صفحات سورية

إسرائيل: خطيئة أصلية

null
راتب شعبو
يعيش الشرق الأوسط منذ أكثر من نصف قرن على إيقاع تطورات الوجود الإسرائيلي الذي اصطنع فيه على شكل احتلال استيطاني «تهجيري» وعنصري. لقد طغى هذا الإيقاع واستتبع ما سواه. وبات تاريخ الشرق الأوسط يقسّم وفق محطات تطور الوجود الإسرائيلي، فما قبل وما بعد النكبة (1948)، وما قبل وما بعد النكسة (1967) وما قبل وما بعد حرب تشرين (1973) وما قبل وما بعد غزو بيروت (1982)..الخ، محطات تتوالى وتقطّع تاريخ الشرق الأوسط وفق مقتضيات تطور وجود «غريب» عن نسيجه. وهذه المحطات التحقيبية ليست سوى حروب كانت الهزيمة فيها حليفا ثابتا للجانب العربي وفي هذا تأكيد على الطبيعة القسرية والعنفية لهذا الوجود. والواضح أن هذا التحقيب لم يقتصر على السياسة بل طاول الشعر والرواية ومختلف أوجه الثقافة، حيث عكس ذاك الإيقاع الإسرائيلي الطاغي نفسه على كل جوانب الحياة في الشرق الأوسط كمؤشر على عمق تأثير نشوء واستمرار الوجود الإسرائيلي في بيئتنا.
انتصارات إسرائيلية متوالية، عسكرية ثم سياسية (اتفاقات سلام وفق شروط إسرائيلية غالباً) وكل هذه الإنجازات لم تنعكس تقدماً في الجانب الأمني، إذ لا يزال الوجود الإسرائيلي وجوداً حربياً استنفارياً، كأن الانتصارات تزيد ? أو على الأقل لا تقلل – من هشاشته. فبعد هذا التاريخ الإسرائيلي الحافل وبعد التوسع الاستيطاني وغير الاستيطاني وبعد تفكيك وتجزئة مسار التفاوض مع الجانب العربي إلى مسارات وبعد عقد اتفاقيات «سلام» مع دولتين من دول «المواجهة» (مصر والأردن) وتحييدهما رسمياً، فضلاً عن التحييد الضمني لبقية الدول العربية، وبعد إقامة أشكال من العلاقات مع أكثر من دولة عربية، أي بعد، ورغم، كل ما يبدو من نجاح يمهد لاستقرار هذا الوجود، لا يمكن القول إن الوجود الإسرائيلي بات أكثر أمناً. ومن يراقب التطورات في منطقتنا لا بد أن يسجل ملاحظتين:
1 تحول قيادة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي من تنظيمات وطنية (أي الإيديولوجيا السياسية لها إيديولوجيا وطنية غالبة) إلى تنظيمات دينية «إسلامية» مقاومة، وتزايد أثر المقاومة وجذرية برامجها وقياداتها التي باتت تمارس فعلياً الفهم الذي سبق أن صاغته القوى الوطنية بعبارة: إن الحرب مع إسرائيل حرب وجود وليست حرب حدود. وقد تمكنت هذه المقاومات الإسلامية من تحقيق إنجازات ملموسة مهمة، مثل فرض الانسحاب الإسرائيلي من لبنان والانسحاب من غزة والصمود في وجه العدوان الإسرائيلي في تموز 2006 على لبنان ومنعه من تحقيق أهدافه المعلنة. ونجحت في معالجة مشكلة الاختلال الهائل في ميزان القوى مع دولة إسرائيل من خلال القدرة على خوض الحرب اللامتكافئة. ولعل الطابع الديني للدولة الإسرائيلية والتاريخ الحساس للعلاقة بين الدينين الإسلامي واليهودي ساهم، إلى جانب فشل حركات التحرر الوطنية ولاسيما منظمة التحرير الفلسطينية، في بروز المقاومات الإسلامية كرد «طبيعي» على احتلال وطغيان دولة «دينية» يهودية. وقد كان من الطبيعي أن تؤدي الدولة اليهودية التي لا تزال تستثمر «العصبية» الدينية اليهودية سياسياً، إلى ولادة مقاومة إسلامية تستفز وتستثمر «العصبية» الإسلامية وتعطي للمقاومة صبغة جهادية مقدسة. وفي هذا مؤشر على أن الوجود الإسرائيلي المصطنع (بما هو وجود عنصري وعدواني) فشل في توفير أسباب استقراره واستمراره رغم كل ما وفر لنفسه من دعم دولي ومقومات عسكرية ومالية واقتصادية وعلمية ..الخ. إن القبول الرسمي العربي بإسرائيل لم يستجر قبولاً شعبياً عربياً ولا يزال أكثر ما ينقص التطبيع العربي مع إسرائيل هو الطبيعية فقد كان وسيبقى تطبيعاً «مصطنعاً» وغير طبيعي، كما أن تعثر أو فشل الإيديولوجية الوطنية في التحرير – بقطع النظر عن الأسباب وعن صحة أو عدم صحة الحديث عن فشل الإيديولوجيا – لم يعن تمكيناً للاحتلال وإذعاناً له، بل عنى ولادة إيديولوجية دينية مقاومة أشد وأكثر جذرية هذه المرة، تستمد قوتها من مكونات الهوية العميقة وتعطي للصراع مع إسرائيل بعداً لا تسووياً إن صح القول. وقد شكل هذا التحول نقطة تحول فارقة في تاريخ المنطقة الحديث.
2 تزايد مأزق الوجود الإسرائيلي الذي يعبر عن نفسه ببلاغة في بناء الجدار العازل المستحضر من متحف وسائل الحماية العسكرية الغابرة إلى القرن الواحد والعشرين لكي يؤمن حماية وأمناً لإسرائيل في حركة تشي بإفلاس أمني وسياسي لا يخفى على أحد. كما يعبر مأزق الوجود الإسرائيلي عن نفسه في التشديد على يهودية دولة إسرائيل بما يعزز الشعور الإسرائيلي «بغرابة» هذا الوجود وتنافره مع محيطه وينسف فكرة الديمقراطية التي تسم «واحة الديمقراطية» في المنطقة؛ وفي تزايد الإنفاق العسكري الإسرائيلي (موازنة الدفاع الإسرائيلية للعام الحالي (2008) بلغت رقماً قياسياً هو 78 مليار دولار أي بزيادة 10 مليارات عن العام الماضي ومن ضمنها موازنة خاصة بحماية جنوب إسرائيل من صواريخ قطاع غزة، فضلاً عن عرض الولايات المتحدة لزيادة مساعدتها العسكرية لإسرائيل بنسبة 25٪)، وفي عجز الأعمال العسكرية عن استئصال هذه المقاومات الإسلامية. ويبدو أن حلم شمعون بيريز بشرق أوسط جديد يتم فيه قبول دولة إسرائيل (اليهودية) كدولة طبيعية وتستبدل فيه إسرائيل التفوق الاقتصادي بالتفوق العسكري هو حلم مستحيل لا يبدو أن إسرائيل تعمل أصلاً على تحقيقه. وقد تبين في حرب تموز 2006 على لبنان وفي الحرب المفتوحة والمتعددة الأشكال على قطاع غزة، فضلاً عن كل ما سبق من أعمال إجرامية إسرائيلية منذ بداية تكوينها، أن إسرائيل لا تتطلع إلى (ويبدو أنها تدرك استحالة) إقامة علاقات طبيعية مع جيرانها ولا تتوانى عن ارتكاب كل الأعمال التي تنسف مرة واحدة كل أسس لإمكانية حياة طبيعية مع المحيط، من قصف المدارس إلى قصف طوابير المهجرين إلى قصف الجنائز إلى رمي القنابل العنقودية إلى حصار المدنيين وقطع الإمداد بالوقود ..الخ. وليس من شأن التصريحات الإسرائيلية بأن إسرائيل تضطر إلى قصف المدنيين لأن من يقاومونها يتخذون من المدنيين متراساً لهم إلا أن تشدد على عمق مأزق الوجود الإسرائيلي.
إن تاريخ إسرائيل هو تاريخ أزمة مقيمة شاملة ذات أفق مغلق، أشبه ما تكون بنوع من «خطيئة أصلية» يدفع البشر ضريبتها بمن فيهم الإسرائيليون. ولا يمكن للمفاوضات والاتفاقات والتطبيعات أن تمحو هذه الخطيئة. خطيئة أصلية لا فادي لها، فالمنطقة لا يمكنها أن تهضم إسرائيل الدولة العنصرية العدائية مهما بلغت قوة الفرض والإكراه، ولكن حين تكف إسرائيل عن كونها دولة عنصرية محتلة وتوسعية (وإذا ما كفت عن ذلك) فإن المنطقة تستطيع عندها أن تهضمها وتحيل شعبها، بالفعل هذه المرة، إلى جزء عضوي من نسيج شعوب المنطقة.

كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى