صفحات سوريةعمر قدّور

التوافق اللبناني” المطلوب سورياً


 

عمر قدّور (*)

 

كَثُرَ في الفترة الماضية الحديث عن “التوافق اللبناني”، وكثر الداعون إليه، ولم يشذّ الخطاب الرسمي السوري عن هذه القاعدة، فبإمكان دمشق أن تبرز كل التصريحات الصادرة عنها والمؤيّدة لما يتفق عليه اللبنانيون، أو ما يتوافقون عليه، ولن تكون المفردات هنا بالغة الأهمية إذ تستطيع دمشق أن تضمّ إلى الزمرة نفسها دعمها لما “يُجمع” عليه اللبنانيون، وهذه إحدى الصيغ العجيبة التي رُوِّجت. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: أي توافق تريده دمشق؟ ثم ما هي قدرة الحكم في سوريا على بناء توافق لبناني؟ وفي سؤال مقلوب: ما هي قدرته على عرقلته؟

تعطينا معركة الرئاسة اللبنانية بعض الأجوبة عن الأسئلة السابقة، فلم يكن هناك أقرب من الرئيس إميل لحود إلى الحكم في سوريا، حتى أن التمديد له كلّف السلطات السورية غالياً، ومع هذا أمكن في الظروف اللبنانية السائدة منذ عام 2005 إقصاء الرئيس لحود عن القرار اللبناني، إلى حدّ بدا فيه الفراغ الذي تلا رحيله عن قصر بعبدا فراغاً شكلياً، لأن منصب الرئاسة شاغر فعلياً منذ خروج القوات السورية من لبنان. وبهذا المعنى خسرت دمشق موقع الرئاسة اللبنانية سلفاً، ولم يعد باستطاعتها فرض بديل مناسب لها، أي أن فرصة وجود رئيس مقرّب من سوريا في بعبدا معدومة فعلياً، وهكذا فإن أقصى ما تطمح إليه دمشق من التوافق هو بقاء موقع الرئاسة معطَّلاً، وعلى نحو يتيح لها الخروج بأقل الخسائر، وبالطبع فهي لن تمنح الرئيس الجديد ما لم تمنحه من قبل. قد يملك الحكم السوري حقاً متواضعاً بالاعتراض على رئيس يمثّل تحدياً له، لكن من الواضح أن حقّ الانتخاب ممنوع عليه دولياً. والواقع أن معركة الرئاسة اكتسبت بعداً رمزياً يفوق دلالاتها الواقعية، كونها لن تغير الواقع على الأرض، أو تبدل في حجم القوى اللبنانية الناخبة، فالاستعصاء اللبناني الحالي لا يُحلّ بأية انتخابات، بما في ذلك الانتخابات البرلمانية التي تنادي بها بعض الأطراف. وواقع الاصطفاف الحالي يضع الدور السوري في أعلى ما يمكن الوصول إليه حالياً، لأن التوافق الممكن يتطلب من حلفاء دمشق الابتعاد عنها، والاقتراب ولو بخطوة من الأطراف المناوئة للسلطات السورية، ومن غير المنطقي أن يشجّع السوريون خطوة من هذا القبيل، ما يدفع إلى القول إن الثقل السوري الحالي في لبنان يكرّس الواقع، ولا يسعى إلى تغييره، أما الاضطرار إلى تسهيل الاستحقاق الرئاسي تحت الضغوط الدولية فلا يعبّر عن استراتيجيا سوريّة بخصوص لبنان، ولا يعبّر عن تغير عميق في فلسفة العلاقات اللبنانية السورية.

إن عدم وجود تغير جوهري لا يعني بقاء لبنان في موقعه من معادلة الحكم في سوريا، فقد اعتاد الحكم السوري طوال ثلاثة عقود على الدخول في اللعبة الإقليمية وقبض الثمن في لبنان. فعلى سبيل المثال كان دخول القوات السورية إلى لبنان في جانب من الجوانب ثمناً لانسحاب السوريين من الشأن الفلسطيني، والمساهمة في تحجيم منظمة التحرير الفلسطينية، كما كان عهد الوصاية الذي تلا اتفاق الطائف ثمناً للمشاركة السورية في حرب الخليج الثانية. في مقلوب لذلك تلعب السياسة السورية الحالية على التكسب من لبنان بعرقلة العملية السياسية فيه، وهي بذلك لن تقبض الثمن في لبنان، والواقعية السياسية تدلل على عدم إمكانية العودة إلى زمن انتهى من السيطرة والوصاية السورية فهذه مجرد أحلام، لذا فإن الثمن سيتم قبضه سوريّاً، ولن تسمح القوى الدولية الفاعلة بأكثر من تقديم جوائز ترضية صغيرة للحكم السوري ما دام ممسكاً بجزء من الشأن اللبناني، والفلسطيني مؤخراً، على هذا النحو. إن صفقة إقليمية كبرى وحدها الكفيلة بإقناع دمشق بالانسحاب النهائي من الشأن اللبناني، لذا فأي تنازل سيكون تنازلاً مؤقتاً، وعلى سبيل التهدئة أو الهدنة، أملاً في كسب الوقت وتحسين شروط التفاوض في ملفات أخرى. وعلى ذلك فالمضي في العملية السياسية اللبنانية لا يحقق مصلحة في الوقت الراهن، وعلى العكس من ذلك سيكون إبقاء التوازن اللبناني هشّاً من مصلحة الحكم السوري.

من ناحية أخرى جرّبت دمشق أقصى ما يمكن من الضغط على الحكومة اللبنانية، ولم يأت الضغط بالنتائج المرجوّة، ولم يبقَ من ورقة للتلويح بها سوى إغلاق الحدود السورية اللبنانية، وقطع العلاقات نهائياً، وهي ورقة سورية تقليدية، إنما للضغط لا للاستخدام. وقد برهنت الفترة الماضية على محاذير استخدام حدود قصوى من الضغط، حتى من دون الوصول إلى القطيعة التامة. فمن ناحية أثبتت محاولات الترهيب فشلها، ولم تثنِ قوى الرابع عشر من آذار عن المضي في نهجها المستقلّ عن الإرادة السورية، بل إن محاولات الترهيب دفعت بعض الأطراف إلى التصلّب أكثر في مواقفها، بعد أن كانت على استعداد لطيّ صفحة الماضي مع النظام السوري. ومن ناحية أخرى فالسلطات السورية مضطرة إلى مراعاة حلفائها في لبنان، وأي ضغط من قبيل إغلاق الحدود لا يمسّ فقط فريقاً دون فريق، وإنما يمسّ الشعب اللبناني بأسره، لذا فالقطيعة تعني نوعاً من الضغط على الحليف اللبناني، وتأثيراً سلبياً على صورته أمام جمهوره، أكثر مما تضغط على الفريق الآخر. صحيحٌ أن الجغرافيا تحكم لبنان بعدم وجود منافذ برية له حالياً إلا عبر سوريا، لكن تأثير الجغرافيا لم يعد قطعياً بعد التطور الهائل في وسائل المواصلات، كما أن المصالح موزعة على طرفي الحدود وليست من الطرف اللبناني فقط، وعندما تصدر التهديدات الإعلامية بإغلاق الحدود فإن العقلاء السوريين يتساءلون عمّا إذا كان الغرض هو دفع اللبنانيين إلى البحر أم باتجاه المنفذ البري الآخر؟!.

على صعيد آخر سيكون من شأن المأزق الذي يعيشه الحكم في سوريا أن يدفعه إلى التشبّث بما يملك من أوراق في لبنان، فثمة مرحلة ذهبية من الحضور الإقليمي القوي قد فات زمنها، ونشير عربياً إلى تداعي ما سُمّي بالمحور الثلاثي “السعودي المصري السوري”، وداخلياً ثمة إفلاس سياسي بحيث يلجأ الحكم إلى اجترار أدواته المتوارثة. وبعد تضاؤل حرية اللعب في الساحة العراقية لم يبق عملياً سوى الساحة اللبنانية كمفتاح للعبة الإقليمية والدولية. وقد كان من سوء طالع اللبنانيين أن انفتاح الحكم السوري على السياسة الدولية تأتى عبر دخول الجيش السوري إلى لبنان، ومن ثم أتى الانسحاب الاضطراري للقوات السورية ضمن سياق عزل وتحجيم الدور السوري، وبهذا أضحى لبنان بمثابة “درّة التاج” التي إن تمّ التخلي النهائي عنها فهذا يعني انهيار المنظومة السياسية كاملة للحكم، وكأن الحكم السوري يخوض على الساحة اللبنانية معركة بقائه، وبأدوات لبنانية. من هنا فالمسألة لا تتوقف عند ما وصف بالانسحاب المهين للقوات السورية، بل تتجاوزها إلى الوضع السوري برمته، ولا يخفى على المتابع أن هذا النوع من الأنظمة قد وصل إلى طريق مسدود، كما أن الثروات السورية قد تم استنزافها ما ينذر بمزيد من التدهور، وعلى هذا فتجفيف النفوذ الإقليمي للحكم يعني دفعه إلى مواجهة أزمات داخلية مستعصية حاول على الدوام تجنب معالجتها.

تحيلنا مجموعة العوامل السابقة إلى نوع التوافق اللبناني المطلوب سورياً. وبالطبع لا نستطيع التحدث عن استقرار لبناني منشود، لأن الاستقرار يتطلب أن تُترك الآليات الداخلية اللبنانية لتعمل وفق المتطلبات المحلية، ولا يشير الوضع الراهن إلى تحقق الحد الأدنى المناسب لذلك، خصوصاً مع وجود ملفات سورية لبنانية عالقة، وكلّ منها قابل لتفجير أزمة جديدة. فأولاً هناك المحكمة الدولية في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ومن ثم هناك قضايا الحدود وضبطها، وتنفيذ القرارات الدولية عامة. لقد راكمت العقود الثلاثة الماضية الكثير من الاستحقاقات في العلاقة بين البلدين، وكما كان عهد الوصاية مكلفاً يبدو أن فضّ الاشتباك بين “المسارين” سيكون عسيراً بدوره، مع عدم توفر النية من أجل معالجة مستديمة للقضايا العالقة، ومن المؤسف أننا لا نستطيع أن نستبشر بحلّ قريب. وعلى العكس من ذلك ما يُخشى منه هو أن تستقر العلاقة بين البلدين على هذا النحو المأزوم، وهي خشية مفهومة من الجانب اللبناني الذي باتت معاناته معروفة، ويبقى أن نذكّر بمعاناة السوريين وهم يرون الملفات الإقليمية تطغى على تطلعاتهم إلى مستقبل أفضل، وربما أيضاً علينا أن نذكّر بأن السوريين، أسوة بأشقائهم اللبنانيين، هم الذين دفعوا الثمن كلّ مرة.

 

(*) كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى