“ويكيليكس” إبنة العصر المعولم… وجوليان أسانج إمبراطورها المتوّج
دلال البزري
عندما كانت البحار هي صلة الوصل بين الشعوب أو الحضارات أو البلدان، كان قراصنتها هم الكابوس الذي تواجهه أي سفينة “شرعية” مبحرة، برجالاتها ونسائها وحمولاتها الثمينة. “ملوك البحر” كانوا يهدّدون الدول والأفراد بحياتهم وثرواتهم، ويخوضون المعارك البحرية الطاحنة…. يشغلون السفراء الناشئين، ويدخلون أحياناً في مفاوضات حول محصلة المغانم.. إلخ.
وفي زمن غير بعيد، صعد نجم قراصنة الجو، الذين يخطفون الطائرات لأهداف سياسية أو إعلامية أو، نادراً، مالية، ويضعون الشروط لإطلاقها، ويتفاوضون، أيضاً، مع حكومات أو سلطات أو سفارات، إلخ.
اليوم صارت القرصنة المتماشية مع منجزات العصر التكنولوجية هي السطو على مواقع خاصة، أو سرية، تسرق منها معلوماتها، لتعود وتنشرها على مواقع خاصة، أيضاً. حتى الآن، كل الذي تغير هو طرق التواصل بين البشر، وطرق الانقضاض والاستحواذ على ما يملكه الآخرون. كانت بحرية ثم جوية، والآن الكترونية. والقرصنة الأخيرة، الالكترونية، صار لها اسم خاص، (hacker)، تعرفها بالعربية، “هاكر”، وكذلك بكل لغات الدنيا المتعاملة مع الشبكة الالكترونية. بالضبط كما كان لقراصنة الجو، في زمن غير بعيد، اسمهم (skyjacker)، فيما بقيت كلمة قرصان (pirate)، كما كانت، تدلّ على قراصنة البحار فقط.
كل هذا التحول اللغوي حصل من دون أن تُلغى القرصنتان القديمتان، البحرية والجوية، واللتان تبدوان، الأولى أكثر من الثانية، كأنهما من عصر ساحق في القدم. قراصنة البحر، الذين لم نعد نسمع عن نشاط لهم، اللهم سوى هؤلاء المتشددين الصوماليين، حاملي الكلاشنكوف، الذين لا يتحركون أبعد من بضعة كيلومترات عن شواطئهم الطويلة، يسطون على سفن يتّهمونها باستغلال بحار هذه الشواطئ الغنية بالتونة، يحتجزون “الرهائن” ويطالبون بفديات مالية، هي غنيمتهم الفعلية. كم تبدو عليهم الرثاثة وقلة الحيلة، قلّة “السلطة” خصوصاً، أمام بطل القراصنة الراهن، جوليان أسانج، القادر على الدخول إلى ثروات العصر، أي المعلومات؛ ما منحه قوة وسطوة، وحتى كاريزما، نعم كاريزما، وما سهل على أحد المنشقين عنه بنعته بالـ”الامبرطوري”.
شريك جوليان أسانج، والناطق الرسمي باسم “ويكيليكس”، المعروف باسم دانيال شمت، هو الذي أطلق عليه هذه الصفة الأخيرة، “الامبرطور”، تبريراً لانشقاقه عنه منذ ثلاثة أشهر. وقتها سرّبت “ويكيليكس” وثائق عن أفغانستان، ولم تخف، كما هو معتمد لديها أسماء “مرشديها” إلى الحقيقة. المنشق دانيال شمت احتج على ذلك، وكشف عن لعبة “غميضة” بين زعيم “ويكيليكس”، جوليان أسانج، وبين الـ”سي اي اي”، المخابرات الأميركية؛ ناعتاً اياه بالعامل على “عبادة شخصيته”؛ تماماً كما يحصل في الأحزاب البلشفية، وكما يحصل، أيضا، في المساومات بين طرف مكرس أنه قوي وآخر استقوى عليه فجأة، بمجرد معرفة نميمة ديبلوماسيي الأول تجاه زعماء وشعوب أخرى. إنها قوة المعلومة المحجوبة، وطموح “ويكيليكس” أن تتحول بحسب “زعيمها” إلى: “أقوى جهاز معلومات في العالم”، يعززه عدم خضوعها لأي قانون معلن، لأي رقابة، وكذلك سرية أسماء عملائها ومتطوعيها والمتفرّغين للعمل في موقعها.
أما النميمة نفسها، فكيف وصلتنا، بعد هذا كله؟
بالمصافي الثلاث التالية: أولاً: المصفاة التي وضعها “الامبرطور” نفسه على المعلومات التي قرر ترويجها على الشبكة؛ ويقول موقعها، “ويكيليكس”، إنه، من أجل ذلك، اعتمد على “كتيبة من المتطوعين الذين يقومون بعمل التقاطع بين المعلومات والتحقّق من صحتها والتي يأتي بها مخبرون سريون”. ولا مكان هنا للاستفاضة في التشكيك بصحة هذين التقاطع والتحقّق، وموضوعيتهما، طالما أن “الغنيمة”، أي المعلومة المحجوبة، هي وحدها الهدف.
أما المصفاة الثانية، فهي تلك التي اتبعتها “ويكيليكس”، بأنها سرّبت ربع المليون وثيقة الأخيرة إلى صحف بعينها، هي “الموند” الفرنسية و”النيويورك تايمز” الأميركية و”الغارديان” البريطانية و”البايس الاسبانية” و”درشبيغل” الألمانية؛ أي أهم الصحف الغربية. وما “تلتزم” به تلك الصحف بعدم نشر وثائق “سرية للغاية” وبتقطيع الوثائق وتحليلها وتقديمها ثانية إلى القراء بـ”حلتها” الجديدة، خالية مما لا نعرفه، ولا يمكننا معرفته.
صحافتنا اللبنانية قامت بالتصفية الثالثة عندما نشرت ما يناسب خطها السياسي وولاءاتها. ولكن صحيفة بعينها “تفردت” بحصولها على الوثائق الخام، على طريقتها التي “لن تبوح بها”، ثم اختارت، هي الأخرى، أن تمتنع عن نشر كل هذه الكمية الكبيرة التي بحوزتها، وذلك “حفاظاً على حياة” من قد تعنيهم هذه الوثائق. تماماً كما “فعلت” الصحف العالمية التي أُرسلت لها الوثائق؛ أي بأن تنشر ما تختاره منها. وما التشبّه بحذافير التصفية التي مارستها الصحافة الغربية إلا مفارقة عجيبة لصحيفة “تقاوم نظام القطب الواحد” وثقافته وحضارته.
والمتوقع تبعاً لذلك، أن تختار الصحيفة “وقائع” تمزجها بالـ”تحليل”، لتؤكد على صحة “خطها السياسي” المعروف بأنه “مقاوم”. خذ مثلاً: ماذا قالت تقارير “ويكيليكس” المنشورة عن لقاء بلمار والسفيرة السابقة في لبنان ميشال سيسون؟ تشير الوثيقة، بحسب كتّاب الصحيفة، إلى أن هذا اللقاء يثبت بوضوح أن الإدارة الأميركية هي التي تدير عمل المدعي العام للمحكمة الدولية وتشرف على التحقيقات في أدق التفاصيل. وهي بالتالي تؤكد أن المحكمة إسرائيلية – أميركية…. وهي تحمست لجملة نطق بها بلمار أمام السفيرة الأميركية: “أنتم اللاعب الأساسي. إذا كانت الولايات المتحدة لا تساعدني، فمن سيفعل؟”. وهذا السؤال الأخير لبلمار لاقى حظاً كبيراً من الذيوع على مختلف المواقع ذات التوجه “المقاوم”؛ ونحن هنا لا نتكلم عن المعلق النابش في قبور القطط النافقة، والذي تأكدت بالنسبة له “المؤامرة”، بعد قراءته لوثائق “ويكيليكس”، لم يعد هناك من شك، المؤامرة الأميركية – الصهيونية على العالم…
ولكن الصحيفة نفسها لم تنقل مثلاً ما قاله بلمار للسفيرة بأنّ لدى المحكمة الخاصة بلبنان ستين يوماً ابتداءً من الأول من آذار للطلب من الحكومة اللبنانية نقل الجنرالات الأربعة. فيما أخبره الجميع أنّه لا يمكن لأحد أن يملي على المحكمة طريقة عملها، ما يعني أنّه يستطيع احتجاز الجنرالات إلى أجل غير مسمى، في لاهاي؛ وهو لا يوافق على هذه المقاربة لأنّه يخاف من أن يواجه ضغوطاً (من المحكمة نفسها) للإفراج عنهم مباشرة إذا لم يكن يملك قضية”. الخبر نفسه، أي الاجتماع بين بلمار وسيسون، نقلته صحافة أخرى، غير مقاومة، قائلة إن بلمار شرح لعدد من ديبلوماسيي الأمم المتحدة أن القرار سيتهم ثلاثة أعضاء من حزب الله، ولكنه أشار أيضاً الى أن البراهين الموجهة ضدهم ليست حاسمة، وإنما تحتاج إلى براهين يدلي بها “شهود مختصون”(؟) لا “شهود مباشرون”. في مكان آخر، يُنقل عن التقرير أن بلمار “بدا مهتماً بأمر عرفه بالأمس، ويمكن أن يؤثّر على عملية التنصّت. فقد أبلغت وزارة الاتصالات شركتي الاتصالات الخاصتين في لبنان بوجوب إعلام الوزارة بخصوص أي طلب للتنصّت” إلخ.
اللائحة تكاد لا تنتهي. وقد يمضي المرء أياماً في بحثه عن دقة ما قاله بلمار إلى السفيرة الأميركية بحسب “ويكيليكس”. وقد لا يحصل عليه. لشدة ما هي منتشرة المعلومة نفسها، والسؤال نفسه: “إذا كانت الولايات المتحدة لا تساعدني، فمن سيفعل؟”، لكثرة ما تتداولها المواقع المختلفة. ولكثرة المصافي والاختيارات الايديولوجية التي مرت عليها.
“ويكيليكس” صنيعة عصر “المعلومات” المفرطة، عصر تكرار هذا الإفراط. الخاضعة للمصافي المتنوعة، المتناقضة البواعث. ما نوعية هذه المعلومات؟ ما مدى دقتها؟ “ويكيليكس” مسؤولة فقط عن المصفاة الأولى؛ أما الباقي فترميه كاللقمة السائغة في حقل الإعلام الموجه، الآتي من صحافة الدول الديموقراطية المحافظة، بنظرها، على أمنها القومي، ومن بعدها، في ما يعنينا نحن، قراء اللغة العربية، مصفاة الصحافة المنحازة، التي تخدمها المعلومة لتكريس انحيازها وإضفاء المصداقية عليه.
الكثيرون أشاروا إلى سخافة المعلومات المنشورة، إلى كونها أقرب إلى النميمة منها إلى المعلومات الأساسية التي يمكن أن تفضح؛ مع أنها نطقت بما هو معروف، تقريباً، حتى مساندة إيران لـ”طالبان”، وأضافت سواداً على صورة الولايات المتحدة المكروهة من الجميع. فما يهم من هذه الوثائق بالنسبة للإعلام، المكتوب والمرئي والالكتروني، أو لغالبيته على الأقل، هو الإثارة السياسية، التي “تبيع”، لا التي تعلم. الصحيفة “المقاومة” اياها، عندما أشارت إلى الوثائق التي بحوزتها، اعتبرت أن نشر ما تهواه منها إنما هو تعبير عن التزاماتها الفكرية وعن اقتناصها لـ”فرصة إعلامية استثنائية..”..
“ويكيليكس” ابنة عصر العولمة. وصلتنا ثمار أعمالها، كما وصلت إلينا الحداثة على مدى موجاتها المتتابعة: علمتنا عن أنفسنا، أكثر ما علمتنا عن تجليات العولمة التي تلتها.
المستقبل