التسامح، مَنْ ينتج “النزوح” الأقسى في تاريخ الإسلام. الأرجح أن قرار المجتمع الأممي بحماية الأقلية المسيحية، في هذه الجغرافيا العربية، سيُحْسَب، بفيضٍ من ندوات “المفكرين” الأعراب، شرارةَ النداء الصليبي إلى حروب جديدة. “مفكرون” أعرابٌ، إنْ أفتى شيخُ قرية في متاهات الصومال بقتل الأميركي، تداعوا إلى فضائية ابن لادن الكبرى متأوِّلين تداعيات الفُتيا المزلزلة. “مفكرون” يُساقون، كلَّ لمْحٍ، إلى حرم الفضائية، مرفهين بألقابٍ لم تُحْسب، قَبْلاً، مباحةً بهذا التصريف المهين للألقاب: تحت كلِّ اسم لقبُ “مفكر”. كان ضامنُ الأخلاق في نِسْبة العِلْم إلى عالِمٍ مفكرٍ هو ما أحدثه من تصريف في نظر اختصاصه، وما صوَّب به المناهجَ، أو أرساها: ماركس. هيغل. دريدا. فوكو. سارتر. لوكاش. فرويد… الخ. طه حسين. ادوارد سعيد. الخطيبي. العروي. أبو زيد… الخ. مفكرون (!). الرعاعةُ مفكرون، على تصريف الإنسان، بإطلاقٍ، حيواناً مفكراً (ناطقاً)، فأيُّ احتقار إذْ يضاف إلى اسمٍ لا دراية له بقراءة آية، أو إيراد حديث، أو النطق صواباً بجملته العربية، لقبُ “مفكر اسلامي”؟، أو يضاف إلى نويقد في الأدب لم يثبت له سطرٌ من “لَدُنْه” نظراً في الأدب، لقبُ “مفكر عربي”؟ ألقاب مهدورة كهدْر المبشرين بـ”سلاح الأقباط” في الكنائس، والتهويل عليهم بخطف النساء المهتديات، دمَ الحاضر المصري. إنهم “يمهدون” للمدافعة ضد “نداء الصليبية”، التي ستفتح أبواب عواصمهم للغزاة يمعنون “تفتيتاً” في الأمة الصلدة، المتراصّة البنيان، لا يهزها شيء سوى كرة القدم: كادت حربٌ تشتعل بين الجزائر ومصر بوقودٍ من ركلات اللاعبين، وكُرةٍ مطاط، أو جلد، محشوّة هواءً. داحس وغبراء إعلامية ذهبت إلى هدر “العِرْق” باستقواءٍ في الفخر: جزائر المليون شهيد، ومصر الأهرامات. أوَيلعنون، بحقّ، السيدين سايكس وبيكو؟ لقد “حصَّنت” كلُّ ملَّة من العرب جغرافيا سُكناها بخصائصَ “قدسية” في الأناشيد، وبتأليه مباهج طبيعتها، مع وَسْمٍ هو الأعظم في تثبيت الفرادة لكل دولة: شخصية إنسانها “الفذة”.
أَوَ بكاءٌ، بعدُ، على السودان أن “يلحق” (متأخراً) بأشقائه، الذين “حصّنهم” سايكس – بيكو بقدسية “المجتزآت” مستقلةً عن جِرْم “الأصل” ـ الأمّ المتراصّة الحجرِ والتراب؟ ما النعمة في هذه الجغرافيا “المتراصة” وهمياً بـ”مَحْتِدِ” القربى المجيد؟ أقطار كالأصفار على الخرائط جُرُماً لا تُنكَر، لكن يُنْكَر حدوثُ مثلها الآن (!!). فلْينْجُ، من يستطيع، بقطعة أرض “شُرِّع” مثلُها، قبلاً، لغيره. فلْينْجُ، من يستطيع، من الظلم “الموحِّد”، والقهر “الموحِّد”، والإهانة المقدسة “الموحِّدة”. فلْيَنْجُ كل “قطيع” صغير بفرائه، أو وَبَره، أو صوفه، من عصبية الآخر عِرْقاً، ودِيناَ، ومذهباً، وطائفة.
لا عربيَّ، في موطن، يشبه الآخرَ إلاَّ بنفاق التاريخ في التوحيد. أيقبل مواطنُ دولة، اتحادَ دولتهِ مع جيران من عِرْقِه؟ لكل واحد فخرٌ يسمو به “فريدُهُ” البشريُّ، وفريدُه الأرضيُّ تضاريسَ وأهويةً. فليرفعوا شكرَهم إلى سايكس – بيكو، اللذين يبتسمان لنسياننا لواء اسكندرونه، والأهواز، وطنب الكبرى والصغرى، وخليج فارس. هما يعرفان ما فعلا: هنيئاً لكم بالحذاء. أَمْ أنه القبطي، الذي “يحشد” الأسلحة في كنائسه سيأتي أُممَ العرب بالغزاة المفتَِّتْينَ؟ “جامعة الأنظمة العربية”؛ هيئاتُ القانون العربية؛ الأخلاق “الكبرى” في مباني المعلم الأرسوزي؛ فلسفة الشخصية العربية الفريدة؛ “مؤتمرات القومية العربية” المبشرة بالعثمانيّ أميراً لاستعادة الشرف المهدور، أسوةً بالحذاء المنقذ من “كبوة” الأمة كلِّها، تنتظر البرهةَ الأخيرة من اكتمال “المُعْضلِ”، لتأتي بـ”بيِّنَتها” على تآمر الغرب: لم تفعل شيئاً في غزو صدام للكويت. لم تفعل شيئاً في التمادي المتعالي للمسلم السوداني على المسيحي السوداني بإرغام نسائه على الحجاب. لم تُعِرْ نكبات دارفور لَحْظاً. لا تتحرك للمساءلة في استفحال الحقد على القبطي. لم تفعل شيئاً في لبنان، الذي غدا مزاراً إيرانياً، من بوابة سوريا، أوجبه، فرْضاً، تحريرٌ مقدَّسٌ للأرض يُقايَضُ به احتلالٌ مدنَّسٌ لبنية النظام وإدارة قراره، متحصِّلاً من “هُوْلة” “السلاح”، و”استكبار” الطاهر. والمزار الإيراني قد يُعمَّمْ. لِمَ لا؟ قضاءٌ إلهيُّ أَلْهمَ حاكماً عربياً تصريحَه بوجوبِ اقتداء العرب بفارسَ تبدِّلُ رؤساءها أعواماً بعد أعوام، ولا يُبدِّل العربيُّ سلطاناً. وقد نسي أن يستدلَّ في “كشفه” المُحِقِّ إلى القضاء، ما الذي أوجبَه حاكماً أبدياً.
حين تبلغ الصرخةُ، التي تسدُّ عنها الهيئات العربية آذانها، أسماعاً خارج الحدود، فيحضر من يحضر لـ”نجدةٍ” بحسب “هواه” الأخلاقي، أو غير الأخلاقي، يبدأ إظهار “البيِّنة” على تدخل الغرب “السافر” في شؤون الداخل العربي “الحصين” تقويضاً. وستدَّعي هذه الهيئات، والدعاواتُ الناطقة بالعربية، أنها قادرة على “التسويات”، في مجالس “مفكري” فضائية ابن لادن: سيرضى المظلوم إن أُعطي بعضاً ممَّا سُلِبَ من حقه، فلماذا يتدخل الغربيُّ؟ “الكرم” في التسوية جاهزٌ، أبداً، بعد فوات الأوان (كشأن دارفور، مثلاً). وقد لفتني في استطرادي غير الأثير، ما يشبه شيئاً من “الكرم” تُسوَّى به “المَظْلَمةُ” أخلاقاً، عند حاتم الطائي، مضرب الخصيصة الفريدة في قوام الشخصية العربية، المفطومة على الشجاعة، ونجدة الملهوف، وإكرام الضيف… الخ. الطائي، أبو الكرم في تثبيت الخرافة – المثال سرداً حكائياً، كان عائداً من “إحدى غزواته”، كعادة العرب تتغازى وتتسالب (عن “الأغاني”، بتصرُّفٍ من الذاكرة) فالتقى أعرابياً. ساءله مقصَده، فرد الأعرابيُّ أنه يقصد حاتماً بمدحٍ، فاستنطقه الطائيُّ أن يُسمِعَه المديحَ (والأعرابي لا يعرفه) ليرى جودته، فنطق الأعرابي بمحفوظ منظومه، فوهبه حاتم، استحساناً، سريَّةً من “النوق العصافير”. كرمٌ لا يُجارى. لكن مختصر الحكمة غير الأثيرة من “أخلاق” هذه الحكاية أن حاتماً العائد من “إحدى غزواته”، كان قد انتهب أسراباً من النوق ممن غزاهم، فجوَّع خلْقاً بسلبهم، وقتل خلقاً، ويتَّم خَلْقاً، ثم أغدق من سليبه المغتصَب “كَرَماً” على ممتدحٍ بقريضٍ (!!!!). فلْينتظرِ المسيحيّ، إذاً، كرماً بعد “غزوة” تستفحل منها حالُه في الأمصار كلها، كحال أهل دارفور السودان، وجنوب السودان، فتفيض عن لجم العرب للأحوال كعادتهم أمَّةً بعد فوات الأوان. أمْ أنّ في الأمر “قَوْمَةً”، إلى ثأرٍ من التاريخ: خسروا الأندلس، هناك، بعد غزوها، فأرادوا “تصويب” خسارتهم؟ لكن الأرض، هنا، ليست أندلسهم يستردونها من مسيحيٍّ لم يغزُها مذ كانت له بيقينها طوعَ يقينه ¶
ملحق النهار الثقافي
حين تبلغ الصرخةُ، التي تسدُّ عنها الهيئات العربية آذانها، أسماعاً خارج الحدود،