إيران والمحكمة الدولية
غسان المفلح
مشكلة المشروع الإيراني في المنطقة تتلخص في أنه يستخدم غالبا وسائل ذات تحصينات مذهبية، سواء طائفية أو دينية. هذه المشكلة لا تجدها لدى المشروع التركي، الذي يعاني هو الآخر من نقص في المناعة الديمقراطية، جراء عدم معالجته للقضية الكردية بشكل ديمقراطي يضمن سيادة الدولة التركية وضمان الحقوق السياسية والثقافية لمواطنيها الأكراد. هذا ما يجعل المشروع التركي عرضة للضغوط، أو عرضة لتسعير الشعور القومي لدى الترك والكرد، إضافة لابتزاز بعض النظم الإقليمية والدولية للطرفين. المشروع التركي يحاول الاستفادة من الاقتصاد وثقل الدولية التركية سياسيا على الصعيدين الدولي والإقليمي من أجل ضمان حصة من الهيمنة الإقليمية، من دون اللجوء لوسائل سيطرة عسكرية، كما تفعل إيران مع حزب الله والحوثيين على سبيل المثال.
قبل أن نمضي في الحديث لا بد لنا من القول ان الاستخدام المذهبي طائفيا ودينيا لا يقتصر على إيران بل يتعداها لدول إقليمية ودولية أيضا. هذا الاستثمار للأديان والطوائف لازال مربحا، ولم يمل معدل ربحه نحو الهبوط على ما يبدو، وأسهمه في البورصة السياسية في ارتفاع، كنا نتوخى خيرا في العراق، لكن حدث ما حدث. الفارق بين استخدام الدول الكبرى والإقليمية لهذه الورقة، أن لديهم أوراقا أخرى، عسكرية واقتصادية وقانونية عبر الأمم المتحدة. أما إيران فليس لديها سوى أموال نفطية وأسلحة تشتريها لصالح أدواتها في المنطقة كأدوات ما قبل وطنية بالنسبة لمجتمعاتها.
ضمن هذه اللوحة المكثفة تحاول إيران إفشال المحكمة الدولية، ولسبب رئيسي واحد، الخوف على سلاح حزب الله، والخوف على حليفها الرئيسي النظام في دمشق. ما يلفت الانتباه في السياسة الإيرانية تجاه المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الراحل رفيق الحريري، أنها تحاول ألا تكون طرفا من جهة، وتراقب السياسة الإقليمية والدولية بخصوص علاقتها مع النظام في دمشق. النظام في دمشق لا يمكن أن يسمح للمحكمة بأن تطال حزب الله ولا أن تطال أي مسؤول سوري، هذا أمر محسوم… وبالمقابل هو ليس الطرف الوحيد في تقرير مصير سلاح حزب الله لهذا لا يمكنه المساومة على هذه الورقة ما لم يكن هنالك ضوء أخضر إيراني، بالمقابل يتوهم من يظن أن السياسة السعودية تريد سحب سلاح حزب الله، وكذلك السياسة الإسرائيلية. كل طرف يحاول أن يجعل وجود هذا السلاح خدمة لأهدافه السياسية، ولكن كلا من موقعه.
لبنان لازال يشكل مقبرة لأي مشروع سلام شامل أو لأي سياسة غربية ودولية لا تراعي مصالح النخب العربية المتسلطة، ولا تراعي السياسة الإسرائيلية في تصفية القضية الفلسطينية. العراق حولوه إلى مقبرة، ولكن لبعده النسبي عن حدود إسرائيل، يمكن ان يكون مقبرة لأية ضغوطات على تلك النخب وغيرها وتفجيره بات سهلا كلبنان.
لإيران نصف العراق، والنصف الثاني تتقاسمه أمريكا والبقية الباقية. إيران تريد الملف اللبناني كجزء من ملفات أخرى تناقش دفعة واحدة بينها وبين الدول الأخرى سواء الدول الست التي تشكلت لمواجهة الملف النووي أو غيرها. لهذا إيران لن تسمح بالاقتراب من سلاح حزب الله، والمطلوب الآن أن يتخذ سعد الحريري، الذي ورط نفسه بقبوله منصب رئاسة الوزراء، موقفا باسم الحكومة اللبنانية يعلن فيه أن لبنان لم يعد يريد هذه المحكمة الدولية، وغير معني بعملها. هذا المطلب الأكيد الذي تريده إيران، في ما لو بقيت بقية الدول تريد تجزئة النقاش والتفاهم مع إيران في ملفاتها وحضورها الإقليمي.
إيران تدرك تماما ما الذي يريده كل طرف إقليميا أو دوليا منها ومن المنطقة عموما، وهي تدرك أيضا أن هذه الأطراف عاجزة بحمولتها الحالية أن تضع حدا للسياسة الإيرانية، والحرب التي يحاول أن يتغنى بمحصولها ساسة إسرائيل وبعض ساسة الغرب وتشدد الرئيس الفرنسي مع إيران، كل هذا نعيق في وقت ضائع. بالمقابل أي تفاهم مع إيران سيجعل إسرائيل وأوروبا في وضع بائس في ما لو تم تفاهم أمريكي إيراني كحزمة واحدة في كل الملفات. هذا التناقض أيضا تدركه السياسة الإيرانية التي أنتجت وضعا عراقيا جديدا في أفغانستان، بحيث أنها أجبرت دولا رئيسية من التحالف الأطلسي على طرح التفاوض مع حركة طالبان كألمانيا وإيطاليا.
إيران لا تريد سيف المحكمة أن يبقى مسلطا على حزب الله، ربما في مرحلة اخرى من الصراع أو التفاوض مع امريكا أن تتساهل في بقاء هذا السيف فوق عنق النظام السوري لكن من بعيد، مهما حاول بعضنا تصوير التحالف الإيراني مع نظام دمشق، إلا أنه في النهاية الأولوية هي لمصالح إيران كما تراها النخب الحاكمة هناك. لهذا هي في استقبالها الحافل لسعد الحريري في طهران، إنما لتعبر أنها قادرة على أن تكون الطرف الأكثر حضورا من معادلة(س- س) هذه المعادلة ليس بيدها عمليا سوى الضغط على سعد الحريري، والسعودية ليس لديها نية وربما لا تستطيع أيضا أن تفرض تنازلات على حزب الله أو حتى على العماد ميشيل عون، كل ما يجري الآن في كواليس (س- س) هو لإيجاد إطار لتنازل تيار المستقبل وما تبقى من قوى الرابع عشر من آذار، إطار يحفظ ماء الوجه. في النهاية إيران إذا خسرت سلاح حزب الله، فهذه خسارة لا تعوض، أما السياسة السعودية فإذا خسرت كل قوى الرابع عشر من آذار، فقادرة على تعويض وجودها في لبنان عبر الوسيط السوري، وهي قابلة بذلك لاعتبارات لسنا بصدد الخوض فيها الآن. وليس أدل على ما نقول سوى أن السياسة السعودية وقفت تتفرج على اجتياح حزب الله لبيروت في أيار/مايو 2008 وتركت وليد بك جنبلاط في مهب سيناريو تدوير الزاوية. بكل ما حملته للرجل من عقابيل.
هذا الوضع هو في قسم منه صناعة إيرانية، فهل تتخلى عنها ببساطة؟ أم أنها تريد احتضان سعد الحريري بعد أن يجدوا له مخرجا مشرفا، من دون أن ننسى أيضا أن تركيا تدعم موقف النظام السوري في لبنان، إضافة إلى أن أكثرية التيارات الإسلامية العربية، وإن كان بعضها يراعي الطرف السلطوي العربي، لكنها مرتاحة جدا للمكاسب الإيرانية لا بل تدعمها في بعض الملفات.
يفهم هنا وكأن إيران كلية القدرة في المنطقة، أبدا، ولكن بقية الأطراف الدولية والإقليمية كلية التواطؤ. الوضع الإيراني من زاويا أخرى أكثر ضعفا مما يبدو، ولكن العالم الآن مشغول بوثائق ‘ويكيليكس’!!
‘ كاتب سوري
القدس العربي