“حزب الله” يُمهِّد للحلقة الانقلابية الحاسمة؟
بول شاوول
في الذكرى الخامسة لاستشهاد جبران تويني هذا الفتى الاستقلالي الشجاع والشغوف وصاحب الكاريزما الشعبية، تبدو العلاقات بين الأمور والأحداث والاغتيالات وأشكال التعطيل، وتخريب الدولة، والتشكيك بالعدالة وضرب المؤسسات، أوضح مما قبل، لاستمراريتها، وتطورها ومحاولة تعميمها، تمهيداً ربما لمغامرات متجددة.
ولا نظن أنه من المُستبعد أَلاَّ نربط مثلاً بين محاولة اغتيال مروان حمادة (كفاتحة) واغتيال الحريري (كحدث) ومن ثم، وبعد قيام ثورة الأرز اغتيال بعض رموزها كالشهداء سمير قصير، وبيار أمين الجميل وجبران تويني، وجورج حاوي، ووليد عيدو وفرانسوا الحاج ووسام عيد، وانطوان غانم. ومحاولة اغتيال الياس المر والصحافية مي شدياق. هذه الاغتيالات عموماً تمت بعد قيام 14 آذار. ومُهّد لها “كمنهج” باستشهاد الحريري. حلقة واحدة مترابطة بنتائج غير متوقعة. فالذين قتلوا الحريري فوجئوا بقيام الثورة الشعبية. والذين ارتكبوا جرائم القتل بعدها، فوجئوا أيضاً بتنامي قوة 14 آذار وصلابتها، لا سيما بعد الانتخابات النيابية في دورتها الأولى والثانية، ووصولها إلى السلطة على حطام النظام الأمني السابق. وإذا بدا أن فعل العنف جزء ضروري ولكن غير كافٍ فيعني انه يجب وضع خطط مواكبة لضرب معنى هذه “الثورة” السلمية وانجازاتها، قبل استكمال عدتها المؤسساتية لترسيخ ما حققته، على صعيد محاولة بناء الدولة والجيش (ليس على طريقة إميل لحود طبعاً) والاعمار، واستنهاض الوضع الاقتصادي. (ا
لى هذا الأساس يمكن القول إنه رُسمت خطط وأجندات منذ اللحظة الأولى لنجاح 14 آذار، لتدميرها وتشويهها وتصويرها وكأنها “مؤامرة” على لبنان (!) بل أكثر وكأنها مؤامرة إسرائيلية أميركية.
هذا التشويه، (أو التلطيخ، أو التلويث) ليس جديداً علينا. فمعزوفات التخوين سادت أسماعَ الشعب العربي وغير العربي على امتداد عقود: لم يبق نظام عربي واحد لم يخوّن نظاماً عربياً آخر. وقد ورثت الأحزاب هذه النغمات المتبادلة بينها، بحيث صارت عنواناً للتعاطي، أو “فاتحة” لظواهر الاستبداد وَكَمِّ الصوت المختلف: ذهنية الأحادية المطلقة سواء كانت توتاليتارية أو استبدادية.
ونظن ان استعادة لغة التخوين والتهويل والترهيب وما رافقها من تحركات سلبية ضد المؤسسات من محاصرة الحكومة إلى تعطيل المجلس النيابي، فإلى احتلال الوسط التجاري، فإلى حركة العميل أبو عبسي في نهر البارد، فإلى التفجيرات المبرمجة في بعض المناطق، فإلى التشكيك بشرعية الأكثرية، وشرعية الحكومة… فإلى فبركة شهود الزور لتضليل التحقيق في استشهاد الحريري (أبو عدس، الحجاج الاستراليون، وإشاعات معروفة، ونقل أثار الجريمة.. كل ذلك كان يندفع من خلفية انقلابية معينة، بحيث تبدو كل هذه الأحداث والاغتيالات والغزوات، وكأن مرجعيتها واحدة: غرفة عمليات واحدة ترسم كل خرائط إفشال 14 آذار، وتعطيل المؤسسات (أو استيعابها) وضرب المحكمة. فكأن ضرب هذه الأخيرة لا ينفصل عن التصويب على الدولة. وكأن محاولة إلغاء المحكمة، إما “المصب” أو مرحلة من مراحل إعطاب القضاء (الدولي)، والقضاء اللبناني، بحيث ينفتح الأفق واسعاً أمام استكمال عدة الانقلاب. ولهذا فمن غير المنطقي الفصل أولاً بين الاغتيالات ومصادرها، (وكل الشهداء من 14 آذار) وبين التخوين كسلاح مشهور فوق الرؤوس والعنف الجماعي المنظم (نتذكر محاصرة السرايا، ومحاصرة نواب الأكثرية في فندق الفينيسيا بعد تهديدهم بالقتل! من دون ان ننسى غزوة بيروت والجبل في 7 أيار، إحدى قمم تنفيذ البروه الانقلابية!).
ولذا فتعطيل الحكومة اليوم عبر مقاطعتها، هي حلقة من حلقات المسلسل الذي بدأ منذ خمس سنوات. ولا تبدو مسألة شهود الزور مختلفة كثيراً عن مسألة “الاتصالات” ولا عن مسألة الثلث المعطل ولا عن أي ذريعة أخرى قادمة. فما بدأ سيستمر حتى يستتب لـ 8 آذار وخصوصاً حزب الله ما يطمح إليه: شلّ عصب الدولة وخنق التطلعات والانجازات التي شكلت مداميك بنائها، وفي رأسها القضاء، أو العدالة، أو أي محكمة داخلية أو خارجية. فحزب الله أدرى من غيره أن هذا التدرّج المتصاعد في إبراز حجة شهود الزور اليوم لن يؤدي لا إلى إلغاء المحكمة، ولا إلى محاكمة شهود الزور (ومن هم شهود الزور غير من فبركوهم وصدّروهم الواجهات الإعلامية التي تؤيدهم). وهو أدرى أن هذه المسائل المختلفة لن تغير من مواقف الناس عموماً، ولن تنجح في ترهيبهم من خلال ما يهددون به، أو يعلنونه بأصوات ملعلعة وبأصابع باتت أطول من أصواتهم! لكن المُطَّلع ولو نسبياً على بروباغندا الأنظمة الاستبدادية والشمولية يكتشف وبدون جهد كم تتشابه لغة هؤلاء الخشبية وطبيعتها ومكوناتها وموجاتها وجنونها وتلفيقاتها واتهاماتها وتخوينها وتسفيهاتها. (راجعوا لغة 8 آذار عموماً تجدوا وكأنها طالعة من لسان واحد (مطوال) ومن حجرة حجرية واحدة!). وهكذا تجتمع نبرة القتل المعنوي ونبرة العنف المادي، اللتان لازمتا خطاب “رموز” 8 آذار و”فراطاتها” و”إعلامييها” و”محلليها”… و”كتّابها” ولو لم تنشأ المحكمة لما توقفت حلقات الاغتيال والتفجيرات. لكن إذا كانت حلقات الاغتيالات الفردية قد توقفت إلى حد ما، فإن أسلوب العقاب الجماعي قد حل محلها. (وهو أسلوب معروف عند كل الطغاة) وهذا لا يقل خطورة وفظاعة عما شهدناه من تصفيات على امتداد السنوات الماضية. فمن ظاهرة استهداف الأفراد – الرموز فإلى المؤسسات الرموز (الحكومة، مجلس النواب، القضاء) إلى ظاهرة اجتياح المدن والمناطق لممارسة العقاب الجماعي على اللبنانيين. ونظن أن الظاهرتين يمهد لهما عادة بعقاب وطني، فردي وجماعي فيتم تخوين فئات كاملة (بحس عنصري حاد) كمثل شعار “البيئة الحاضنة” الذي لا يختلف كثيراً عن نظرية الطبقة الطائفة التي رُفعتْ أثناء الحروب الماضية من قبل بعض اليساريين التافهين (1975 1990) إما لوضع الناس والبيئات والأحزاب في مسؤولية واحدة، وإما للعزل (نتذكر سياسة عزل فئة واسعة من اللبنانيين بناسها وشجرها ودجاجها وتاريخها) وإما لجرّ فئة (طائفة) أخرى للانخراط في لعبة الحرب. وهذه الإدانة “الكلية” موروثة طبعاً عن المختبرات الفاشية، ولا سيما الصهيونية والإسرائيلية التي درجت على تنفيذ مثل هذه الممارسات في العقاب الجماعي على الفلسطينيين منذ ما قبل 1984 وحتى اليوم، وكذلك على اللبنانيين أثناء الغزوة الإسرائيلية للبنان. إذاَ، العقاب الجماعي الذي صيغ كمرادف للعقاب الفردي هو من منشأ فاشي صهيوني عنصري. والذين تبنوه في لبنان، (وحتى في بعض البلدان العربية وغير العربية عبر بعض الأنظمة والأحزاب) هو فكرة من الأفكار التي يرونها صالحة للتحكم بالإرادات وطمس الاختلافات ووأد كل مطالعة حية، ديموقراطية، انها وسيلة ترهيب المجتمع ككل وربما الشعب ككل. وهل تتردد بعض الأنظمة الاستبدادية، من تنفيذ “أحكام” جماعية على شعبها، لتتحول البلدان سجوناً واسعة من القمع والكبت والإعدام. هذا ما تفعله 8 آذار بكل وعي وعن قصد، وعن تكتيك وإستراتيجية لأنها معظمها طالع من أقبية الأنظمة الأحادية والانقلابية المظفرة بحمده تعالى من الأبد إلى الأبد. وبعض هؤلاء كحزب الله كَمَثَل فاقع ورائع وساطع وناجع، أن هذا “القصاص” قد يقتصر في تبنيه، على الفئة التي تناهضهم في الوقت الذي يعرف الناس فيه أن هذا القصاص الذي يصيب “الخصوم” والبيئات المقابلة إنما يصيب ناسهم أيضاً. فمصدر التخوين يرتد على المخونين. و”المعاقب” يرتد عقابه على ناسه فلا يسلم أحد من لوثة “الإلغاء” والتشويه خصوصاً وإن من بيته من زجاج لا يرمي الآخرين بحجر. وحتى على صعيد العقاب الاقتصادي، هل ترى أن ناس “حزب الله” بمنأى عنه، وكذلك ناس 8 آذار؛ وما يظنونه “ضغطا” على فئة يصير ضغطاً عليهم. وما محاولة ضرب الاقتصاد وعلى مدى السنوات الأخيرة سوى مثال على تعميم الخراب. وإذا كان حزب الله يظن أن ما يُوفر له من عتاد وإسهامات مادية من الخارج يكفي للحؤول دون امتداد الأزمات الاقتصادية إلى بيئاته، فهو مخطئ (إلاّ إذا كان ما يمارسه على خصومه يجوز أيضاً على مؤيديه لخنق أي إشارة احتجاج أو تململ من سياساته الكيدية والتدميرية). والغريب أن “مقولة” القصاص بالجملة (نعرف كم كبدَّتنا من مجازر وتهجير وهجرة أثناء الحروب الماضية). هي إلى أصولها الأيديولوجية تبدو أيضاً من جذور (عنصرية) دينية أو أيديولوجية (كل الأيديولوجيات حتى المادية مستوحياتها في العمق دينية، باعتبارها قائمة إما على “الإيمان” بالماورائيات أو بالأفكار المادية: الشيوعية إيمان عند الشيوعيين تماماً كما هي التعاليم السماوية عند المؤمنين: إيمان أرضي يفضي إلى ايتوبيات “دينية” وإيمان غيبي يؤدي أيضاَ إلى مطلقات شمولية: المطلق هو العنصر المشترك، من هنا طوابعها الناهية والزاجرة والقاطعة والأحادية: فللتاريخ حركة واحدة وللإيمان طريق واحد. من هنا أن بعض الظواهر الاستبدادية الدينية التي عرفناها في القرون الوسطى (الكنيسة كمؤسسة مطلقة) لا تختلف عن كثير من الظواهر الاستبدادية المادية والتاريخية والمذهبية. واللافت أنه تجمع في لبنان مثلاً العديد من مثل الطبائع المتناقضة المتلاقية من مرجعيات دينية أم طائفية أم علمانية وحتى “مدنية” لتكتمل دائرة القتل الجماعي لهذا الشعب. ونظن أن أسلوب 8 آذار ولا سيما حزب الله في تعاطيه (مع ناسه أولاً: لا يسألهم شيئاً ولا نقداَ ذاتياً ولا رمزيا: وهذه قمة الإلغاء الذاتي لصالح الآلة الحزبية) مع الآخرين. إما كذا وإما كذا. إما الخضوع وإما الويل… أي العقاب (الإلهي) إما مسألة شهود الزور بنداً واحداً في مجلس الوزراء وإما الجحيم! (هل اعتاد الجحيم فعلاً!). إما المحكمة وإما الغزو، وضرب كل شيء. ذهنية شمشونية في قرارها. (دينية!): عليّ وعلى أعدائي يا رب. ومن يقلْ ذلك يعنِ انه ما عاد عنده ما يخسره. ونظن أن حزب الله اليوم بعدما “خسر” الإجماع الوطني حول المقاومة، وبعدما “خسر” المعارك الديمقراطية.. لم يعد عنده سوى سلاح التدمير الذاتي وكل ما حوله: مبدأ انتحاري أيضاً. لأنه إذا نفذَّ حزب الله تهديداته هذه المرة فلن تنتشله أي قوة من مأزقه، ومن سقطاته، إلى درجة نظن فيها أن بنيته التنظيمية نفسها لن تسلم (وإن غداً لناظره قريب) وبدلاً من ان ينجح في تحقيق “انجاز” القٍصاص الجماعي سينجح بإذنه تعالى هذه المرة بتحقيق انجاز “الإعدام الذاتي” أو “الإخفاق النهائي” : فظروف 7 أيار المشؤوم تختلف عن ظروف اليوم: سواء على الصعيد الشعبي أو الاقتصادي، أو العربي أو الدولي. فالناس ستدرك جيداً أن هذا الحزب لم يكن ديدبانه سوى تدمير مصالحها وبلدها ومؤسساتها ومستقبلها، (حتى في “عقر داره) . وستعي أن هذا الحزب الذي كان ذات يوم مطل أملٍ ومقاومة وصمام أمان، صار عبئاً على ناسه أولاً، وعلى لبنان عموماً، صار عبئاً بسلاحه المصوب على أكثرية الشعب اللبناني. أي صار وجوده “عقاباً” على البلد بكل فئاته، وحالة شاذة، تماماً كما صارت أحوال الميليشيات اللبنانية والعربية على أرضنا منذ عام 1969، وحتى التسعينات. بل ستقول الناس إذا كان كل هؤلاء الميليشيات طووا رايات الحرب، “وضبضبوا” أسلحتهم، وأيديولوجياتهم التقسيمية، فلماذا يبقى هذا الحزب وحده مدججاً بسلاح يهدد به الناس. هذا ما يقوله كثير من اللبنانيين، في انتظار ان يتحول “إجماعاً” شاملاً في حال استمر حزب الله في إتباع سياسة “النحر” و”الانتحار” والاستمرار في الارتباط بالمرجعيات الخارجية ومصالحها، وتحويل لبنان مجرد محميات وبؤر نفوذ لهذه الدولة أو تلك. أي استمرار الحزب في جعل اللبنانيين مجرد قرابين على مذبح هذه الجهة البرانية أو تلك.
ونظن أن حزب الله، اليوم، في أوج مرحلة تراكمت أسبابها وأساليبها، كأن يقول إن الظروف نضجت لإصدار البيان الأول. البيان الانقلابي تحت ذريعة المحكمة وشهود الزور. وها هو مستنفر بكل أجهزته وإعلامه وبروبغنداه وحلفائه. وعلى رأسهم “جنرال المقاومة” و”التحرير” ميشال عون (عميل إسرائيلي سابق في نظر حزب اللهّ! رائع). أي التهيؤ لاستكمال الرؤيا المرعبة باعتبار الشعب اللبناني بات بديلاً من إسرائيل كعدو. وما يجوز على الغازي الصهيوني يجوز على الشعب اللبناني. هذه الرؤيا “الأبوكاليبتية” لا بد أن تضيق الخناق على هذا الحزب، وعلى أدواته العسكرية والأمنية الموفورة من “عطايا” الخارج. ونظن أنه اذا نفذ تهديداته فيعني أن اللبنانيين أنفسهم (أو أكثريتهم على الأقل) ستعامله كمثل ما يعاملها أي كما تعامل الغزاة. وهنا خط اللارجوع بين هذا الحزب وناسه، وبين محيطه الواسع، بل سيكون ذلك خاتمة مرحلة (تعطيل، تخريب، تهويل، تخوين، ترويع) لتنفتح مرحلة أخرى… نتمنى الا تكون كارثية عليه وعلى البلد. أتكون الحلقة الأخيرة من الجزء المتواصل من مسلسل بدأ قبل خمس سنوات لنفهم أن هذا الحزب سيقلب كل شيء، النظام، الكيان، الدستور، الميثاق، الديموقراطية، فكرة التعايش، الوحدة؛ ليستفرد الشعب أم ليستفرده الشعب هذه المرة، أو في أسوأ الأحوال نتساءل هل يسعى حزب الله من انقلابه المحتمل إلى تقسيم لبنان بعد ما نجح في ترسيخ كانتونه وجمهوريته ودستوره على “حزب الله لاند”. كل الاحتمالات واردة. ولكن ما هو أكيد ان هذا الحزب، إذا ما توقف عند مرحلة من مراحل استيلائه على البلد، فلن تتوقف الخطة: سيكمل استراتيجيته في تدمير الدولة، وتعطيل المؤسسات وتجاوز القوانين… وحتى السكوت عن عملاء إسرائيل كفايز كرم! (كان الحزب خارج الصورة والصوت في هذه المسألة التي تتصل بحليفه نابليون الهزائم ميشال عون).
نستذكر جبران تويني شهيداً وبيار الجميل وقبلهما الرئيس الحريري وحولهم جورج حاوي ووليد عيدو وانطوان غانم وسمير قصير وفرانسوا الحاج ووسام عيد… لنستوحي من هؤلاء الشهداء عزماً وتصميماً على إكمال مشوار السيادة والحرية والديموقراطية والعدالة (المحكمة)…
فلجبران تويني الصديق والأخ والزميل، تحية ووعد بأن ما بدأه الشعب اللبناني في 14 آذار.. لن تقوى عليه لا قوى الشر ولا قوى القتل ولا قوى الاستبداد وإن هذه المحكمة التي وضعوها نصب أهدافهم لإلغائها واستئناف الاستباحة، باقية، لأنها جزء من حلم الشهداء وأمل من آمال الوطن.
المستقبل