انتخابات معلبة!
ميشيل كيلو
قال الصديق القادم من القاهرة، وهو أحد مؤسسي حزب الوسط ويجمع في شخصه ووعيه أحسن ما في الديموقراطية والقومية والإسلام السياسي، متحدثا عن نتائج الانتخابات الأخيرة في مصر: إن هذه كانت معروفة بالتفصيل لكل من يتابع مجريات الحياة السياسية اليومية، وعلاقات جماعة السلطة مع الشارع السياسي المصري، معارضا كان أم مواليا، ومضيفا: قبل الانتخابات قيض لعديد من المعارضين أن يلتقوا مع الضباط المسؤولين عن إدارة الحياة العامة المصرية في جهاز مباحث أمن الدولة، الذين عرضوا عليهم مقاعد نيابية، وأبلغوهم بالتفصيل الممل كيف ستتم الانتخابات ومن سيفوز ومن سيخسر، ووصلوا إلى حد تسمية النواب عن كل دائرة وموقع.
قال الصديق، قبل ظهور نتائج الانتخابات بساعات: إن أحدا لن ينجح من مرشحي جماعة الإخوان المسلمين في الدورة الأولى، وسينجح منهم أحد عشر نائبا في الدورة الثانية، دورة الإعادة (أعلن اليوم) 2/12/2010 (قرار الجماعة عدم المشاركة فيها)، وإن الوفد سيكون القوة الثانية في البرلمان، من حيث العدد وليس من حيث الوزن، فهو سيحصل على عدد من النواب يجعله حزب البرلمان الثاني، لكنه لن يمنحه أي وزن يذكر ولن يزيد دوره في الحياة السياسية وحياة الدولة، بينما ستعطى مقاعد قليلة لحزب التجمع، على أن يرشح سيدات معروفات بثقافتهن ليكن نوابا عنه. عدا هذا، سيكتسح الحزب الوطني جميع الدوائر والمواقع بلا استثناء على وجه التقريب، وسيحكم قبضته على البلاد والعباد، وسيكون المجلس له وحده، للأسباب التالية:
1 ـ احتمال شبه مؤكد لوفاة الرئيس حسني مبارك خلال فترة تتراوح بين تسعة وعشرة أشهر (والأعمار بيد الله طبعا)، بسبب سرطان البانكرياس، الذي يعاني منه، والعملية الجراحية التي أجريت له في ألمانيا، وقال في أعقابها لمقربين منه: الجماعة عايزين يتخلصوا مني، ويقصد بالجماعة أقرب الناس إليه وبعض قادة الحزب الوطني. بما أن مبارك هو بيضة القبان التي تحفظ توازن النظام، وبما أن مسألة التوريث صارت من الماضي، فإن غيابه قد يحدث فراغا سياسيا في البلد وزلزالا في السلطة، وتاليا في الدولة عموما، لذلك يجب إحكام قبضة أهل السلطة على الحكم، استعدادا لمفاجآت غير سارة يمكن أن تترتب على وقوع تحول نوعي في حركة الاحتجاج البالغة الاتساع في الشارع المصري غير السياسي، يحتمل أن يؤدي تصعيدها إلى تبدل في العلاقات السياسية بين السلطة والمعارضة، وتاليا إلى استدعاء تدخل أكثر فاعلية وحسما للعسكر ومؤسستهم، التي ستجعل جماعة الحزب، وخاصة المعروفين منهم بفسادهم واستهتارهم بمصالح المجتمع، يدفعون ثمن بداية جديدة مرجحة، ستعيشها مصر في ظل الظروف المتغيرة.
2- قطع الطريق على احتمال أن تقوض الصراعات الداخلية الحزب، عند غياب الرئيس، وأن يتخلق وضع داخل السلطة وعلى صعيد الشارع يمكن أن يجبر مؤسسة العسكر، الممسكة بمفاصل القوة الخفية التي تدير البلاد، على التخلي عن العلاقة القائمة اليوم بينهم وبينه، فلا مفر من جعل البحث عن بديل لقادته الحاليين صعبا قدر الإمكان، حتى لا يقع انهيار كامل في تنظيم كان ويبقى سلطويا، يعاد إنتاجه من فوق، وتديره القوى الخفية التي تدير البلاد وتقبض على الأمور، جملة وتفصيلا، ولا يستطيع أحد مواجهتها، سواء في المعارضة أم في الموالاة، وتعمل بتنسيق قوي بين الجيش والأمن، عبر رمزيهما البارزين: المشير طنطاوي واللواء عمر سليمان، الرجلان القويان حقا في النظام، اللذان يديران حياته الداخلية وعلاقاته من وراء الكواليس، ومن الممكن أن يكون البرلمان الجديد، الموحد اللون والانتماء، مطلبا لهما، يكفلان من خلاله أيضا عملية انتقال هادئة للسلطة، بعد وفاة مبارك، خاصة وأنه يخلو من كتلة معارضة قوية قد تتحول، في حالة وجود فراغ سلطة، إلى اختراق حقيقي للحكم، من شأن دوره الرسمي خلق مصاعب لن تكون المؤسسة العسكرية / الأمنية بحاجة إليها أبدا. في لعبة التكامل والابتزاز المتبادلة هذه، يتم ضرب مجموعة عصافير بحجر واحد، فالحزب متماسك ومسيطر كما لم يكن من قبل، من حيث الظاهر على الأقل، والمعارضة غائبة عن البرلمان كمؤسسة رسمية وحيدة يحق لها الوجود فيها، وبينها وبين الشارع هوة يبدو أنها لا تعرف كيف تردمها في المدى المنظور، والشارع محبط نتيجة عدم وقوع نتائج عملية وسياسية على حراكه، بينما يتلقى ضربة معنوية وسياسية يمثلها انفراد حزب سلطوي مكروه في السيطرة على برلمان البلاد، وخفة الإخوان والوفديين التي لا تصدق في التعامل مع انتخابات على هذا القدر من الأهمية، يعرفون مسبقا أنها ستكون معلبة ومعروفة النتائج، وأن غايتها الرئيسية شد مفاصل نظام يواجه تحديات هائلة تتصل بوجوده، في مجتمع يغلي بصورة يومية، قد تؤدي مطالباته العادلة إلى بروز تعبيرات بوسعها التصدي لحل أزمته كتلك التي برزت في أحوال مشابهة على وجه التقريب عام 1952، مع ثورة يوليو وحركة الضباط الأحرار، الذين قفزوا من فوق السلطة والأحزاب في آن معا، وعبروا عن غضب المجتمع ضد النظام الفاسد. ومع أن صديقي لم يتحدث عن وجود أعراض تشير إلى انقسامات داخل المؤسستين العسكرية والأمنية، بل أكد، على العكس من ذلك، تماسكهما، المنظور في علاقة رمزيهما طنطاوي وسليمان، فإنه ركز كثيرا على دورهما في حل يطاول مشكلات السلطة، ستختلف أدواته وسبله بعض الشيء عن أدوات وسبل السلطة الراهنة.
3- تقديم رد على حركة الشارع والمعارضة يتفق وطابع النظام الشمولي، الذي يرفض في مثل هذه الحالات الاستجابة لأية مطالب مجتمعية، سياسية كانت أم غير سياسية، ويرد بشد صفوفه على أي رفض شعبي له، قبل أن يقدم حلولا للأزمات، تمعن في تجاهل إرادة الشعب وتفرض وقائع جديدة ليست غير إطار مختلف بعض الشيء تنمو الأزمة داخله وتتغذى منه، وتتعقد وتتراكب، ليكون ثمنها بالنسبة إلى المواطنين أكبر، وكي يقلعوا عن المطالبة والاحتجاج، فلا تسوء أحوالهم أكثر مما هي سيئة.
نتائج الانتخابات هي رد نظام شمولي غارق في المشكلات والأزمات والخلافات على احتجاجات ومطالب شعب مصر، ورد الشمولية على ما أسميته في مناسبة سابقة ‘خروج الشعب من النظام’، وهي ضرب من التحدي في لحظة أزمة عامة يرجح أن تصير قريبا أزمة سلطة، بمجرد أن يغيب مبارك. ومن المعروف أن الطبقات الحاكمة ترد دوما على حالات كهذه بتوحيد صفوفها وإحكام قبضتها على كل كبيرة وصغيرة، ريثما تعثر على حلول ومخارج من الأزمات التي ألقت بعبئها القاتل على كاهل شعبها ووطنها، وتهتدي إن اهتدت – إلى خطط تتيح استمرار سيطرتها في شروط متبدلة، بحيث يبقى الشارع خاضعا ويقبل الظرف الجديد، المختلف في الظاهر عن الظرف السابق له والمتفق معه في صفاته الجوهرية الرئيسة.
بإخراج الاختراق المعارض من البرلمان، وبوحدة السلطة في دوائرها ومستوياتها، ومع عجز المعارضة عن اختراقها، وترك مجال يضيق أكثر فأكثر في الحياة العامة لحركات الاحتجاج غير المؤطرة حزبيا وسياسيا، يعتقد أولو الأمر في مصر، ممن يمسكون بمقدرات بلادهم من وراء ستار، أن الاستقرار سيصمد، وقهر المجتمع سيتواصل، والاستعداد للبديل سيكون من داخل النظام، ليكون محدودا وقليل الكلفة وقابلا للضبط.
إنها انتخابات معلبة، ليس لأن الصديق أخبرنا بنتائجها قبل ظهورها، بل لأن لها هذه الأهداف والمرامي التي تتجاوز البرلمان إلى النظام، وتعد مؤشرا يقع اليوم إلى ما سيحدث غدا، وهو لن يكون بالتأكيد غير استمرار للأزمة العامة، مع إضافة مفردات جديدة إليها، مع ما سينجم عن ذلك من إحباط لآمال معظم المصريين من جهة، وخيبة لدى عرب كثيرين يعلقون في كل قطر عربي ومصر آمالا كبارا على التغيير في مصر، لاعتقادهم أنه سيكون بداية التغيير في بلدانهم أيضا.
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي