أطلسي كَوْنيّ ومحارب!
ميشيل كيلو
نشأ حلف الأطلسي بالأصل في سياق الدفاع عن أوروبا الغربية ضد ما أسموه آنذاك «الخطر العسكري السوفياتي»، وكانت فكرته الرئيسة تقوم ببساطة على قبول وجود عسكري أميركي دائم ووازن في بلدان أوروبا الغربية، وخاصة منها تلك المجاورة للبلدان الاشتراكية في وسط أوروبا، لردع السوفيات من خلال قوة رد سريع أميركية معادلة لقوتهم، تحتل رأس جسر أوروبياً يمكن واشنطن من المشاركة، عند اللزوم، في أية عمليات عسكرية فور بدايتها، ريثما تكون القوة الضاربة قد تحركت من وراء المحيط باتجاه ميدان المعركة. هذه المهمة، التي قامت أساساً على الردع، توسعت بمرور الزمن، لتتحول بعد انهيار المعسكر السوفياتي وجيشه الأحمر، إلى مهمة تتجاوز أوروبا الغربية من جهة، وتتخطى الردع إلى القتال الهجومي والمباشر، وخوض معارك الغرب والكون الجديد: الولايات المتحدة الأميركية، التي انخرطت في معارك تطاول سائر القارات من جهة أخرى.
وقد عقد حلف الأطلسي يومي 20 و21 من شهر تشرين الثاني الماضي مؤتمر قمة في لشبونة عاصمة البرتغال، بقصد إيجاد صياغة أخيرة وناضجة تؤقلم هاتين المهمتين مع جديد العالم، وتفيد من خبرات أميركا والغرب في حربي العراق وأفغانستان، وتأخذ في حسابها ما يمكن وقوعه من أحداث وتطورات في المستقبل، مع اتساع دائرة الصراع بين الغرب عموما، والعالم الفقير، وخاصة منه العالم الإسلامي، على وجه الخصوص.
شهدت القمة جديداً يمكن تلخيصه في أمرين:
– اقتراب روسيا من الحلف إلى درجة تفتح أمامها باب الاندماج الكامل فيه، وإعلان رئيسها تبني معظم مفاهيمه الدفاعية والهجومية، وانتهاء مشكلاتها معه وتكييف عقيدتها العسكرية مع عقيدته، وانخراطها في قبول ما سبق لها أن رفضته من خطوات تتركز أساسا على بلدان في العالم الإسلامي، أهمها إيران، وبالدرجة الثانية باكستان، وموافقتها على العمل المشترك في مناطق مختلفة من هذا العالم، ورغبتها في تأسيس شراكة عسكرية وسياسية، وتالياً استراتيجية طويلة الأمد، بينها وبين الغرب، في تحول تاريخي هائل يبدل بصورة جدية بعض وظائف الدولة الروسية وأدوارها، ويقربها من الانضمام لأول مرة إلى المعسكر الغربي، بما يذكر بالسيناريو الذي وضعته وزارة الدفاع الأمــيركية بعـد انهيار الاتحاد السوفياتي، وقام على معادلة غرب غني وقوي ومسلح ضد عالم ضعيف ومتأخر وجائع وأعزل، على أن يضم الغرب كتشكل دولي جديد الدول الصاعدة من الصين إلى البرازيل والهند، وتتوسع مناطق انتشار قواته ونفوذه الاقتصادي بحيث يصير هو الشمال الجديد، الذي سيواجه الجنوب.
وضعت روسيا في المؤتمر أقدامها على أبواب هذا الغرب / الشمال، وأعلن رئيسها ميدفيديف نهاية المشكلات مع الأطلسي، وتقرر إجراء سلسلة من الاتصالات وتوقيع عدد من الاتفاقات لتصفية إرث الماضي مع الأطلسي، عدو الأمس اللدود، وإقامة أرضية مشتركة لتفاهم دائم ووطيد، لا شك في أنه سيغري الصين والبرازيل والهند بدخوله والانضمام إلى الشمال الجديد، ليكتمل حصار الجنوب وإلحاقه في شروط غير مسبوقة تاريخياً؟
يبدو أن الصين ستكرر في المستقبل التجربة الروسية في علاقاتها مع الغرب، فلا يستبعد أن تبدأ بعد حين خطوات ملموسة للاقتراب عسكرياً واستراتيجياً منه عبر بوابة الإرهاب ومحاربته، على أن يتم هذا بعد انتهاء عملية هضم وتمثل روسيا داخل الحلف، والإفادة من قوتها وموقعها وخبراتها في ميدان الحرب على الإرهاب، التي تحولت إلى معركة تكتسب شمولاً متعاظماً ضد العالم الإسلامي، وربما كان أول الغيث فتح الأراضي الروسية أمام تدفق السلاح البري الأميركي المدرع على أفغانستان، مثلما أعلن الروس بعد المؤتمر بيوم واحد.
– توسيع مهام الحلف توسيعاً سريعاً ومضطرداً لتصير مهام كونية. لم يعد محور جهد الحلف، في الفهم الاستراتيجي الجديد، متركزاً على تطويق البر الروسي ومنطقة وسط وشــرق أوروبا، فالحلف صار آسيوياً أيضاً، وقد قرر في لشبونة أن يصير كونياً أيضاً، من حيث مجالات عمله اليوم ووجوده الملموس غدا، وتوسيعه ليس جغرافياً فقط، بل سيأخذ من المؤتمر فصاعداً شكل إعـادة إنتاج معممة للآلة العسكرية التابعة للـدول المنضوية فيه باعتبارها آلة واحدة موحدة، تعمل بأعلى قدر من التنسيق والمشاركة ضد أي خصم في أي مكان من عالمنا. فلا عجب إن وجدناه يطور بسرعة وتركيز أشكالاً متنوعة من التعاون مع جيوش بلدان لا تنتمي إليه، سيكون بينها اليوم بلدان عربية لها علاقات جيدة مع الجيش الأميركي، وستنسق غداً أدوارها وأنماط تسليحها وتدريبها مع جيوش الحلف، التي ستصير كتلة واحدة ذات قيادات مركزية وفرعية مبثوثة في كثير من مناطق العالم، مع أولوية أميركية أو إشراف أمـيركي، بما أن أميركا هي التي ستدير صراعاته وجزءاً كبيراً من علاقاته السلمية مع بقية العالم، ليغدو قريباً المؤسسة التي ستمتلك أكبر قوة ضاربة عرفها التاريخ، وستغطي أوسع رقعة جغرافية وبشرية شهدها التاريخ، وستشكل أنماطاً من التنظيم والانتشار لا سابقة لها: من حيث نوع وكمية الأسلحة والقدرات.
إذا كان صحيحاً ما أقوله، فإنه يقود إلى السؤال التالي الرئيس: ماذا سيعني هذا التطور على الأرض، وهل تعد دول الشمال نفسها لمصالحة مع الجنوب، تسمح للبشرية بالعيش في سلام وازدهار، أم أن الأمور ذاهبة بعكس هذا المنحى؟
أصدر المجتمعون في لشبونة إشارات تدل على التوجه المستقبلي لسياساتهم، منها قول أمين عام الحلف راسمونسن: على طالبان أن تنسى أننا سننسحب من أفغانستان بعد عام 2014. وقول رئيس فرنسا بعد الموافقة على إقامة درع صاروخية في منطقة جنوب ووسط أوروبا ـ تم إنجاز قسمه الإسرائيلي منذ قرابة عام!ـ إنه سيكون موجهاً ضد إيران، رغم أن اسمها لم يرد في وثائق الحلف الرسمية، بسبب معارضة تركيا، التي قرأت العلامات الجديدة وقررت الموافقة على نشر صواريخ وقواعد للدرع في أراضيها أيضاً، بينما انتشرت أنباء عن مفاوضات أميركية مزمعة مع العراق تبقي على وجود عسكري يضم أحد عشر ألف جندي في أراضيه، بعد نهاية العام المقبل.
ثمة إضافة أخيرة هي التالية، حول معنى الخطوة الأطلسية وما قيل عن إصلاح وتفعيل الحلف: في الماضي، كانت أميركا تقيم أحلافاً واسعة قدر المستطاع لمواجهة الأزمات الطارئة وما يترتب عليها من تطورات وصراعات وحروب. لقد فعلت هذا في حرب كوريا، ثم فيتنام، ثم في حربي الخليج الأولى والثانية وأفغانســتان بعد البــلقان ووسط أفريقيا. وبما أنها كثيراً ما كانت تصطدم بممانعة بعض الدول، التي ترفض مشاركتها كلياً أو جزئياً في حروبها، فإنها قررت كما يـبدو إقامة تحالف دولي واسع إلى أبعد حد قبل نشوب الأزمات والحروب، يضمن انخراط أطرافه جمـيعها في القتال إلى جانبها. هذا باختصار شديد أحد أهم وجوه عمل مؤتمر الأطلسي في عاصمة البرتغال. ولعل ما فعلته روسيا باقترابها من الحلف يعني حدوث اختراق في السعي إلى بناء حلف كهذا، مهمته شد مفاصل الغرب عامة وأميركا خاصة، وتوجيه رسالة إلى العالم تبين كم هو الغرب متضامن متكافل في السراء والضـراء، وكم هو ممنوع إنزال هزيمة بأية واحدة من دوله، وخاصة منها أميركا، التي ستطبق على الأرجح الوضع الجديد في علاقاتها مع دول مختلفة، لا شك في أن بلداننا العربية وإيران ستكون على رأسها، أقلها لأنها مركز العالم الإسلامي، حيث تدور المعركة الكبرى منذ عقود قليلة ويرجح أن تستمر لبقية قرننا الحالي!
ليس ما وقع في البرتغال خلال يومي مؤتمر الأطلسي بالحدث العادي، إنه إعلان غربي صريح باستمرار الحرب في دار الإسلام والعرب، وإعلان أكثر صراحة بأن انتصار الخصم لن يكون متاحاً أو ممكناً، وبأن الغرب سيخوض الحرب كي يحسمها، وأنه لن يتهاون مع أي طرف من أطرافها!