ويكيليكس: أزمة الدبلوماسية الأميركية بعد فضيحة ويكيليكس
غازي دحمان
تعد الفضيحة التي فجرها موقع “ويكيليكس” الإلكتروني، حدثا غير مسبوق في التاريخ الدبلوماسي الدولي، ففي سابقة غير معهودة في عالم الدبلوماسية والسياسة ظهرت الانطباعات الحقيقية للدبلوماسيين الأميركيين حول قادة العالم كما لم يحدث قط في التاريخ أن فقدت دولة عظمى السيطرة على هذا الكم الهائل من المعلومات الحسّاسة التي تساعد على رسم تصوّر عن الأسس التي تبني عليها الولايات المتحدة سياساتها، كما لن يحدث من قبل أبدا أن تهتز إلى هذا النحو ثقة شركاء أميركا بها.
وهو ما دفع وزير خارجية إيطاليا فرانكو فراتيني إلى حد وصف وثائق ويكيليكس بأنها هجوم 11 سبتمبر/أيلول جديد ضد الولايات المتحدة، سيؤدي إلى “ذوبان سياسي” (Meltdown)، أي انهيار شامل في السياسة الخارجية الأميركية، فيما ذكر ديفيد روثكومب، رئيس هيئة الاستشارات الدولية، أن نشر الوثائق أكد أن الولايات المتحدة فقدت السيطرة على نظام أو ثقافة السرّية الدبلوماسية.
على ضفاف الأزمة
على وقع الضجة التي أثارتها الوثائق التي كشفها ويكيليكس، اكتشف العالم جملة من الحقائق، وإن بدت في بعض الأحيان معروفة، أقله من خلال سياقات عمل النسق الدولي في العقدين الأخيرين، فإنها لم تكن مكشوفة بهذا الوضوح والشفافية التي كشفتها الوثائق، ومن هذه الحقائق:
– أن الولايات المتحدة تحولت في العقدين الأخيرين إلى مصدر القرار في العالم، أي أن ما فيها من وزارات عامة صارت متدخلة في شؤون معظم شعوب العالم
وربما إدراك هذه الحقيقة جعل وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس يعتقد أن نشر هذه الوثائق السرية، وإن كان أمرا “محرجا” فإن تداعياته على السياسة الخارجية الأميركية “متواضعة إلى حد ما”، وذلك انطلاقا من حقيقة أن “الحكومات تتعامل مع الولايات المتحدة لأن هذا الأمر في مصلحتها، ليس لأنهم يحبوننا، ليس لأنهم يثقون بنا وليس لأنهم يعتقدون أننا نحافظ على الأسرار”. ويضيف “بعض الحكومات تتعامل معنا لأنها تخاف منا، وبعضها لأنهم يحترموننا، ومعظمهم لأنهم يحتاجون إلينا”.
– هناك مسائل لم تكن معروفة لدى العالم، منها على سبيل المثال أمر باسم وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون للدبلوماسيين بجمع معلومات شخصية، بما في ذلك معلومات بيولوجية وعناوين بريد إلكتروني، حول قيادة الأمم المتحدة.
وكان هذا واحدا من عدد من التوجيهات الاستخبارية التي أرسلتها وزارة الخارجية إلى الدبلوماسيين الأميركيين على امتداد العالم، تطلب منهم جمع مثل هذه المعلومات حول طائفة واسعة من الناس.
ومثلها نظيراتها من التوجيهات الاستخبارية التي أرسلت إلى الدبلوماسيين الأميركيين في الكثير من دول أفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية، أمرت موظفي الخارجية الأميركية بجمع معلومات عن بطاقات ائتمان وبرامج عمل ومعلومات شخصية أخرى خاصة بشخصيات أجنبية، من بينها أرقام الهواتف التي يكثرون الاتصال بها.
– رغم كون هذه البرقيات (الوثائق) هي قمة أداء ما يفعله كل دبلوماسي أميركي، وهي مقياس الكفاءة عند التقييم. وتجعل الدبلوماسي في موضع متقدم عند التشكيلات في هذا المجتمع الدبلوماسي الأميركي المصغر. فقد بدت هذه البرقيات ساذجة وكان ثمة استعراضات سياسية أو اقتصادية تشبه الاستعراضات الصحفية وأحيانا نميمة.
والسبب في ذلك أن الدبلوماسيين الأميركيين كانوا يرفقون محاضر لقاءاتهم مع مسؤولي الدول المعينين بها بتحليلاتهم الخاصة إلى دوائرهم الرسمية، ما يفقد هذه المحاضر دقتها وصدقيتها، ويكشف من جهة أخرى عن مهنية متواضعة لدى الدبلوماسيين الأميركيين.
نهاية عصر الدبلوماسية التقليدية
لطالما عرفت الدبلوماسية بأنها علم وفن ومهنة تمارس حتى تنجح بسرية وضبابية، ولا تكشف عن مصادرها ولا تفضحهم، مما يشجع المصادر على الإدلاء بآرائهم بحرية وانفتاح, ولكن يبدو أن موقع “ويكيليكس” نجح أخيرا في إنهاء العصر التقليدي للدبلوماسية المرتكز على السرية والغموض.
وما كشفت عنه تسريبات “ويكيليكس” هو المأزق الذي تواجهه الدبلوماسية الجديدة في العمل ضمن قوالب الدبلوماسية التقليدية، لذا فإن نقطة الإثارة القصوى في هذا الحدث غير المسبوق هي أنه مزق شر تمزيق النظام العالمي للسرية الدبلوماسية الذي يضاهي بأهميته وخطورته نظام السرية العسكرية والاستخبارية للدول. وبعد هذه العاصفة القضائية التي مدها “مجهولون” في الكواليس الأميركية بأضخم أرشيف للأسرار في العالم، بات هذا العالم مكشوفا وعاريا تماما من ورقة التين.
ويعتقد خبراء الدبلوماسية أن ذلك يكمن في الإدراك المتأتي عن التضاؤل المستمر للدبلوماسية بصفتها أداة في السياسة. كانت الدبلوماسية في الماضي البعيد أداة مركزية للسياسة، ورأى الزعماء دبلوماسييهم الكبار، ولا سيما سفراؤهم في عواصم مركزية، قنوات شخصية تنقل في سرية وتكتم رسائل سياسية حساسة. وأصبح اليوم يوجد احتياج أقل لهذه الوظيفة. فالقادة يتعارفون شخصيا، ويلتقون لقاءات متقاربة في اجتماعات قمة، ويعلمون أنه لا يوجد أكثر سرية من الاتصال الشخصي. أصبح الدبلوماسيون ملخصين يكتبون ما يقال في أحاديث القادة وعندما يصبح الموضوع حساسا يطلبون في أدب من الدبلوماسي الخروج من الغرفة.
والحاصل أن تسريبات “ويكيليكس” سيكون لها ما قبلها وما بعدها، وستغير إلى حد كبير قواعد اللعبة والاشتباك الدبلوماسي وأشكال التواصل بين الدول في علاقاتها الدبلوماسية على المدى القصير والمتوسط، وبهذه الكيفية وضع موقع “ويكيليكس” نهاية لعصر الدبلوماسية التقليدية، وغيّر قواعد اللعبة وبالأخص للدبلوماسية الأميركية التي تملك أكبر شبكة بعثات دبلوماسية حول العالم.
التحديات المستقبلية للدبلوماسية الأميركية
لعل التحدي الكبير للدبلوماسية الأميركية منذ اليوم هو كيف تستعيد زمام الأمور، وكيف تقنع المسؤولين ومصادرها ومن يتردد على سفارات واشنطن حول العالم، بأن مثل هذه الفضائح لن يتكرر؟ وأن التحاور مع الدبلوماسيين والمسؤولين الأميركيين لن يخرج للعلن ويحرج ويفضح! على المدى القصير سيعاني الدبلوماسيون الأميركيون من صعوبات ومن جفاء وتحفظ وتردد أكثر ممن اعتادوا أن يكونوا منفتحين معهم وشفافين وصرحاء.
ويعتقد بعض خبراء الدبلوماسية أن إجراءات حماية المعلومات سوف تتشدّد ويمكن الافتراض أن من سيتحدّث مع الدبلوماسيين، وليس فقط مع الأميركيين، سيكون أكثر حذرا. كما يجوز أن الأحاديث بين الدبلوماسيين أنفسهم ستغدو أقل صراحة، صحيح أن جزءا هاما من الوثائق التي سربت كانت ملامحها معروفة بعض الشيء، على اعتبار أنها سياسة عامة، لكن الأكيد أن هناك أشياء غير معروفة على نطاق واسع خارج دائرة ضيقة، على سبيل المثال التصريحات بدون تحفظ لقادة الدول الذين يتصورون أنهم في صحبة آمنة.
ويرى ديفيد ماك (الدبلوماسي الأميركي المخضرم) في مقابلة مع قناة الجزيرة أن التسريبات لم تلحق الضرر بالدبلوماسية الأميركية بل بالنظام العالمي برمته، لأنه يقوم على أساس افتراضي أن الحكومات عندما تبعث دبلوماسييها في عواصم العالم المختلفة فإن هؤلاء يجب أن يكونوا قادرين على الدخول في محادثات سرية وأن يطلعوا حكوماتهم بشكل سري على فحوى اللقاءات وتحليلهم لها, لذا فإن هذه التسريبات تؤثر سلبا وتلحق الضرر بمبدأ الثقة الذي على مدى ثلاثة قرون هو أساس العمل الدبلوماسي الدولي.
والحاصل أنه لن يثق أحد في كل دول العالم بعد الآن، لا بسرّية العمل الدبلوماسي الأميركي، ولا “للمجالس بالأمانات” الأميركية، ولا أيضا بوجود مؤسسة واحدة تدير كل السياسة الخارجية الأميركية وتكون قادرة على الاحتفاظ علنا بكل ما يقال سرا.
فمن، على سبيل المثال، في أي عاصمة عربية يمكن أن يثق بعد بأن المكاشفات الخاصة بينه وبين الدبلوماسيين، أو حتى كبار المسؤولين الأميركيين، في الغرف المغلقة، لن تصبح في اليوم التالي العناوين الرئيسة في كبريات الصحف ومواقع الإنترنت في العالم؟ ومن في أي عاصمة شرق أوسطية يمكن بعد أن يثق بأنه إذا ما دخل سفارة أميركية، سيخرج منها “سالما”، بالمعنى السياسي؟
أجل، العلاقات العسكرية والإستراتيجية بين أميركا وبعض الدول الشرق أوسطية باقية، وفي هذا تأكيد لما قاله روبرت غيتس، لكن غياب الثقة سيلقي ظلالا كثيفة من الشك حول هذه العلاقات، وقد يتسبب في تغيير أو على الأقل تعديل السياسات على المديين المتوسط والبعيد
التحدي الأخر يتمثل في حقيقة أن الدبلوماسية الأميركية منذ سنوات عدة أخذت على عاتقها الاختباء وراء السرية، إما من أجل السيطرة على الإعلام نفسه وليس فقط السيطرة على المعلومات، أو من أجل التضليل عمدا باستخدام بذيء أحيانا لوسائل الإعلام والإعلاميين.
وكان أن الكثير من الوسائل الإعلامية الأميركية خضع للعبة الجديدة مع الإدارة والكونغرس الأميركي وفقد البوصلة الأخلاقية وأصول المهنة، صحيح أن تسريبات “ويكيليكس” لن تصلحه بالضرورة لكنها قد تفرض قواعد مختلفة على الإعلام وعلاقته مع السلطة، والعكس بالعكس.
ختاما إذا كان في نهاية المطاف سوف تعود الأمور إلى مسارها، لأن المطلوب من الدبلوماسي أن يقدم تقريرا، أن يفسر، أن يحلل وليس أن يكتب برقية كما لو أنها لمقابلة تلفزيونية تحوي ألاعيب دبلوماسية ، فإن الأكيد أيضا أن المشهد السياسي والدبلوماسي العالمي بعد نشر وثائق “ويكيليكس” لن يكون كما قبل ذلك.
الجزيرة نت