تجاوز الطائفية شرط لتحرير الدولة من المافيوية
برهان غليون
في كتابي “نظام الطائفية… من الدولة إلى القبيلة” المنشور عام 1990، طرحت نظرية تقول بأن الطائفية تنتمي إلى مجال السياسة لا إلى مجال الدين والعقيدة، وأنها تشكل سوقاً موازية، أي سوداء للسياسة، أكثر مما تعكس دفاعاً متعصباً عن دين أو مذهب. وفكرة السوق السوداء أو الموازية في السياسة تتنافى مع الاعتقاد السائد بأن الطائفية تقليد قديم ومستمر،
وتجعل منها ظاهرة مرتبطة بحقبة الحداثة الجديدة وطابعها المفارق معاً. فنظام الملل التقليدي الذي عرفته المجتمعات الإسلامية، وأعطت الدولة العثمانية صيغته الأخيرة الراقية، يختلف كليا في مضمونه وطبيعته عن نظام الطائفية بالمعنى الذي نقصده اليوم. فعلاقة السلطة التقليدية بالمجتمع كانت تمر حتماً بالتجمعات الأهلية، بل كان احترام هذه التجمعات من قبل السلطة وحفظ مصالحها الخاصة، يفترض الاعتراف بها كملل أو كجماعات مستقلة ومتميزة، ويستدعي تنظيما لهذه المصالح يأخذ بالاعتبار تعددها وتباين مواقعها وعقائدها. وكان وجود هذه الجماعات الأهلية والاعتراف بها ضماناً لحرية الأفراد النسبية وأمنهم معاً. في حين كان الافتقار إلى مثل هذا الاعتراف بالتنظيمات الأهلية يعني في الدولة التقليدية خطر الإضرار الدائم بمصالحها، وتعريض أفرادها لكل المخاطر الداخلية والخارجية. ولهذا يشكل التنظيم المللي في المجتمعات القديمة التي كانت السياسة فيها حكراً على النخبة الأرستقراطية، النمط الطبيعي، بل المتقدم، لتنظيم العلاقة بين النخبة الحاكمة والمجتمع على أساس من العدل وحفظ المصالح الخاصة وتوازنها معا. ونظام الملل هو الذي حفظ التعددية الطائفية والقومية في الشرق، بينما حلت، حيثما غاب هذا التنظيم، الحروب الدينية ورفض التعددية وتشابك السلطة الدينية والزمنية، وتعسف السلطة الفردية التي تبيح لنفسها التلاعب بمصالح الأفراد والجماعات من دون رقيب ولا حسيب حسب حاجتها ومصالحها.
لكن الأمر اختلف كثيراً مع نشوء المجتمع السياسي الحديث الذي يفترض أن السلطة مستمدة فيه من الشعب بأكمله، وأن علاقة الأفراد مع الدولة علاقة مباشرة لا تمر بوسيط طائفي، وأن كل فرد هو في الوقت نفسه مواطن، أي مسؤول، وله حق المشاركة في صوغ السياسات المتبعة. وللمشاركة هذه أثر مباشر على تقرير المصير العام. وبنوعية هذه المشاركة تتحدد طبيعة السلطة القائمة، ويتوقف مستقبل السياسة نفسها، وربما استمرار الدولة أو عدم استمرارها كإطار وطني جامع، في ما وراء التمايز بين الجماعات الأهلية. ولا يعتمد الحفاظ على وحدة الدولة والجماعة السياسية هنا على وجود حاكم مترفع يقف موقف الحكم من جميع المصالح والتجمعات والأفراد، ويقضي في شؤونهم، كما هو الحال في الممالك والسلطنات القديمة، لكن على اختيار المواطنين أنفسهم، وصحة هذا الاختيار. فأي تأثير على الناخب أو المواطن المشارك في تقرير المصير العام، سواء عبر شراء الأصوات أو استخدام الولاءات الدينية والأقوامية، يعطل الهدف من الاختيار، ويفسد السياسة والدولة الحديثتين، بقدر ما يسمح بتكوين مراكز قوى أهلية داخل الإدارة السياسية تعمل على خدمة المصالح الخاصة، وتمنع من التعبير الشفاف عن إرادة المجتمع الكلي، أو من ترجمة وحدته، من حيث هو إطار سياسي قانوني يجمع بين أعضاء متساوين وينشئ بينهم مصلحة مشتركة، لا من حيث هو مجتمع أهلي يبحث فيه كل فرد عن مصالح خاصة. إن الطائفية ترد السياسي إلى الأهلي وتلغي إمكانية نشوء دولة من النوع الوطني الحديث.
فإذا كانت الدولة الإمبراطورية تقوم على عقد بين طوائف وجماعات متباينة ومتمايزة، يجسده التسليم لملك حكم، هو رمز السياسة والسلطة بامتياز، وظيفته السهر على استمرار التوازنات واحترام المقامات، وكان يطلق عليه اسم العدل، فإن الاجتماع السياسي الحديث، يقوم على عقد بين أفراد أحرار ومستقلين يجسده دستور واحد يخضع له الجميع، بما في ذلك الرئيس أو الحاكم، مضمونه المشاركة المتساوية في تسيير شؤون الدولة الجامعة. وموضوع الصراع الرئيسي في هذا النظام هو انتزاع الحق في المشاركة من قبل الجميع وسعي البعض إلى حرمان هؤلاء وأولئك منه أملاً في احتكار قسم أكبر من موارد الدولة. لذلك فكل ما يلغي المنافسة الحرة على مناصب المسؤولية، يهدد هذا العقد الوطني ويقود إلى تقويض أسس الدولة الحديثة واستقرارها، بقدر ما يعطل آلية بناء الصعيد العمومي أو المعبر عن عمومية الدولة وقدرتها على الارتفاع فوق جميع المصالح الخاصة والجزئية.
لا دولة مع الطائفية، وليست الدولة الطائفية دولة بالمعنى الحقيقي، بقدر ما هي فوضى سياسية وحرب أهلية، قائمة أو مؤجلة.
وأصل مفارقة الطائفية أن الحداثة السياسية تعمم فكرة المشاركة الفردية، وما تتضمنه من اعتراف بالحرية والمساواة، في الوقت الذي لا تزال فيه شروط تحقيق هذه المشاركة غير متوفرة عملياً، إما بسبب تأخر مؤسسات الدولة أو ضعف الثقافة السياسية عند الأفراد أو بسبب التوزيع الصارخ في تفاوته للموارد المادية والمعنوية، أو بسبب طبيعة العلاقات الجيوسياسية والجيوستراتيجية. وهذا ما يخلق تفاوتاً أو فراغاً تستفيد منه الأطراف الأقوى في المجتمع لاختطاف الدولة والتلاعب بالرأي العام وقطع الطريق على مشاركة الآخرين أو الالتفاف على حقهم في المشاركة المتساوية من خلال تعبئة العصبيات البدائية. هكذا يحول تأخر المجتمع المدني وضعف منظماته، دون الرأي العام وممارسة دوره في ضبط السلطة التي تراكمها الدولة الحديثة. وهو ما يجعل من هذه الدولة، بعكس وظيفتها الأصلية، أفضل أداة في يد جماعات المصالح للتحكم بالمصير العام وفرض أجندتها الخاصة، والإمساك بمؤسسات الدولة والمجتمع من الداخل لتفريغها من محتواها العمومي، وتقويض أسس العملية السياسية.
يقود هذا الوضع إذا استمر من دون أن تنجح المجتمعات في استعادة سيطرتها على الدولة والتحكم فيها إلى تحويل البلاد إلى مزرعة خصوصية لأصحاب السلطة والنفوذ وشبكات المصالح المتحالفين مباشرة أو ضمناً مع زعماء الطوائف والعشائر والجماعات القومية، وفي أعقاب ذلك وكنتيجة له، إلى إشعال فتيل حرب أهلية مستمرة، كامنة أو علنية، تتغذى من إرادة السيطرة المطلقة للجماعات الحاكمة ونزوع الجماعات الأخرى إلى منعها من الاستئثار بالثروة، أو إلى الطموح للاستئثار بها مكانها. وما لم تبرز قوى جديدة تخترق العصبيات المتحاربة التي تلعب على نزاعاتها شبكات المصالح المافيوية، وما لم يتكون رأي عام مدرك لأن الدولة ليست إطار تقاسم المغانم، وتنمية المصالح الخاصة وتعظيمها، وإنما هي، بالعكس، الإطار الوحيد لتجاوزها، وبناء فضاء العمومية، القانوني والإنساني، الذي لا قانون ولا نظام ولا سلام من دونه، سيكون من الصعب الخروج من الحرب الأهلية. ذلك أن كل صيغة للاقتسام يفرضها ميزان قوى قائم، ستكون معرضة بالضرورة للنقض من قبل القوى والجماعات التي خسرت في الجولة السابقة.
فالمطلوب للخروج من الحرب ليس قسمة عادلة للدولة، على منوال التوزيع الطائفي للحصص، ولكن بالعكس رفع الدولة عن مبدأ القسمة نفسه، وتحويلها إلى إطار الاستثمار المشترك في الأخوة الوطنية والإنسانية، أي بناء دولة المواطنة والمواطنية. فليس هناك دولة مع الطائفية، وليست الدولة الطائفية دولة بالمعنى الحقيقي للكلمة، بقدر ما هي فوضى سياسية دائمة وحرب أهلية، قائمة أو مؤجلة.