بمناسبة فوز قطر باستضافة مونديال 2022
رستم محمود
قبل أثني عشرة عاماً، أي مع نهايات عام 1997، خرجت لأول مرة من بلدي سوريا، فقد غادرنا من دمشق نحو بيروت، مع وفد من الطلبة الذين كانوا قد تفوقوا في مجالات كتابية عدة. فقد شاء الحظ أن أكون أحد هؤلاء الذين يكتبون القصة القصيرة. أنا الذي كنت قادماً من أقصى الشمال الشرقي من سوريا، تقريباً كان يبهرني كل شيء في بيروت، من ذلك الإبهار لا أتذكر سوى القليل من الأحداث العامة التي وقعت في الأسبوعين اللذين قضيتهما في بيروت. فالبرغم من مداومتي على شراء أكثر من صحيفة يومية كل صباح “ربما لأنها كانت المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها صحيفة يومية في نفس يوم صدورها، وربما لأنها المرة الأولى التي أرى صحيفة تقول ما لا أسمعه في الراديو والمدرسة”. لكن من الأشياء القليلة التي أتذكرها، أن المسؤول الذي منحني ميدالية في ذلك المهرجان إن لم تخني الذاكرة، كان اسمه محمد سهيل يموت، كان قد خاطب الطلبة الحاضرين بكلمات مفخمة منها “لن يقبل أحد في لبنان برئيس أقل وطنية وشهامة من الرئيس إلياس هراوي”، فالظاهر أن لبنان وقتها كان يمر بأزمة “مضبوطة” لاختيار رئيس جديد للبلاد. وفي تلك الأيام القليلات في بيروت، وقعت الهجمة الشهيرة على مقر السفارة الأميركية في كينيا. ومما تتذكره مخيلتي من تلك الإيام أن الكثير من مقالات الصحافة اللبنانية كانت تتحدث عن مبادرة صلح للسلام بين سوريا وإسرائيل، وأن الرئيس الأميركي بيل كلينتون يطبخها عل نار هادئة، ليعرضها متكاملة على الرئيس حافظ الأسد. في ما بعد، حينما عدت إلى الشمال السوري، الذي كان يغلي قلقاً، فالحشود العسكرية التركية كانت تتوافد على مقربة من تلك المناطق، ورئيس الوزراء التركي وقتها مسعود يلماظ كان يهدد سورية بغزو عسكري ما لم تسلم الأخيرة لتركيا زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان.
الآن، كيف تحولت تلك الأحداث، بعد أثني عشرة عاماً من وقعها.
بشكل شخصي، لم أكن أدرك بإن تلك الأحداث التي كانت تبدو ثانوية وقتها، قد تؤثر بشكل عميق على مسيرة مجتمعاتنا، وبالتالي على حياتنا اليومية المباشرة بكثافة تفاصيلها. لبنان على سبيل المثال، تعمقت شروخه وجروحه منذ تلك الفترة وحتى الآن، ففي أيام ذلك المعسكر الكشفي، ربما كان يمكن لنا كسوريين ملاحظة بعض التململ إزاءنا من قبل بعض الشباب المشاركين (في ما بعد عرفنا إن هؤلاء يسمون بالعونيين أو القوات اللبنانية) لكن الجو العام الذي كان يجمع المشاركين اللبنانيين، كان يتسم بالمودة المتبادلة في ما بينهم، وبقول آخر، كانت الرفاهية المادية الممزوجة بروح الدعابة أكثر ما علق في ذاكرتنا منهم. لبنان اليوم بالمقابل، يبدو كبالع السكين على حدين، حسب تعبير شامي أصيل، فالألم يبدو اليوم مصيراً لبنانياً حتمياً، أياً كانت خياراته، فالعدالة تعني “ضياع البلد”، وعكسها يعني ضياعهما سوية. غير لبنان فإن تنظيم القاعدة بثقافته وخطابه وحضوره، كان في تلك الأيام يبدو كجسم غريب عن الجو العام. فما كان قد حصل في نيروبي، كان يبدو كولوج غير اعتيادي لسياق السياسة في منطقتنا، لكنه في الزمن الراهن، يظهر كفاعل سياسي عميق التأثر بالتوازنات التي تدير الشبكة الخفية لعوالم السياسة في منطقتنا. ويكفي هنا الاطلاع على وثائق ويكيليكس، لإدراك عمق اندراج الأنظمة السياسية المدنية “قال مدنية قال” في لعبة التنظيمات العنفية لتحقيق مآربها المخفية. فالثقافة القاعدية لم تعد تداعب مخيلة الآلاف من شباب المنطقة البائسين فحسب، بل إنها في مقام آخر باتت عنصراً تكوينياً في منطقتنا. السلام الذي كان يُقال إنه على الأبواب، وإن السنوات الأربع التي مرت منذ اتفاقية أوسلو باتت كافية لضخ كمية جديدة من مغامرات السلام على العقلية الجمعية لكلا الطرفين، يبدو اليوم أكثر بعداً من أي فترة أخرى، فبيضة الديك الوحيدة (السلطة الوطنية الفلسطينية)، يهدد رئيسها محمود عباس بحلها. القضية الكردية، التي وعد الساسة الأتراك، وقتها، بحلها بين ليلة وضحاها في ما لو تم القبض على زعيم الجماعة المتمردة، لا زالت تجر خلفها بحاراً من الدماء والدموع، وهي لا تتعدى كونها قضية مساواة فردية وجمعية في المواطنة في أكثر دول منطقتنا حداثة واتزاناً.. تركيا.
أكاد أقول إن معدلات الإنتاج وساعات القراءة ومستوى التعليم الأساسي ودرجة الاندماج الوطني وقلة الشعور الطائفي ومدى الإحساس بالأمان وبساطة الوعي الديني، كانت مستوياتها أفضل في تلك السنوات، مما هي عليه في الوقت الراهن.
لكن تلك المقاربة الذهنية بمجملها، ليست سوى عتبة لإدراك جملة التحولات التي يمكن أن تؤسس لمستقبل منطقتنا بعد إثني عشرة عاماً، ففي تلك الآونة، ستستضيف منطقتنا، ممثلة بدولة قطر، نهائيات بطولة كأس العالم، حيث سيشكل ذلك الحدث الاستثنائي مناسبة لوضع مجهر عالمي على منطقتنا وأحوالها.
أنا الذي كنت مراهقاً منذ أثني عشرة عاماً، سأبلغ الأربعين في تلك السنوات، وفي لحظات شبابي هذه، والتي من المفترض أن أعيشها في مجد الروح المتفائلة، أبدو شديد التشاؤم حيالها.
حقاً لا أعلم مثلاً إلى أين ستصل رغبات نتنياهو بمستوطناته التي يبنيها في أرض “يهودا والسامرة”، أرض أوهامه وأمراضه الدينية، هل ستصل المستوطنات إلى حدود مدينة عمان، وسيصل السلام معها إلى حدود المريخ؟ إلى أين سيوصلنا سيرك النار الإيراني، وإلى أين سيوصل شعبه الذي يتضور حاجة الى رمق العيش ورمق الحرية، كيف ستسير دروب ذلك الجموح الإيراني، وكيف سندفع أثمانها الباهظة قلقاً وترقباً؟. لبنان موطن هوائنا وهوانا وأصدقائنا الذين تعلمنا منهم تركيب العبارات، إلى أين سيمضي بعد أثني عشر عاماً، وإن بقي، فبإي هوية وبإي تركيبة إنسانية؟. بعد أثني عشر عاماً، هل سنجلس في مقاهي القاهرة التي تكون وقتها قد باتت بأربعين مليون ساكن، وسنقول: “الله الله على أيام العز والزمن الجميل، يا أخي في انتخابات عام 2010 حصلت المعارضة على خمسة كراسي، وبانتخابات النهار ضة، حصلوا كرسي واحد…”، هلي سيبقى العراق وقتها؟. ماذا بالنسبة لسوريا والحريات العامة فيها؟… كيف سيكون السودان؟… موارد منطقتنا التي تقل يوماً بعد آخر كيف ستبدو وقتها؟ حيث أننا كما يظهر سنكون من أكثر مناطق العالم تأثراً بظاهرة التقلبات المناخية… وكيف ستكون مستويات الصحة والتعليم والأمن والحريات العامة والمواصلات؟… إلخ.
نُقل عن الداعية يوسف القرضاوي قوله “إن تنظيم هذه النهائيات في قطر، هو أول انتصار عملي للمسلمين على الولايات المتحدة والغرب”. هل تعلمون كيف حوّل الشيخ القرضاوي هذه المناسبة، التي تعتبر آخر قلاع الدفاع عن روح التسامح والتفاعل الإنساني، إلى منزلة ودار للصراع والحرب، وهو الذي ربما لم يحضر مبارة واحدة في حياته، وهو الشخصية التي تعتبر كتاباته الأكثر قراءة في كافة أرجاء منطقتنا.
كما يظهر، أول الغيث..
المستقبل